الدبور – تمر اليوم ذكرى إغتيال سليمان خاطر صاحب آخر رصاصة وطنية مصرية أطلقت على الإحتلال الإسرائيلي في الأراضي المصرية، منذ ٣٥ عاما، ومازال الغموض يلف قضية تصفية هذا البطل المصري الذي دافع عن وطنه وعن شرفه وكرامة كل مصري، ولكن وطنه سجنه وحاكمه وأغتاله لعيون عدو وطنه.
ومع غروب شمس 5 أكتوبر/تشرين الأول عام 1985. أطلق الجندي المصري، الرقيب “سليمان خاطر” رصاص بندقيته صوب مجموعة من الإسرائيلين حاولوا تخطي نقطة حراسته في منطقة رأس برقة جنوب سيناء. وفي صبيحة 7 يناير/كانون الثاني 1986. أي بعد عام و3 أشهر، أعلنت الإذاعة المصرية “انتحار” الجندي صاحب الـ24 عاما. داخل زنزانته، في قضية لا يزال يكتنفها الغموض، بين سلطة وصفته بـ”المجنون”، وشعب قلَّده أوسمة “الشجاعة والشرف”.
ورغم مرور 35 عاما على هذه الأحداث. لكن قصة “سليمان خاطر”، لا تزال عالقة في الوجدان المصري، مع سؤال ليست له إجابة قاطعة: “من قتل خاطر؟”، و”هل قتله وهم الندية أم جسارة الوطنية؟”، و”هل أودى بحياته رصاص السلطة. أم العدو، أم رفاقه الذين فضوا التظاهرات المطالبة بالإفراج عنه، ليقتله الصمت الذي كبل ألسنة المصريين لعقود طويلة؟”.
ولكن من هو سليمان خاطر؟
ولد “سليمان محمد عبدالحميد خاطر”، عام 1961، في قرية “إكياد البحرية” التابعة لمحافظة الشرقية (دلتا النيل/شمال). في أسرة بسيطة وكان أصغر إخوته. في ربيعه التاسع وتحديدا صبيحة الأربعاء 8 أبريل/نيسان 1970. اخترقت آذان الفتى أصوات قصف طائرات الفانتوم الإسرائيلية، التي دكت مدرسة “بحر البقر” المجاورة لقريته. في هجوم حول 30 تلميذا إلى أشلاء، وأصاب 50 آخرين.
وفي روايتها عن الواقعة، قالت شقيقة “سليمان”، في لقاء تليفزيوني سابق. إن “سليمان كان يجري بسرعة عقب سماعه بالحادث، وعاد مذهولا من هول ما رآه، ولم يذق النوم ليلتها”. آنذاك ركض الطفل نحو “بحر البقر” ليحتفظ هناك بمشهد دموي ظل في ذاكرته 15 عاما.
كبر الولد وكبرت معه معانٍ أخلاقية كثيرة من ضمنها التضحية والولاء. وبعد أن أنهى تعليمه الثانوي التحق بالخدمة العسكرية الإجبارية، وجاء تجنيده في وزارة الداخلية ضمن قوات الأمن المركزي. ليصبح الجندي “سليمان”، صاحب أول الرصاصات المصرية وآخرها في قلب الإسرائيليين منذ توقيع اتفاقية السلام بين بلاده وإسرائيل عام 1979.
كان “خاطر”، متطوعا في قوات الأمن المركزي التي تتبع الشرطة المصرية. قبل أن يصبح قائدا للنقطة 46 التابعة لقوات الأمن المركزي في منطقة رأس برقة بسيناء. بعد التوقيع على اتفاقية كامب ديفد مع إسرائيل، التي قضت بانسحاب كل القوات العسكرية وإخلاء المنطقة من الأسلحة الثقيلة والمعدات العسكرية كالدبابات.
وكعلامة فارقة في التاريخ. كان “خاطر” أحد أهم الأسباب في تغيير قوانين الالتحاق بقوات الأمن المركزي المصري، باقتصار التجنيد فيه على “الأميين” فقط.
ومع غروب 5 أكتوبر/تشرين الأول 1985. صرخ الجندي الحاصل على شهادة جامعية في القانون (ليسانس الحقوق)، بلكنته المصرية 3 مرات “stop.. no passing” (توقفوا.. ممنوع العبور) من أعلى تبة خلال نوبة حراسته بسيناء، في مجموعة من السياح الإسرائيليين تضم 12 شخصا حاولوا التسلق نحوه.
إقرأ أيضا: ضغوط سعودية إماراتية مصرية أردنية لعرقلة مصالحة فتح وحماس وتعطيل إجراء الانتخابات
لم يكترث السائحون الإسرائيليون وقتها، وتمادوا في السخرية منه. فأطلق رصاصات في الهواء فلم يتوقفوا، عندها قتل 7 منهم، وسلم نفسه بعد الواقعة. اعتقد “خاطر”، وقتئذ أن المعاهدات تبرم بين ندين، وأن من يتجاوز عليه أن يتحمل الثمن، لذلك سلّم نفسه للسلطات مقرا ومؤمنا بما فعله.
