الدبور – لماذا ينفي أبناء خاشقجي ما يسمى “خطأ” قتل والدهم المغدور، بينما الحكومة السعودية نفسها تؤكد هذا الخطأ؟ ولماذا أصدروا البيان الذي تحدثت عنه واشنطن بوست بعد فترة من الخبر؟
ربما لن ينغلق الحديث عن “تحقيقٍ دولي مستقل” في قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي، طالما وهو رغبة المجتمع الدولي المهتم بالقضية المدوّية، والتي من المفترض أن تكون رغبة ذوي خاشقجي أيضاً، ولكن ما ليس في الحسبان هو إصدارهم بياناً يطرق تساؤلات جديدة عن أسباب الثقة التامة من قِبلهم بالتحقيقات السعودية والقضاء السعودي “غير المستقل”.
البيان أصدره أبناء وبنات الصحفي القتيل اليوم الأربعاء، أكدوا فيه أنهم لم يبحثوا أي تسوية مع النظام السعودي تخص مقتل والدهم، وأعربوا عن ثقتهم بمعاقبة كل المتورطين في الجريمة، وقالوا “إن الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود… وولي العهد الأمير محمد بن سلمان آل سعود… هما رعاة لكافة السعوديين ونحن منهم. وأفعال الحكمة والكرم نابعة من سمو الأخلاق والإنسانية وليست جبراً لخطأ أو ذنب. وبالمقابل تربينا على شكر الجميل وعدم نكرانه”.
من خلال البيان لا يعترف آل خاشقجي بأن قتل والدهم كان “خطأ أو ذنباً”، رغم أن المصادر السعودية التي تحدَّثت لصحيفة واشنطن بوست مطلع أبريل/نيسان الجاري، قالت إن دفع التعويضات لأبناء خاشقجي هو بموافقة الملك سلمان شخصياً في محاولةٍ لـ”إصلاح الخطأ” في إطار مفاوضات الفدية (الدية)، أي إن تعويضات ضخمة كهذه تأتي اعترافاً بفداحة الجرم أو “الخطأ” وفقاً للاصطلاح الرسمي.
ينفي آل خاشقجي “خطأ” النظام السعودي، رغم أن النظام ذاته اعترف أكثر من مرة بهذا الخطأ، ووصفه بأنه “خطأ كبير وجسيم”، كما جاء في تصريحات لعادل الجبير عندما كان وزيراً للخارجية، إذ قال لشبكة فوكس الأمريكية إن قتل خاشقجي “خطأ فظيع. هذه مأساة مروعة”، ووجَّه خطابه إلى أسرة خاشقجي وقال: “نقدم تعازينا لهم. نشعر بألمهم.. للأسف ارتكب خطأ كبير وجسيم وأؤكد لهم أن المسؤولين سيحاسبون على هذا”، وكان تصريحه هذا في أعقاب اعتراف النظام بأن خاشقجي قُتل بالخطأ نتيجة “شجار” مع الجناة أدى إلى وفاته.
هو خطأ جسيم يعترف به النظام السعودي، وينفيه أبناء وبنات خاشقجي في بيانهم الذي نشره الابن الأكبر “صلاح خاشقجي” على حسابه الموثق بتويتر. وإلى جانب النفي، يحوي البيان شكراً وعرفاناً لولي العهد محمد بن سلمان، الذي استغرب المجتمع الدولي مؤخراً عدم اعتراف واشنطن بتورطه في الجريمة.
وفي إشارة ضمنية إلى عدم حاجتهم إلى “تحقيقٍ دولي مستقل”، قال أبناء وبنات خاشقجي في بيانهم: “تتفهم العائلة الرغبة الملحة لدى الجميع لمعرفة حيثيات القضية، وسنقوم بعرض آخر التطورات متى ُسمح بذلك قانونيا”، وأضافوا: “إن إجراءات المحاكمة لا تزال سارية، ونريد أن نؤكد أنه لم يسبق لنا أن ناقشنا، لا سابقا ولا حاليا، أي نوع من التسوية المزعومة، ونود أن نؤكد كورثة جمال خاشقجي… وكأسرة آل خاشقجي أن كل من ارتكب الجريمة أو ساهم أو اشترك أو كانت له أية علاقة سيتم تقديمه للعدالة وسينال جزاءه”.
إجراءات المحاكمة تتم في السعودية، ويتم احتجاز المتورطين في القضية وعلى رأسهم العقيد في الاستخبارات السعودية ماهر مطرب، واللواء المعزول من منصب نائب رئيس الاستخبارات أحمد عسيري، لكنَّه لا يوجد أي توضيح في بيان الأسرة كيف سيتم تقديم كل من ارتكب الجريمة أو ساهم أو اشترك أو كانت له أية علاقة ولايزال قائد العملية المستشار المعزول “سعود القحطاني” والمقرَّب من ولي العهد، طليقاً يتمتع بأداء مهامه في الخفاء كما تؤكد مصادر الرأي العام العالمي، فضلاً عن كون ابن سلمان نفسه متورطاً بصفته الآمر بارتكاب الجريمة.
