كتب للدبور: وعد الأحمد – اشتهرت مدينة حمص إلى جانب كونها مدينة الطرافة والغرابة والطيبة التي تقترب من حدود التصوف، بأنها مدينة عشاق من طراز خاص منذ أقدم العصور والى الآن، بدءاً من (جوليا دومنة) ابنة كاهن معبد الشمس التي أحبت القائد الليبي “سبتيم سيفيروس” الذي بشرته الآلهة -حسب الاعتقادات القديمة- بزواج ملكي وعشق جوليا أثناء احدى زياراته الى حمص، واقترن بها ليصبح امبراطوراً لروما لعشرات السنين، كما ترك العرش لأبنائه من بعده.
ومروراً بالشاعر (ديك الجن الحمصي) الذي أحب جاريته ورد حباً يفوق الوصف، وعندما وشى أحدهم بها وادعى انها تخونه مع غلامه قتلها وحرق جثتها، وصنع من رمادها كوزاً راح يشرب فيه الخمر وينشد وهو يبكي ندماً على ما فعل:
يا طلعة طلع الحمام عليها
وجنى لها ثمر الردى بيديها
ومن عشاق حمص المميزين الشيخ البدوي “مجول المصرب” الذي أحب انجليزية هي “جين دغبي” واقترن بها أربعين عاماً قبل ان تموت بالكوليرا عام 1885 بعد قصة عشق اسطورية.
أما العشاق الحمامصة المعاصرون فهم كثر، ويأتي في مقدمتهم “علم”حيث كانت شخصيته مميزة بكل معنى الكلمة، بدءاً من مظهره الذي يتغير من يوم الى آخر، فيوماً يطلق لحية سوداء غزيرة بلا تشذيب ولا تهذيب، ومرة يتعمم بعمامة بيضاء تظهر وقاره وكأنه شيخ أمضى العمر كله في المساجد وأماكن العبادة والتقوى، ومرات كان يبدو متفرنجاً الى أبعد الحدود، فيلبس بنطالاً أزرق ضيقاً وفوقه قميصاً بألوان قوس قزح ويرسل القميص فوق البنطال بلا أدنى مبالاة، ومرات كان يبدو في صورة عادية جداً، وأخرى في صورة مضحكة للغاية فيحلق ذقنه وشاربيه ويدع شعره ينمو فوق رأسه كالتاج ويظل يعلو حتى يصير كالقبة، وكان منظر شعره أكثر ما يميزه ويلفت الانتباه اليه لمن لا يعرفه، ويقال ان علم عشق صبية من حي باب تدمر المجاور لحيّه، وكان يمضي ساعات طويلة تحت نافذتها وهو يدندن لها الأغاني كواحد من عشاق “الترابادور”.لقد كان علم بحراً من المتناقضات، استطاع ان يجمع بين الفلسفة والشعر والموسيقا والعمامة والقفطان والبنطال الأزرق الضيق والقمصان الملونة الزاهية في شخصية عاشق من طراز فريد.
ومن عشاق حمص المميزين أيضاً (عبد الرحمن عسكر) الذي كان-منا يقول الكاتب معتصم دالاتي لـ”وطن الدبور” ضخم الجثة، ذا وجه قاسي الملامح مع هيبة واضحة، أما شعره الكث الممتلئ كغابة متشابكة الأغصان فكان يفضي الى السالفين الطويلين اللذين يصلان الى ما تحت أذنيه، كما كان يعتمر قبعة كحلية اللون “بيريه” في حين أن الطربوش كان هو السائد لدى غالبية الرجال في الخمسينات من القرن الماضي.
وكان عسكر –بحسب دالاتي- يتقن اللغة الانجليزية كأهلها ويعطي دروساً بها لطلاب المدارس الإعدادية والثانوية في مدينة حمص، وقد أشيع عن عسكر انه قد أغرم بالملكة اليزابيث ملكة بريطانيا، إذ كانت آنذاك أي في الخمسينات من القرن الماضي في عز صباها، وفتنة جمالها، ولكونه يجيد الانجليزية الفصحى إجادة تامة، وتلك ميزة لم يكن يحظى بها إلا القليل من أهل المدينة فقد دبج لها رسالة حب ملتهبة صاغها صياغة إنشائية تعبيرية أودعها كل عواطفه ومشاعره المتأججة ازاء الملكة الشابة التي كانت تحكم البلاد التي لا تغيب عنها الشمس، ومع الرسالة أودع صورة شخصية له بسالفيه الطويلين ووجهه الرجولي المعبر في مغلف أنيق كتب عليه بخط جميل متقن اسم الملكة اليزابيث الثانية، بالإضافة الى اسم الدولة العظمى، ولندن العاصمة، فالملوك لايحتاجون الى عناوين. ويقال أنه بعد فترة من الزمن تلقى من الملكة رسالة تشكر له نبل عواطفه مع حوالة مصرفية بمبلغ من المال، ولم يكن الرجل العاشق المتيم سعيداً بهذه الرسالة، فمقصده مختلف تمام الاختلاف، ولعل الملكة أو مكتبها قد أساؤوا فهم رسالته واعتبروها رسالة ولاء من أحد رعايا الملكة المقيم في مدينة حمص من أعمال سوريا دون أدنى الاهتمام بحبه وعواطفه وقلبه المتأجج شوقاً وغراماً للصبية الجميلة الرقيقة التي تسكن قصر بكنجهام.
والعشاق المشاهير في حمص كثر، ومنهم الراحل “أبوجميل الدلاتي” الذي عشق المطربة الراحلة أم كلثوم، وكان يحتفظ في منزله بأسطوانات فونوغراف لكل اغنياتها بحفلاتها المختلفة في الأقطار العربية بما فيها الحفلات الخاصة والنادرة.
أما الملحن “أسعد ليلى” عاشق فريد الأطرش فقد ذهب الى مصر من أجل ان يلتقي به وهناك تتلمذ على يديه، وعاش في شقته سبعة أشهر. وظل أسعد يعيش حتى أواخر حياته على ذكريات الزمن الجميل وصدى السنين. وأسس فرقة فنية سماها فرقة “شعاع” لا تؤدي إلا أغنيات وألحان الموسيقار الراحل فريد الأطرش.
ومن عشاق حمص الظرفاء عازف الناي “محمد مهيب” الذي لقب في حمص ب”الصرصور”، وكان هذا العازف عاشقاً للموسيقار محمد عبدالوهاب. وفي أحد الأيام زار عبدالوهاب دمشق للغناء فيها، فقام محمد مهيب ببيع فراش نومه ولحافه من أجل ان يحضر حفلة عبدالوهاب وبعد انتهاء الحفلة راح يلطم خده نادماً متأسفاً على ما فعل فرآه الموسيقار عبدالوهاب، وسأله: لماذا تضرب نفسك؟ فحدثه بما جرى له من بيع الفراش واللحاف، وهما كل ما يملك من ثروة، من أجل حضور الحفلة، فضحك عبدالوهاب وأعطاه ثمن الفراش واللحاف وفوق ذلك أيضاً. ( الله يخليلنا هيك فنانين فوق راسنا ههه)”