قصة قصيرة (بين الحارة والشرفة)" width="93" align="left" src="https://www.watan.com/upload/Shorfa.jpg" />بقلم: محمد محمد السنباطي
كانت في المطبخ والمريلة على صدرها تغسل الأواني والأطباق المركونة منذ السحور. يأكلون وينامون لتنهض هي في الصباح وتوقظ البنتين بإلحاح للذهاب إلى المدرسة. حفيدتها سمسمة تنال حظها من الزغد والتقريص من البنتين – خالتو أمل وخالتو ابتسام- اللتين تأبيان إلا أن توقظاها مثلهما رغم أنها لن تذهب إلى المدرسة.
– حرام! اتركاها فهي هزيلة كأمها وتصر على الصوم!
تغسل وهي متأكدة أن الماء لن ينقطع من الصنبور فمعظم الناس هنا يصحون متأخرين في رمضان. من يومين والبنت تسعل سعلات جافة، خشنة. أمها توصيني أن أعمل لها كعك العيد. ربك يفرجها ورمضان كريم.
سمسم الآن في البلكونة رغم تحذيري لها بتجنب الهواء. باب الحجرة المقابلة للمطبخ مفتوح والزوج نائم على ظهره مؤرجحا ساقا على ساق. يفعل هذا عندما ينوي التغيب عن الشغل.
– أغلقي باب البلكونة يا بنت!
كررها مرتين. يبدو أنها لم تسمع. جدتها تخشى عليها غضبه. استر يا رب!
مازالت رجله معلقة ومرفوعة حتى إن باطن قدمه يواجه باطن قدمه الذي في مرآة السراحة كأنما ينظر أحدهما في وجه الآخر ويقرأ المخطوط فيه. مرت الجدة والحفيدة من بين القدم والصورة دون أن يحرك ساكنا، وكان التليفزيون الكائن فوق الكمودينو القديم يعرض أغنيات عن العبور العظيم فتململ: ماذا يفعل هؤلاء. كأننا في 6 أكتوبر!
قالت سمسم: نحن في العاشر من رمضان يا جدو.
– أي والله، شاطرة ونبيهة زي أمك!
وأحس بها تتسلل من جديد وتفتح وتخرج إلى الشرفة: أبوها مرتاح ويتركها ترازي فينا!
تقطيبة هائلة استولت على وجهه ولوت سحنته. القولون اشتغل!، حتما سيحتاج إلى مشروب دافئ. المشكلة تكمن في المقروصة الصغيرة التي تكتشف إفطاره!. لا تحب أن يأكل أمامها خصوصا وإنها تصوم.
– يا فتحية!
وهلت عليه الذكريات الخالدة، أيام كان مجندا وأبلى بلاء حسنا في الخدمة العسكرية. أيام البطولات. كان يحارب وهو صائم. يبتسم. حتى جورج لم يدخن سيجارة واحدة في نهار رمضان وهم على خط النار، لكنه الآن يريد مشروبا دافئا…
– يا فتحية! هل انتهيت من غسل المواعين؟
سألها رغم أن صوت الملاعق والأواني كان ما يزال يأتيه. يا فتحية!
– نعم يا سي رضوان
– مصاريني تتحرك في بطني كأنها تتعارك
– أعرف أعرف
– فلماذا تتأخرين عليّ بالينسون الدافئ؟
– أحيه! يا رجل عيب! حفيدتك التي لا تصل إلى ركبتك صائمة!
ظلت رجله معلقة وإن صار يهزها بتوتر. انفتح باب الشرفة تلقائيا. سمع صبيا في الشارع يصيح: يا فاطرة!
– أنا صائمة
– أريني لسانك
يعرف أن البنت تري لسانها للولد فيراه غير أحمر فيتأكد من صيامها!. جاءه صوتها: صائمة والله، أنت الفاطر!
جاءت إليه بالينسون وهي مقطبة الوجه فجلس مستوفزا في السرير والفنجان إلى جواره. حذرته في روية: ستراك!
– مجنونة أنت؟ هل أشربه عياقة؟ أقول لك مصارين بطني تتقطع فتقولين لي: ستراك؟
رشف أول رشفة وهو يتمنى أن يطول الحوار بين الشرفة والحارة. البنت صارت تغني: يا فاطر رمضان… يا خاسر دينك… كلبتنا السمرا…تاكل مصارينك!
مع ذلك رشف بقية الفنجان على دفعات سريعة والبنت مازالت تغني وتاغيظ الولد.
– خذي يا فتحية.
ونادى: ادخلي يا بنت الحمار!
واقتربت منه الطفلة. خداها صفراوان بسبب البرودة والضعف العام. أخطأ خطأ جسيما لأنه ناداها قبل أن تأتي امرأته وتأخذ الفنجان. لم ينتبه إلى ذلك إلا عندما وجدها كالفأر المذعور تتمتم: أنت فااااطر يا جدو؟!
ربما كان هذا سبب شحوبها!
– تعالي!
تقترب منه كأنما تمشي على قشر بيض إلى أن صارت في متناول يده فنزلت أصابعه من على شعرها الناعم القصير لتقبض على أذنها الصغيرة الطرية وجلجلت صرختها. في لحظة كانت جدتها في الحجرة تحاول تخليص الغضاريف الطرية من كماشة الأصابع العظمية القاسية. كانت البنت تتوسل: والنبي يا جدو، والنبي!