وكانت الواشنطن بوست قد نقلت عن مصادر لها أن أبناء خاشقجي الأربعة (ابنان وابنتان) تلقوا من مسؤولين سعوديين حاليين وسابقين تعويضات مالية ضخمة شملت منازل بملايين الدولارات في المملكة ومدفوعات شهرية كتعويض عن قتل والدهم، وأنهم قد يتلقون تعويضات بعشرات ملايين الدولارات لكل فرد كجزء من مفاوضات قد تعقب انتهاء المحاكمات في القضية، لضمان استمرارهم في الامتناع عن الإدلاء بتصريحاتهم العامة بشأن مقتل والدهم، وأنه بموجب تسوية أولية سلَّم النظام السعودي لهم منازلَ في مدينة جدة تصل قيمة الواحد منها 4 ملايين دولار، فضلاً عن تعويض شهري قيمته 10 آلاف دولار لكل منهم.
في السياق ذاته يبقى التحقيق الدولي المستقل الشامل هاجساً لدى المجتمع الدولي الذي يبحث عن الحقيقة ويدين النظام السعودي.
وبشأن ذلك علَّقت منظمة العفو الدولية على إعلان وزارة الخارجية الأمريكية، أمس، حظر دخول 16 سعودياً إلى أمريكا – بما فيهم سعود القحطاني – لدورهم في الجريمة، داعيةً إلى إجراء تحقيق أممي مستقل.
وقالت العفو الدولية في بيان لها: “إذا كانت الولايات المتحدة جادة في تولي المسؤولية بشأن كشف ملابسات جريمة خاشقجي، فعلى وزير خارجيتها، مايك بومبيو، أن يطالب بإجراء تحقيق مستقل برعاية الأمم المتحدة، ويساعد في ذلك”، معتبرةً أن “إجراء تحقيق أممي محايد ومستقل هو الذي من شأنه كشف ملابسات الجريمة، ويوصل رسالة مفادها أن المسؤولين السعوديين الضالعين بالجريمة لن يفلتوا من المحاسبة”.
لماذا التحقيق الدولي؟
التحقيق الدولي في قضية خاشقجي، كان محل اهتمام تركيا منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2018، وبعد إعلان تركيا عن رغبتها في التدويل بيوم واحد قامت النيابة العامة السعودية بعقد مؤتمر أعلنت فيه قائمة المتهمين في القضية، في 15 نوفمبر، ورفعت عدد الموقوفين من 18 إلى 21 شخصاً دون ذكر أسماء، ووجَّهت الاتهام إلى 11 منهم وطالبت بإعدام 5 من أصل الـ11 متهماً، وكان المؤتمر محلَّ سخرية من قِبل دول في مقدّمتها تركيا التي استمرت في دراسة تدويل التحقيق.
ولطالما تهرَّبت السعودية من التحقيق الدولي خاصةً مع إجراء محاكمات بحق المتهمين في القضية تُوصف دولياً بأنها “محاكمات صورية” تسعى في المقام الأول إلى إعفاء ابن سلمان من التهمة والمسؤولية الأولى عن الجريمة التي أثبتها تقييم المخابرات الأمريكية “سي آي إيه”.
وجاء التهرب السعودي من التحقيق الدولي دفاعياً عن القضاء السعودي واستقلاليته وقدرته على إثبات العدالة، مع إنكار صفة “التحيُّز” و”عدم الاستقلالية” و”التبعية المطلقة للنظام” وغيرها من الصفات التي تُنسب إليه من قِبل أطراف دولية ومحللين خبراء. ناهيك عن التهرب من تدويل التحقيق بحجة أن القضية شأن سعودي وحدثت بحق مواطن سعودي في أرض سعودية ويجب أن يتم محاكمة الجناة السعوديين داخل السعودية، وهذا ما تكرَّر على لسان رئيس الاستخبارات السابق تركي الفيصل، ثم عادل الجبير عندما كان وزيراً للخارجية.
وبحسب وسائل إعلام تركية ثمة أسباب عدة دفعت تركيا إلى تدويل القضية، أهمها أن تركيا كررت مطالباتها السعودية بتوفير معلومات كمكان جثة خاشقجي وهوية المتعاون المحلي الذي تم تسليمه الجثة، ومن الآمر بتنفيذ الجريمة، وهي الأسئلة ذاتها التي لم تتجاوب معها السعودية وعمل النائب العام السعودي “سعود المعجب” على عرقلتها وعدم التعاون بشأنها أثناء زيارته تركيا وفقاً لتصريحات الأتراك الذين أكدوا عرقلة المعجب للتحقيق.
