الدبور-السلطات في بلداننا تتبع جميعها نسقاً كلامياً واحداً في مواجهة حركات الاحتجاج عليها، أياً كانت، يقوم على فكرة وجود “مندسين” يستغلون التحركات العامة بغاية التخريب. هكذا، بكل بلادة. وبفقر مدقع في الحجج وفي الخطاب.
وأما ما يستفز أكثر من اطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين فهو ذلك الإقرار بأن مطالبهم “مشروعة”، و”عادلة”، وأن السلطات تعمل جاهدة لتلبيتها – أو تعد بذلك – بتكرار عابر للزمن ولا يخجل من الكذب الصريح.
وأما العراق فتحضر فيه بكثافةٍ خاصة كل تلك المعطيات، وهي كثافة متّسقة مع تقاليده وإمكاناته معاً. العراق ثائرٌ على الدوام، منه خرج المتنبي، وهو من دوّخ الحجاج بن يوسف الثقفي الرهيب، الذي قال عن نفسه “أنا رجلٌ لجوجٌ لدودٌ حقودٌ حسود”.
بينما قال في العراقيين خطبته الشهيرة: “والله يا أهل العراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى (…) يا أهل العراق، يا أهل النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق، إنكم طالما أوضعتم في الفتنة…”. والعراق ذاك تمرد على العثمانيين والانجليز، وقاتل الفرس بل وهزمهم مراراً.
والامر المذهل أن ذلك كله – وسواه كثير – حاضر في الوجدان الشعبي العراقي وليس في بطون الكتب فحسب. هو تراث حي، متداول بين الناس، يستولد الشعر الشعبي الغزير، ويقولب الأمزجة، ويصيغ التصور عن الذات. وهذا استوجب على الدوام خشية حكام العراق منه، فلجأوا الى تسييد الرعب وسيلة لضبطه.
والعراق على ذلك بلد هائل الامكانات الاقتصادية، قبل النفط ومن دونه، فهو “أرض السواد”. وهو بسبب كل تلك الخصائص مكان محكوم بامتلاك دينامية خلاّقة وإلا فبالزوال، إذ يضاف الى تلك الخصائص موقعه بين الامبرطوريتين غير العربيتين النافذتين في تاريخ منطقتنا، فصار العراق وكأنه حارس بوابتها الى الجزيرة العربية وبلاد الشام.
ولا يمكن، إذا تمّ تجاهل ذلك، تفسير الحروب الاستعمارية الغربية عليه بقيادة الولايات المتحدة التي أعلنت انها تريد “ارجاع العراق الى العصر الحجري”، ولا تفسير الحقد الصهيوني الفريد حياله (دعكم من التبرير بقصص سبي اليهود وبابل وغير ذلك…).
وقد دمرت فعلاً تلك الحروب بناه. وأما أخطر ما فعلت فهو تمزيقه بفضل ترتيبات سياسية وقانونية مؤسِّسة للفساد (فلسفة “ديمقراطية المكونات” التعسة كنقيض لفكرة الدولة) والتي صحبها تسييد مجموعات من المرتزقة عليه: كانوا مرتزقة عند الامريكان والانجليز فصاروا هم أنفسهم مرتزقة عند إيران، من أحمد الجلبي الى نوري المالكي الى سواهما، ممن عبثوا ويعبثون بالعراق بالغ الثراء، وينهبونه بشكل صريح وبلا حدود..
فصار بلد النفط بلا كهرباء و بلد ما بين النهرين العظيمين بلا ماء صالح للاستخدام البشري (في العام الفائت، أعلنت “المفوضية العليا المستقلة لحقوق الإنسان في العراق”، وهي هيئة رسمية تتبع مجلس النواب، أن إصابات التسمم جرّاء تلوث المياه بين السكان في محافظة البصرة ارتفعت إلى 111 ألفاً!)، وبلد شريعة حمورابي (كتاب القانون الأول في التاريخ المنقوش على ألواح بالحرف المسماري) بلا منظومة تعليم، وصار الناس يموتون من قلة الدواء ومن سوء الاستشفاء.. ومن القهر حتماً.
والعراق يحتل المرتبة 12 عالمياً في لائحة البلدان الاكثر فساداً في العالم بحسب “منظمة الشفافية العالمية”. وفيه تبلغ نسبة البطالة بين الشباب 25 في المئة منهم.
خلال الايام الثلاثة الماضية، منذ انفجر الشباب العراقيون في بغداد والناصرية والعمارة والحلة والنجف والبصرة (بينما لم يجرؤ سكان المحافظات ذات الغلبة السنية على التحرك من فرط استبطانهم للرعب) سقط عشرات القتلى (في الناصرية لوحدها هناك 19 قتيلاً) وأكثر من ألف جريح.
والحبل على الجرّار، لأن السلطات قررت تطبيق جملة اجراءات معاً: قطع الكهرباء والاتصالات والانترنت بالكامل عن البلد – وفق مرصد نت بلوكس NetBlocks المختص بمراقبة التعتيم على الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي – وإعلان منع التجوال حتى “إشعار آخر” (؟!) في بغداد والناصرية والعمارة والنجف ومحافظة بابل، وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين. هكذا بكل بلادة!
ثم وبكل بلادة ايضاً، معطوفة على وقاحة مذهلة وجهل بائس بالعراق والعراقيين، أعلن “مجلس الأمن الوطني” في العراق أنه عقد جلسة طارئة انتهت ببيان يشير الى “دور الإعلام في التوعية بأهمية الحفاظ على أمن البلاد واستقرارها، بتسليط الضوء على الجهود والمنجزات الحكومية المبذولة في المجالات كافة، وكشف الخروقات وأي عملية اعتداء أو حرق أو نهب للمتلكات العامة والخاصة واستهداف القوات الأمنية التي تؤدي واجبها بحماية المتظاهرين بمختلف الوسائل”. هكذا والله!
وأضاف رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، (الذي مرّ في حياته بكل ألوان الطيف السياسي والايديولوجي، فكان بعثيا ثم شيوعياً – أو بالعكس – ثم ليبرالياً ثم إسلامياً) أن “حظر التجول فُرض للحفاظ على النظام العام، وحماية المتظاهرين من بعض المتسللين الذين ارتكبوا انتهاكات ضد قوات الأمن”. هكذا أيضاً والله!
وأما الشعارات التي يرددها المتظاهرون فكلها تدور حول انقاذ العراق من الحرامية الذين ينهبونه ومن بينها “ايران بره بره” الذي انطلق منذ احتجاجات 2015 (حين ساد أيضاً شعار “باسم الدين باگونا – أي سرقونا – الحرامية”).
ويتكرر مذاك في الاحتجاجات التي تنفجر سنوياً، وتستمر لأسابيع، ويسقط فيها عشرات القتلى والجرحى، وتُحرق – كما يحدث الآن – المقرات الحكومية والحزبية، وتعربد بالمقابل الميليشيات المسلحة السلطوية وتستبيح الناس. وهؤلاء، حين يُغلبون على أمرهم، يطوون أرواحهم على قهرهم.. الى أن يعود نهرهم فيطوف.
* نهلة الشهال كاتبة وناشطة لبنانية رئيسة تحرير “السفير العربي”