نشر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى مقالا للكاتب المصري محمد منصور المقيم في واشنطن حول الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير, تحت عنوان “نظام ضعيف وثورة ضعيفة” قال فيه ” ليس ثمة شك في وجود حالة من السخط العام بسبب تدهور الأحوال المعيشية، وحالة الإحباط بسبب السياسات القمعية لحكومة السيسي، فالمواطن المصري يفتقد اليوم؛ حتى للحد الأدنى من هامش الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، إذ لا صوت يعلو على صوت بطش السلطة الأمنية التي تتربص بكل من سولت له نفسه التعبير عن رأيه بشكل حر، حتى ولو كان مواطناً بسيطاً مفتقراً إلى القوة الشعبية والنفوذ الداعم.
الصحفي المصري المقيم في أمريكا أضاف في مقالته التي نشرت كذلك في “منتدى فكرة”, في ضوء الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير 2011، التي أطاحت بالرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، يبدو لنا أن زخم الحراك الشعبي ضد حكومة السيسي آخذً في التصاعد، غير أنه، للأسف، زخم كالهشيم تذروه رياح التفرق والتشرذم.
وما أن بدت طلائع ذكرى الخامس والعشرين تلوح اليوم في الأفق، حتى انتابت حكومة السيسي لوثة الحملات المسعورة لقمع الحريات، وذلك من خلال القبض العشوائي على عدد من الناشطين والصحفيين بلغت في يوم ذكرى الثورة حوالي 150 ناشط من شتى الانتماءات السياسية طبقاً لوسائل الإعلام المحلية. وقبيل الذكرى بأيام قليلة قامت السلطات الأمنية باعتقال أربعة ناشطين من حركة “6 إبريل” بتهمة (الانضمام لجماعة محظورة)، وهي تهمة يلقى بها في وجه أي مواطن يخالف؛ أو يختلف مع السياسة العسكرية للسيسي، زيادة على صدور الحكم بالحبس لمدة عام في حق الباحث “إسلام البحيري” بسبب آرائه التي تخالف التراث الإسلامي المنقول، وهو الحكم الذي لا ينسجم ومضامين تصريحات السيسي السابقة، والتي حثت على تجديد الخطاب الديني، وهذا يدل على أن تلك التصريحات فارغة من مضمونها.
إن حالة الوهن العام لم تستثني أحد ومثلما تجسدت في نظام السيسي، إمتدت أيضاً للمجتمع المدني والحراك الإجتماعي والسياسي وصولاً إلى القوى الثورية التي تم البطش بها على مدار أكثر من عامين؛ وهذا يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه يستحيل حدوث تغيير في موازين القوى بين النظام والقوى الثورية، وأن أي اعتصامات أو مظاهرات لن تكون إلا في نطاق ضيق للغاية، ولن يكون بإمكانها تحقيق تهديد كبير للنظام الحالي، مما يوحي باستمرارية الحالة المصرية على ما هي عليه في المدى القريب، بل وحتى على المدى البعيد؛ إذا لم يسترجع المجتمع المدني أي من عافيته التي أنهكها بطش الدولة العميقة.
وإذا كانت سُنَّةُ حركة التاريخ هي السير للأمام، فبإمكان النسيج المجتمعي الانتصار مستقبلاً على نظام هذه الدولة العميقة التي تقودها المؤسسة العسكرية، نعم بإمكانه ذلك؛ مادام جيل ثورات “الربيع العربي” قد فتح عيونه على بصيص من الحرية، وبالرغم من تنفس تلك الحرية لفترة وجيزة إلا أن هذا الجيل استطاع أن ينقل شعلة الحرية لأجيال ما بعد ثورة يناير، وبخلاف الأجيال التي عاشت قابعة في ظل نظام مبارك وما قبلة إلا أن أجيال ما بعد ثورة يناير قد كسرت حاجز الخوف ولا يمكن تطويعها كالأجيال السابقة. والدليل على ذلك عدد المسجونين السياسيين الذي وصل على اقل تقدير لـ 40 ألف سجين سياسي. وبالرغم من الحملة الأمنية الشرسة، إلا أن الحراك الثوري مستمر، ببساطة لأنه ليس في يد جيل واحد، بل ينتقل من جيل إلى جيل، فالمعارك في القرن الواحد والعشرين هي معارك النفس الطويل.
