الدبور – صحيفة واشنطن بوست الأمريكية والتي تبنت قضية إغتيال المغدور الصحافي جمال خاشقجي وتقطيعه بطريقة بشعة في مقر قنصلية بلاده في إسطنبول، والتي كان يعمل فيها شهيد الكلمة حتى آخر لحظة من حياته قبل أن يغدر به ولي عهد السعودية بن سلمان، نشرت الصحيفة رسالة مؤثرة من بناته إلى العالم الحر.
وجاء في الرسالة التي كتبتها نهى ورزان خاشقجي، بنات المغدور، ونشرتها صحيفة واشنطن بوست العريقة ما يلي:
كان جمال خاشقجي رجلاً معقدًا، ولكن بالنسبة لنا، بناته، كان ببساطة” ابي”، كانت عائلتنا فخورة دائمًا بعمله، وفهمنا الروعة والعظمة والعظمة التي نظر إليها بعض الأشخاص، ولكن في حياتنا كان ” بابا” فقط – رجل محب ذو قلب كبير، لقد أحببناه عندما كان يأخذنا في نهاية كل أسبوع إلى محل بيع الكتب، أحببنا النظر في جواز سفره، وفك رموز مواقع جديدة من صفحات مغطاة بطوابع الخروج والدخول، وأحببنا أن ننقب في المجلات والصحف التي ترتمي على مكتبه.
عندما كنا أطفالاً، كنا نعرف، أيضاً، والدنا كمسافر، فعمله كان في كل مكان، ولكنه عاد الينا دائما بالهدايا والقصص الرائعة، كنا نبقى طوال الليل نتسائل أين كان وماذا كان يفعل، ولكن كان لدينا ثقة أنه بغض النظر عن المدة التي مضي بها، فإننا سنراه مرة أخرى ، وسنكون في انتظاره وعناقه، كنا نعرف منذ الصغر أن عمل والدنا يعني الامتداد خارج عائلتنا ، وأنه كان رجلاً مهمًا، وكان لكلماته تاثير مهم على الأشخاص على مسافة بعيدة.
طوال حياتنا، كان من الشائع أن يوقفنا الناس في الشارع لمصافحة أبي، ليعبروا عن تقديرهم له،وكان أبونا أكثر من مجرد شخصية عامة، فقد لمس عمله حياة الكثير من الناس، وما زال كذلك.
لقد نشأنا مع حب اَبئنا للمعرفة، أخذونا إلى عدد لا يحصى من المتاحف والمواقع التاريخية، وبينما كان يقود سيارته من جدة إلى المدينة وكان أبي يشير إلى مناطق مختلفة ويخبرنا عن أهميتها التاريخية، أحاط نفسه بالكتب وكان يحلم دائمًا بالحصول على المزيد، وفي كل ما قرأه، لم يميز أبداً، واستوعب بالكامل كل رأي ، علمه حبه للكتب أن يشكل أفكاره الخاصة، وعلمنا أن نفعل الشيء نفسه.
كانت حياته عبارة عن سلسلة من التحولات والانعطافات غير المتوقعة، وكنا جميعًا في نفس الرحلة، لا يستطيع الكثير من الناس القول بأنهم قد طردوا من الوظيفة نفسها مرتين بعد بضع سنوات، حيث كان أبي رئيسا لتحرير صحيفة “الوطن”، لكن بغض النظر عما حدث، كان متفائلاً، ورأى كل تحد كفرصة جديدة.
كان لدى أبي بالتأكيد جانب براغماتي، ولكن في أحلامه وطموحاته، كان يسعى دومًا إلى الحصول على نسخة خيالية من الواقع ،هذا، كما نفترض، هو ما ألهم طبيعته الحرجة، كان من المهم للغاية بالنسبة له أن يتكلم، وأن يشاركه آرائه، وأن يكون لديه مناقشات صريحة، والكتابة، بالنسبة له لم تكن مجرد وظيفة، بل كانت إجبارية ؛ كان متأصلاً في جوهر هويته، كلماته تحافظ على روحه معنا، ونحن ممتنون لذلك، يقولون ، “هنا كان رجل عاش الحياة حقا على أكمل وجه”.
عندما كنا في “فيرجينيا” خلال شهر رمضان، أظهر لنا “بابا” العالم الذي بناه لنفسه خلال العام الماضي، قدم لنا الأصدقاء الذين رحبوا به واطلعنا على الأماكن التي يرتادها، ومع أنه كان مرتاحاً بقدر ما جعله محاطاً بمحيطه، فإنه لا يزال يتحدث عن شوقه لرؤية منزله وعائلته وأحبائه..
كما أخبرنا عن اليوم الذي غادر فيه المملكة العربية السعودية، وهو يقف خارج عتبة داره، متسائلا عما إذا كان سيعود من أي وقت مضى، بينما كان أبي قد خلق حياة جديدة لنفسه في الولايات المتحدة، حزن على المنزل الذي غادره، خلال كل محاكماته وسفراته، لم يترك أبداً الأمل، لأنه، في الواقع، لم يكن معارضاً، كان الكاتب متأصلاً في هويته..
بعد أحداث 2 أكتوبر/ تشرين أول، زارت عائلتنا منزل أبي في فرجينيا، أصعب جزء كان رؤية كرسيه الفارغ، كان غيابه يصم الآذان، يمكننا أن نراه جالسا هناك، والنظارات على جبهته، عندما نظرنا إلى متعلقاته، عرفنا أنه اختار الكتابة بلا كلل على أمل أنه عندما يعود إلى المملكة، قد يكون مكانًا أفضل له ولجميع السعوديين.
هذا ليس تأبينا، لأن ذلك من شأنه أن يمنح حالة من الإغلاق، بدلا من ذلك، يعد هذا وعدًا بأن نوره لن يتلاشى أبداً، وأن يتم الحفاظ على إرثه في داخلنا، قال “بابا” : “البعض يغادر ليبقى” ، وهو ما يصح، اليوم، نشعر بأننا قد أنعم الله علينا بروحه الأخلاقية، واحترامه للمعرفة والحقيقة، ومحبته حتى نلتقي مرة أخرى في الحياة القادمة.