الدبور – بعد سنوات من الخصومة وتبادل الاتهامات بين إيران وعدد من الدول الخليجية، بدأت سلطنة عُمان الوسيط المؤثر تحريك المياه الراكدة من خلال وساطة إقليمية ودولية بين طهران وواشنطن من جهة ودول مجلس التعاون من جهة أخرى.
وتأتي هذه الوساطة بعد الحديث عن وجود مفاوضات مكثفة تجريها السعودية مع مليشيات الحوثي التي تدعمها إيران في اليمن، بهدف التوصل إلى وقف لإطلاق النار وإنهاء الحرب التي بدأت في 2016 وكلفت الرياض الكثير.
ولم تتوقف محاولات عُمان إنهاء الخلافات الخليجية الإيرانية، إذ تسعى إلى عقد مؤتمر شامل لجميع الدول المعنيَّة بمنطقة الخليج، بمشاركة إيران؛ للحوار والتفاهم، خاصة في ظل الحديث عن مصالحة خليجية داخلية، وإنهاء حصار قطر.
وكانت آخر جهود السلطنة في جمع الخليج بإيران، زيارة وزير خارجيتها يوسف بن علوي لطهران، الاثنين الماضي، وعقد لقاء مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف، وتأكيد أن أوضاع المنطقة “بحاجة إلى مزيد من الحوار والتفاهم”.
ويبدو أن مسقط تسعى من خلال دبلوماسيتها الهادئة والمؤثرة إلى فتح خطوط جديدة للتفاوض بين إيران والولايات المتحدة، بعد تدهور العلاقات بينهما عقب انسحاب الأخيرة الأحادي من الاتفاق النووي الموقع في 2015، والذي يضع قيوداً على البرنامج النووي الإيراني مقابل تخفيف العقوبات الدولية عليها.
وتأتي الجهود العُمانية بعد فترة من التوتر عاشها الخليج والمنطقة، إذ تتهم واشنطن وعواصم خليجية، خاصةً الرياض، طهران باستهداف سفن ومنشآت نفطية خليجية وتهديد الملاحة البحرية، وهو ما نفته إيران، وعرضت توقيع اتفاقية “عدم اعتداء” مع دول الخليج.
المحلل السياسي، أنور القاسم، يؤكد أن العلاقة الثنائية بين عُمان وإيران عُرِفت -ولا تزال- باستثنائيتها وتمايزها عن بقية بلدان الخليج العربي، ولها تأثير مباشر في الأمن القومي الخليجي.
وتمر إيران بأزمة وجودية -حسب القاسم- وهي بأمسّ الحاجة إلى دول الخليج، خاصةً أنها تواجه تململاً داخلياً غير مسبوق، وممنوع عليها بيع نفطها، وتتعرض لأقسى عقوبات في تاريخها، حيث أصبحت منبوذة دولياً.
ويستدرك “القاسم” بالقول: “كذلك تمر دول الخليج بانقسامات غير مسبوقة وبتشتت في سياساتها الإقليمية، إذ أثرت في جميع مناحي الحياة بدول المنطقة، اقتصادياً وسياسياً، بل سيادياً أيضاً”.
كما يعتبر أن من الحكمة الشديدة إعادة النظر في السياسات القائمة، وإيجاد قواسم مشتركة بين هذه الدول لوقف التناحر، الذي لم يقُد إلى شيء سوى إضعاف دول المنطقة وشعوبها واستنزافها من الخارج.
ويردف المحلل السياسي قائلاً: “إذا قُيِّض لهذه الوساطة النجاح، فإن على إيران أن تثبت أنّها جادة بالأفعال لحماية أمن المنطقة عن طريق دولها بعيداً عن القوى الأجنبية”.
كما شدد في هذا الصدد على أن “هناك أماكن عدّة تستطيع القيادة الإيرانية أن تثبت فيها أنها مستعدة للانتقال من الكلام الجميل إلى الأفعال الملموسة، أولها البدء بأمن الخليج مروراً باليمن، وانتهاءً باحترام حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليج”.
وعن أهمية الوساطة العُمانية، يشير إلى أن “جميع دول المنطقة بحاجة إلى الحوار لحل الإشكالات المزمنة والراهنة”، معتبراً أن “الآن هو الوقت الأمثل للتعاطي مع المسائل العالقة، ووحدة الصف الخليجي هي الضمانة”.
ولضمان نجاح الوساطة، يرى أن “حل الخلافات بين الدول يجب أن يعتمد على الدبلوماسية المرنة، والحوار، والاستفادة من التجربة القطرية التي تعد رائدة في هذا المجال، والبناء عليها”.
وتاريخياً، بذلت السلطنة عديداً من الوساطات الدولية، كان أبرزها إخراج أبناء الجاليات والدبلوماسيين الأمريكيين والفرنسيين والألمانيين وغيرهم من بعض الدول من اليمن، ونقلهم عبر مسقط ثم إلى بلدانهم آمنين.
وتعددت الوساطات العمانية بدءاً من تبادل الأسرى إبان حرب الخليج الأولى، والمساعدة في تحرير الأسرى المصريين المحتجزين لدى إيران خلال سنوات الحرب مع العراق.
وقادت الخارجية العُمانية وساطة لتحرير بحّارة بريطانيين كانوا محتجزين لدى طهران عام 2007، ثم في 2011 أُفرج عن رهائن أمريكيين، وكذلك الإفراج عن رهائن محتجزين في اليمن.
وكانت أبرز الوساطات التي تدخلت فيها السلطنة، الإسهام في خروج الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي إلى السعودية.