كما اقتنعت تركيا منذ بداية القضية أن السعودية تتستر على شخصٍ ما يقف مسؤولاً وراء ارتكاب الجريمة، وسبق وألمح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى اتهام ولي العهد محمد بن سلمان دون أن يصرّح باسمه، محاولاً إيصال هذه الرسالة – أثناء خطابٍ ألقاه في أكتوبر – بتبرئة الملك سلمان بفصيح العبارة وتجاهُل ذكر ابن سلمان تماماً طوال الخطاب.
وأثار تقييم المخابرات الأمريكية جدلاً واسعاً، إذ اتهمت الوكالة ابن سلمان بأنه الآمر بقتل خاشقجي، ما حرَّك صفوف الكونغرس وجعل أعضاءه في حالة استنفار مطالبين بوقف الدعم الأمريكي للسعودية في حربها على اليمن، وبمساءلة ابن سلمان مع كافة الجناة، وإعادة تقييم العلاقات الأمريكية السعودية، لقناعتهم التامة بتورُّط ابن سلمان، على نحو ما قاله السيناتور الجمهوري ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ “بوب كوركر” بأن “ولي العهد إذا مَثُل أمام هيئة محلَّفين فإنه سيُدان خلال 30 دقيقة”.
وذلك ما يجعل تركيا أيضاً مندفعةً إلى فتح تحقيق دولي، إذ أن السعوديين ناقضوا أنفسهم بتسترهم على ابن سلمان رغم وعودهم بكشف الحقيقة كاملةً وتقديم كل من تورُّط “كائناً من كان” للمحاكمة، وسبق للملك سلمان أن تعهَّد – في أكتوبر بعد خطاب أردوغان – بمحاسبة “كل المسؤولين أياً من كانوا” وأكد الملك أن “السعودية لن تقف عند محاسبة المقصرين والمسؤولين المباشرين بل ستشمل إجراءات تصحيحية”.
لم يوفِ الملك سلمان بعهده ولم يقدم “كل المسؤولين أياً من كانوا” للمحاكمة، وجرى التستُّر على ولده محمد بن سلمان، وعلى “سعود القحطاني”، إلا أن “الإجراءات التصحيحية” حدثت بالفعل وبدأت بتوجيه الملك بتشكيل لجنة وزارية لإعادة هيكلة رئاسة الاستخبارات السعودية وتحديث نظامها ولوائحها وتحديد صلاحياتها بدقة، ولكن على يد المتورط “بن سلمان” كرئيسٍ لهذه اللجنة.
لاحقاً، وفي 27 ديسمبر/كانون الأول 2018، أصدر الملك حزمة أوامر ملكية قضت بإعادة تشكيل مجلس الوزراء والإطاحة بعدد من الرؤوس البارزة كعادل الجبير، ولكن – أيضاً – مع وجود “بن سلمان” وتولّيه مهمة إعادة تشكيل مجلس الشؤون السياسية والأمنية.
ذلك لم يكن بالنسبة للأتراك إلا إمعاناً في التستر على ابن سلمان الذي يُعتبر لديهم جزءاً من جريمة قتل خاشقجي، ولأن الأتراك يعلمون أن السعودية لن تجيب على أسئلتهم – وفقاً لتصريحات تركية متكررة – رغم ما بحوزتهم من أدلة ووثائق عملت تركيا على تسريبها تدريجياً منذ بداية القضية، فقد اعتقدوا أن الحل الأنسب هو فتح تحقيق دولي لن يكون بالضرورة سبباً في هدم العلاقات التركية السعودية، وذلك ما حدث بالفعل.
فقد سبق أن عقد الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” مع وزير خارجية تركيا مولود أوغلو اجتماعاً مغلقاً بتاريخ 11 ديسمبر 2018، وبدأت الأمم المتحدة منذ ذلك الوقت تنتظر طلباً رسمياً من أي دولة عضو في المنظمة الدولية، بفتح تحقيق دولي، وانتهى الأمر في نهاية المطاف بطلب تركي مؤخراً، وفُتح – في يناير الماضي – تحقيقٌ “إنساني وليس جنائياً” من قِبل مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحالات الإعدام خارج نطاق القانون أغنيس كالامارد.
وفي فبراير/شباط، أعلنت كالامارد وفريقها أن خاشقجي اغتيل بعملية مخطط لها مسبقاً ومنفذة من قِبل “مسؤولين في المملكة”، في إشارة إلى شخص ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وهو ما اعتبره الأتراك متطابقاً مع نتائجهم، وطالبوا الأمم المتحدة بفتح تحقيق شامل في القضية. عن موقع التمكين