الدبور – نشر الكاتب الفلسطيني المعروف سهيل كيوان مقالا بعنوان الصورة الحقيقية لقطاع غزة هذه الأيام، وصف فيه حالة غزة وكيف يراها اليوم مقارنة بأيام النكبة والنكسة والخذلان العربي وضياع فلسطين، وقال كيف يرى شباب غزة اليوم وقارنهم بالجيوش العربية وهي تستسلم بالطاوبير من اجل قارورة ماء أو لقمة خبز، وكيف الحصار زادهم عزة وكرامة.
الدبور لسع المقال وينشره لكم لانه يستحق القراءة والإستمتاع… اليكم المقال:
من عايش هزائم العرب المتكررة، منذ عام 1967 حتى اليوم، وعاش الخذلان مرة تلو المرة، لا بد أن يرى ما وراء الصورة المصبوغة بدماء الشهداء والجرحى في قطاع غزة في هذه الأيام.
هذه الصورة، أنقى وأشرف بكثير من صور رأيناها وعشناها في سنين وعقود مضت، أدمت قلوبنا وحقّرتنا وجعلتنا نتمنى لو لم نولد قبل مشاهدتها.
صور أبناء القطاع اليوم تدعو للفخر والاعتزاز، أكثر بكثير من مناظر الجيوش العربية وهي تستسلم بمئات الآلاف للغزاة وبلا شروط.
إنها صور أشرف ألف ألف مرة، من صور العار للجنود العرب وهم يتقاتلون أمام أقدام الجندي الإسرائيلي للحصول على رغيف أو على زجاجة ماء.
صورة قطاع غزة اليوم أكثر إشراقا مليون مرة من مشاهد راجمات جيوش عربية وهي تدكّ المخيمات الفلسطينية في الأردن في أيلول الأسود، ثم في لبنان.
إنها صور أشرف ألف ألف مرة مما نراه من ممارسات عربية وإيرانية وعربية-عربية بحق السوريين والفلسطينيين واليمنيين والليبيين والعراقيين والأكراد.
لا أشعر بالحزن والأسى، بل أشعر بكبرياء وشموخ هذا الشعب الأعزل، الذي أربك الاحتلال المعربد على دول إقليمية كبيرة، ومن ناحية أخرى أشعر بالقرف من دول وأنظمة لديها جيوش مليونية وعتاد بالمليارات وتجلس على مساحات تبلغ آلاف الأضعاف عن مساحة قطاع غزة، ترتعد ذهولا أمام قوة إسرائيل الغاشمة، خوفا على كراسيها وليس على أراضيها وشعوبها.
ما فعله أهالي قطاع غزة هي صفعة مدوية للقرار الأمريكي الذي بادر إليه الرئيس البلطجي دونالد ترامب، وقالوا، إنه ليس من يقرر مصائر الشعوب في نهاية الأمر.
قالوا له إن بإمكانك أن توبّخ دولا إقليمية عظمى، وأن تذلها، وأن تحصّل الخاوة من دول كبيرة وغنية، وبإمكانك معاقبة دولا عظمى، ولكنك لن تستطيع أن تفرض قرارك على الشعب الفلسطيني الأعزل.
غزة قالت إن الرقم الأصعب في القضايا الدوليةـ ليس نووي إيران ولا نووي كوريا الشمالية، بل قضية اللاجئين الفلسطينيين، ولن يستطيع أحد تجاوزها مهما بلغ من القوة والعظمة، ولا سلام ولا استقرار ما لم تحل قضيتهم حلا عادلا.
غزة قالت لقيادات الشعب الفلسطيني التي ترفض المصالحة والوحدة، إنكم بتّم عبئا على شعبنا الموحد كله في مواجهة الاحتلال، لقد تجاوزكم التاريخ، انزلوا عن المسرح.
قطاع غزة مثّل اليوم طموح وعنفوان الشعب الفلسطيني وأحرار العرب والعالم، الذين لن يرضخوا لأمر واقع ظالم.
قطاع غزة قال إن أصحاب الحق لن يموتوا، وإن الأجيال الصاعدة تعرف أن لها وطنا سليبا ومن حقها المطالبة باستعادته.
قطاع غزة قال إن الصفقات لا يمكن أن تتجاوز أصحاب القضية الحقيقيين، وقال لمن يريد التخلي والتطبيع، اذهب إلى حيثما تشاء فأنت لا تمثل إلا نفسك.
قطاع غزة قال إن الحصار الطويل الأمد لم ولن يُركّعَ أهله، رغم الفقر والبطالة وجوع فئات واسعة منه، ورغم التعامل العدائي من قبل النظام المصري وسلطة رام الله المنسّقة مع الاحتلال، ورغم فساد بعض القوى المتنفذة في قطاع غزة، أهل القطاع أعلنوا الحياة وليس الموت، وشهداؤهم شهداء نور وحق وحياة.
القطاع قال إن الاحتلال يخشى من حجارة العزل، أكثر بكثير من الأسلحة البالستية و”البلاستيكية” المكدّسة والتي ممنوع أن تستعمل إلا لقمع الشعوب.
في كلمته قال بنيامين نتنياهو خلال احتفال افتتاح السفارة الأميركية في القدس “إن هذا يوم عظيم”! كنا سنتفق معه لو ساد الهدوء والصمت والتخاذل من قبل الشعب الفلسطيني، لكنه لايستطيع أن يسميه يومًا عظيمًا، لأنه ووجه بدماء شهداء وجرحى القطاع الزكية، التي قالت باسم شعب فلسطين أنه لن يقبل فرض الأمر الواقع.
دماء شهداء قطاع غزة في هذا اليوم بالذات دمغت عظمة أميركا بالعار، دمغت “بلد الحرية الأول” في العالم، وقالت له أنت نظام العنصرية والاحتلال والفاشية واستعباد الشعوب.
قالت إن الشعب الفلسطيني يملك عنفوانا أكثر مما يتوقع الأعداء والأصدقاء على حد سواء.
لقد سجل الشعب الفلسطيني اليوم في مفكرة التاريخ، أن سفارة أعظم دولة في التاريخ البشري، افتتحت فوق بحيرة من دماء العزّل، وعلى خلفية العدوان والعنصرية والوحشية.
دماء الفلسطينيين أمس، أعادت إلى الأذهان جرائم الرجل الأبيض بحق حوالي أربعين مليون إنسان من السكان الأصليين في الأميركيتين.
نطق قطاع غزة باسم كل شعب فلسطين في جميع أماكن تواجده، وبلسان أكثر من أربعمئة مليون عربي، وباسم مئات الملايين من أحرار العالم، أن الشعوب قد تمهل ولكنها لن تهمل، وأن الأنظمة تهزم وتستسلم وتخضع وتتقبل الذل وتركع لتضمن استمرارها، ولكن الشعوب الحيّة هي صاحبة الكلمة الأخيرة، وشعبنا كان وسيبقى حيًا إلى الأبد.