وما كان يدري أن الرصاص سيأتيه من الخلف في زمن السلام. لتحوله قيادته إلى المحكمة العسكرية بقرار جمهوري من الرئيس المخلوع “حسني مبارك”. بدلا من القضاء المدني، وفق ما ينص عليه الدستور في محاكمة الشرطيين.
كانت المجموعة الإسرائيلية، تضم “نساء عاريات وأطفالا ورجلا”، وفق أقوال “خاطر” في التحقيقات العسكرية التي جرت معه لاحقا.
وفي أقواله أمام المحقق، قال “خاطر”: “أنا رجل واقف في خدمتي وأقوم بواجبي، ولدي أجهزة ومعدات لا يجب أن يراها أحد، والجبل من أصله ممنوع أن يصعد عليه أي شخص سواء مصري أو أجنبي”.
وتساءل موجها حديثه للمحقق: “أنتم قلتم ممنوع ليه؟ قولوا لنا نسيبهم وإحنا نسيبهم”، ليسأله المحقق: “لماذا يا سليمان تصر على تعمير سلاحك؟”، فيرد: “لأن الذي يحب سلاحه يحب وطنه والذي يهمل سلاحه يهمل وطنه”. وعندما سأله المحقق: “بماذا تبرر حفظك لرقم سلاحك؟”، أجاب “خاطر”: “لأني أحبه كما أحب كلمة مصر تماما”.
وقبل النطق بالحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، في 28 ديسمبر/كانون الأول 1985، قال “خاطر”: “لا أخشى الموت ولا أرهبه إنه قضاء الله وقدره، لكنني أخشى أن يكون للحكم الذي سوف يصدر ضدي آثار سيئة على زملائي، تصيبهم بالخوف وتقتل فيهم وطنيتهم”. ليعقب بعد الحكم بالقول إن “هذا الحكم هو حكم ضد مصر، لأني جندي مصري أدى واجبه”.
كان الشارع ملتهبا بالتظاهرات الداعمة لـ”خاطر” والرافضة لإدانته أو محاكمته من الأساس، وتصدت لها قوات الأمن، في حين انطلقت الصحف الرسمية وشبه الرسمية في الدفاع عن موقف النظام.
وتمادت تلك الصحف بأن نشرت ما قيل إنه تقرير عن الحالة النفسية لـ”خاطر”، حيث اتهمته بالجنون، زاعمة أن التقرير النفسي له أثبت أنه “مختل نوعا ما”.
وذكرت: “كان الظلام يحول مخاوفه إلى أشكال أسطورية خرافية مرعبة تجعله يقفز من الفراش في فزع، وكان الظلام يجعله يتصور أن الأشباح تعيش في قاع الترعة، وأنها تخبط الماء بقوة في الليل وهي في طريقها إليه”.
ويبدو أن محاولة إثبات جنون الجندي المصري، لم تكن رغبة في تبرئته لاحقا؛ بل لتجريد فعلته من القيم الوطنية وتهيئة الرأي العام للنهاية.
الوطن يحاكم سليمان خاطر
ولاحقا تم ترحيل “خاطر”، إلى السجن الحربي بمدينة نصر (شرقي القاهرة)، ليكتب في رسالة مسربة ما يفكر فيه قائلا: “أفكر في مصر أمي، أتصور أنها امرأة طيبة مثل أمي تتعب وتعمل مثلها، وأقولها يا أمي أنا واحد من أبنائك المخلصين، من ترابك ودمي من نيلك”. ومن السجن الحربي، جرى ترحيل “خاطر” إلى مستشفى السجن لمعالجته من البلهارسيا.
وبعد 9 أيام فقط من الحكم عليه بالمؤبد، أعلنت وسائل الإعلام خبر انتحار “خاطر”، وقال بيان رسمي إن “خاطر” استخدم غطاء من النايلون مخصصا للسرير كي يشنق نفسه، بينما أكدت مجلة “المصور” (رسمية)، أن الانتحار تم بملاءة قماشية. فيما ذكر تقرير الطب الشرعي، أن الانتحار تم بقطعة قماش من النوعية التي تستعملها قوات الصاعقة.
وقال شقيق “خاطر”، إن أسرته طالبت بإعادة تشريح الجثة عبر لجنة مستقلة، لكن السلطات رفضت، مؤكدا أنه لاحظ آثار تعذيب على الجثة قبل دفنها.
واستبعدت أسرة الجندي الراحل، أن يكون ابنها انتحر بسبب التزام ديني، أو عدم اتزان نفسي، لأنه كان يعتقد أن السلطة ستفرج عنه بعد فترة قصيرة، كما أنه طلب قبل يوم واحد من وفاته كتبا في مجال القانون استعدادا لاستكمال دراسته الجامعية، حيث إنه كان طالبا بكلية الحقوق “نظام الانتساب”.