– ما لك والصبيان؟ ألم أعلمك الابتعاد عنهم يا صايعة؟
ومازالت الجدة في محاولتها المستميتة لإنقاذ الأذن التي كأنما انغلق عليها باب!. تبدت كقطعة من طحال مفروم.
– عاجبك كده؟
– علميها الأدب كي لا يفلت عيارها!
– حرام عليك، البنت عيانة وصايمة!
في لمح البصر كان منتصبا بين السرير والسراحة رافعا يده ليهوي على وجهها لكنه لم يفعل.
– اضرب أرني شطارتك!، لماذا تتغيب عن عملك؟
– عيان!
– فالح تتشطر على البنت وتفرم أذنها!
وعد أن يصالحها. عرف أنه يريد إنهاء المواجهه، وأنه بدأ يستكين ويهدأ. انحنت لتأخذ الفنجان الفارغ فأخرج من جيبه جنيها وقال: أعطيها إياه!
– قم واذهب إلى المستشفى الميري ليصرفوا لك الدواء الشهري، وقل لهم عندي التهابات ليصرفوا لك مضادا حيويا إضافيا نعطيه للبنت. حرارتها في العالي يا كبد أمها!
فتحت درج الكمودينو وسحبت البطاقة : البس واذهب!
لكنه أقسم ألا يخرج اليوم. هل يتغيب عن عمله ليستريح أم ليركب المواصلات ويزور المستشفيات؟. اذهبي أنت يا فتحية!
– سأذهب بشرط!
تطلع في سحنتها مستكنها ما ستقول: تعطيني لأشتري لوازم كعك العيد!
وتبسمت: وربنا يخليك لنا.، وندهت بأعلى صوتها: يا سمسم! خذي هذا الجنيه من جدو.
– لا أريد منه شيئا؛ هو لا يحبني
– كلنا نحبك يا سمسم. خذي لا تكسفي يدي!
وقبلتها في خدها المبلل وصالحتها: سآخذك معي إلى المستشفى الميري ليكشف عليك الطبيب. انبسطي!
قاطعها: مازال أمامنا متسع من الأيام للتفكير في الكعك. لكن اعملي حسابك!- وظل يحلف مرات- لن أدفع أكثر من ثلاثين جنيها.
– اسكت، نقطنا بسكاتك!. البسي يا سمسم. أين حذاؤك؟ والجورب أين تخبئينه؟ 30 جنيها تدخن بها سجائر في 3 أيام!. البسي يا ضناي!. أنسيت أننا سنعمل حساب ابنتك المتزوجة وأمك التي ستفضحنا إن لم نرسل إليها ما يملأ عينها؟ البسي!. أتعرف سعر الدقيق أو السمن؟ حرام عليك!
وهما خارجتان: والله والعظيم حرام!
وفي المستشفى يتأخر الطبيب. صارت البنت تتقافز قرب حديقة صغيرة وعين جدتها عليها، وأذنها مع امرأة من أهل ذلك الحي تقول لها بعد أن استمعت لشكواها: اشتغلي يا حبيبتي! أنتِ بعافيتك. اشتغلي! الرجال هكذا هذه الأيام يفضلون الجلوس على مؤخراتهم يأمرون ويطاعون. الست ينحرق دمها من أجل الرجل وفي الليل تفتح له شقها! أليس كذلك؟ اشتغلي ولا تخبريه! سيجري القرش في يدك. خذي بالك، العمارة التي أمام السكن عندي مكونة من طوابق كثيرة، ويحتاجون لمن يغسل السلم مرة كل أسبوع. كل الشقق ستدفع، ومعظم السكان يحتاجون من يغسل سجاجيدهم قبل العيد. خذي بالك! سيعطونك بسخاء، فضلا عن الزكاة. ستعودين بالسمن والدقيق والياميش وكل ما تشتهين. ليست عمارة واحدة. أنت وشطارتك!
وذهبت وفعلت. عمائر كثيرة وناس كرماء. كل يوم تلبس ثيابها السوداء القديمة وتخرج تركب المكروباص. تعود قبل المغرب محملة بما كانت محرومة منه. ينتظرها آخر النهار على رأس الشارع حتى يراها تنزل من المكروباص فيهرع إليها يحمل عنها ما لا تقدر على حمله، ويسير إلى جوارها صامتا. صارت ابنتها المتزوجة تأتي وتحمل الخيرات وتذهب إلى زوجها راضية مرضية.
– ثقيل عليك يا رضوان؟
– كله في حبك يهون!
ولم تطلب منه الثلاثين جنيها، ولم يعد يذكرها. وجلس قبل العيد بيومين يرص الكعك في الصندوق الذي سيأتي زوج ابنته ويحمله، والصندوق الذي سيرسله إلى أمه يجب أن يكون كعكه ناعما جدا ليسهل ازدراده. وهي تراقبه وهو يرص البسكويت بعناية فائقة كي لا ينكسر،وابنتاه تلمع منهما العيون المشتهية، وتتساءل الأم متعجبة كيف لم يسألها أحد ولو مرة واحدة: من أين؟