وسبق أن استضافت عُمان محادثات علنية في نوفمبر 2014، بين الولايات المتحدة وإيران، وهي المباحثات الثلاثية التي ضمت إلى جانب ممثلي البلدين، منسقة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي سابقاً كاثرين آشتون، بهدف إزالة نقاط الخلاف العالقة، للوصول إلى اتفاق نهائي بشأن البرنامج النووي الإيراني.
ونجحت مسقط بعد إجراء محادثات سرية طويلة بين الولايات المتحدة وإيران، في توقيع الاتفاق النووي في يوليو 2015، بين إيران والدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن (روسيا والولايات المتحدة وفرنسا والصين وبريطانيا)، وألمانيا.
من جانبه يرى الأكاديمي العُماني المتخصص بالشؤون الاستراتيجية عبد الله الغيلاني أن “الدبلوماسية العمانية، كما المؤسسة الأمنية، تؤدي أدواراً نشطة هذه الأيام، سواء على صعيد الأزمة اليمنية التي دشنت أطرافها الفاعلة (السعودية والحوثيون) حواراً في مسقط، أو على صعيد العلاقة الخليجية – الإيرانية التي تضطلع مسقط بدور مركزي في تفكيك تعقيداتها”.
وأضاف “الغيلاني” : “رغم أن تموضع السلطنة على خريطة العلاقات الخليجية يؤهلها لأن تؤدي دوراً فاعلاً في الملفات الإقليمية، فإنها لا تزال تجنح إلى الأدوار اللوجيستية: أي نقل الرسائل السياسية وتسهيل اللقاءات، إذ ليس ثمة مبادرة عمانية تلتقي حولها أطراف النزاع”.
كما اعتبر أن “الخلاف في جوهره خلاف سعودي – إيراني، فالكويت وقطر وعُمان لم تعد في حالة اشتباك سياسي مع إيران، أما الإمارات فتربطها بطهران علاقة شراكة تجارية وثيقة العرى، وإن كان موقفها الرسمي المعلن يبحر في اتجاه آخر”.
انفراجة قريبة
صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية كانت نشرت مقالاً للكاتب الصحفي الأمريكي البارز ديفيد إغناتيوس، رصد فيه معلومات خطيرة عن قرب حدوث انفراجة في الأزمات الخليجية، خاصةً علاقة إيران مع السعودية والإمارات.
يقول إغناتيوس: إن “هناك بادرة حوار محتمل بين طهران وحلفائها في اليمن من جهة، والسعودية والإمارات من جهة أخرى، لتخفيف التوترات في اليمن وأماكن أخرى”، موضحاً أن “دول الخليج باتت أكثر انفتاحاً على إجراء محادثات مع إيران وحلفائها جزئياً، لأنها فقدت بعض ثقتها السابقة بالولايات المتحدة، كحامية عسكرية يمكن الاعتماد عليها”.
وعن زيارة وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي لواشنطن الأسبوع الماضي، يوضح إغناتيوس أن هدفها إطلاع الولايات المتحدة على نشاط مسقط الدبلوماسي الجديد المتعلق باليمن، بصفتها “الوسيط” التقليدي بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وإيران من جهة أخرى.
وأردف: “يبدو أن بن علوي أقنع الولايات المتحدة بأن من الضروري تسوية الحرب في اليمن، خاصة بعدما أطلعه على المحادثات الأخيرة بين السعودية والحوثيين الذين تدعمهم إيران”.
ونقل الكاتب الأمريكي عن مسؤولين في أمريكا والإمارات، أن تلك اللقاءات السعودية مع الحوثيين يبدو أنها ستكون خطوة في سبيل التسوية اليمنية.
كما نقل إغناتيوس عن أحد الدبلوماسيين الخليجيين المتابعين للمحادثات السعودية-الحوثية، قوله: “أنا متفائل منذ عام، لكن لم يمكن بإمكاني أن أخبرك بأن السعودية يمكن أن تدخل في أي حوار سلمي، لكني أستطيع أن أقول الآن بكل ثقة، إن السعودية تسعى للحوار السلمي”.
وعن كلام إغناتيوس المبشر والمتفائل بحلّ الأزمات الخليجية، يشير “الغيلاني”، إلى “وجود مزاج تصالحي يتفشى في المنطقة، غير أن عناوين المصالحة لم تغادر مرحلة الأمنيات وتتحول إلى مشاريع سياسية مكتملة الشروط”، كما قال.
وأضاف: “هي لا تزال دعوات تحريضية أكثر منها مبادرات سياسية متماسكة، وفي هذا السياق التصالحي أتت دعوة يوسف بن علوي، الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية العمانية، من طهران، إلى عقد مؤتمر جامع يلتقي فيه الفرقاء من ضفتي الخليج”.
واعتبر الأكاديمي العماني أن “المصالحة بين أطراف خليجية وإيران مرتبطة بعنصرين من عناصر الصراع الإقليمي: الأول الأزمة اليمنية، والثاني تداعيات الصراع الإيراني-الأمريكي، وما لم تحدث اختراقات جوهرية على هاتين الجبهتين، فإن الأمل في المصالحة سيظل ضعيفاً”.
ويشدد “الغيلاني” على أن المزاج التصالحي السائد في المنطقة لم يتحول بعدُ إلى مبادرات مدروسة، وكي يمضي بخطوات رصينة نحو حل سياسي حقيقي لا بد له من شرطين: الأول إكراهات سياسية تدفع الفرقاء كافة إلى طلب المصالحة، والثاني مصلحة أمريكية حقيقية تدفع واشنطن إلى تكثيف الضغط على حلفائها، وهذان الشرطان ليسا متوافرين بدرجة كافية حتى هذه اللحظة، وهو ما يُبقي خطاب المصالحة خطاباً شعاراتياً وليس مشروعاً موضوعياً مكتمل الشروط”.
عن الخليج أونلاين – محمد أبو رزق