ومهما طال الأمر؛ فإن النظم الديكتاتورية بأساليبها القديمة هي في طريقها للانقراض أمام حركة التطور الديموغرافي والديناميكية الاجتماعية التي طرحتها ثورات “الربيع العربي”. ولا سبيل للنظم الشمولية للاستمرار في الحكم؛ إلا بعزل شعوبها عن العالم، وهو الأمر الذي يستحيل في ظل هذا التطور الهائل في التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، والذي ساهم في انتشار الحراك الشعبي، وتلاشي الحدود والفواصل على المستوين الإقليمي والعالمي؛ الشيء الذي استحال معه تطبيق سياسة العزل، مما ينبئ بتلاشي هذه النظم القمعية عاجلاً أو آجلاً.
وارتباطاً بمناسبة ذكرى يناير، فقد دعت جماعة «الإخوان المسلمين» عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى التظاهر لإسقاط “الانقلاب العسكري” في مصر، وشرعت الجماعة في إطلاق حملة للاصطفاف الثوري، أي: توحيد القوى الثورية تحت مطالب محددة، الشيء الذي زاد في حقيقة الأمر من حالة التشرذم، لانعدام رؤية موحدة، والتي تستدعي بالضرورة التطهر أولاً من أي مصالح شخصية أو أيديولوجية. هذا التضارب بين الرؤى والأهداف أدى إلى تفاقم حالة التفتت بين تلك القوى، مما يخدم مصلحة نظام السيسي، والذي رغم معاناته من ضعف جلي يستمد بقائه في السلطة من ضعف وتشتت هذه القوى الثورية.
إن حالة الضعف والتهشم هذه، لم تصب فقط التيارات السياسية المتعددة، ولكنها أيضاً تنخر في عروق نظام السيسي. فهناك أكثر من أربعين ألف سجين وراء القضبان على خلفيات سياسية، يتعرضون لعمليات تعذيب واختفاء قصري ممنهج. وهذا البطش الشديد إلى جانب محاولات إضعاف وتهميش القوى الثورية المتمثلة في المجتمع المدني ما هو إلا دلالة واضحة على مدى حالة الضعف التي يعانيها النظام العسكري المصري؛ إذ لو كان فعلاً نظاماً قوياً، ما خشي كل هذه الخشية من حراك المجتمع المدني، ولما أصابته حالة الذعر المرعب من جميع الأصوات الصحافية بما فيها الصحافة المستقلة. ونستحضر هنا حالة اعتقال الصحفي “إسماعيل الإسكندراني”، والتي تدل على أن هذا النظام العسكري مستمر في حربه على الإعلاميين من أجل الانفراد بتشكيل إعلام موجه، يعمل بتوجيهاته، ويكون بوقاً خاصاً به؛ ليخدم مصالحه.
إن فشل الانقلاب العسكري في تدبير الشأن السياسي المصري يجعل التيارات السياسية الثورية تتحين الفرص للانقضاض عليه، ويزداد تحفزها هذا، وهي ترى شعبية السيسي بالشارع المصري في تراجع مستمر، لكن اختلاف الرؤى بين تلك التيارات، جعلها في جدال مستمر حول نقطة البداية لإصلاح المسار الديمقراطي، فبينما يرى التيار اليساري أو الليبرالي أن نقطة انحراف المسار بدأت مع حكم مرسي، وتفاقمت مع نظام السيسي، يرى «الإخوان المسلمون» أنه لا مناص من عودة “الشرعية” المتمثلة في الرئيس المعزول مرسي. أو بمعنى آخر، اختلفت جميع الأطراف حول ما إذا كانت ثورة يناير 2011 او انقلاب يوليو 2013 هي بداية الانحراف عن المسار الديمقراطي في مصر. فكل طرف يشترط العودة الى لحظة وجوده في الحكم الذي وصل اليه عن طريق صناديق الانتخابات، باعتبارها الانتخابات الأكثر ديمقراطية في تاريخ مصر. هذا الخلاف البين في الرؤى هو الفتيل الذي أشعل الصراع الذي شتَّتَ القوى المناهضة لحكم السيسي منذ أكثر من عامين.
ومن خلال ما سبق، يبدو لنا أن أساس الخلاف بين التيارات الثورية؛ والذي منعها من التوصل إلى أي اتفاق مشترك، هو تشبث «الإخوان» بامتياز نجاحهم في الوصول إلى الحكم عبر انتخابات ما بعد ثورة 2011، لكن من الواضح أن هناك تحديات عميقة ومتجذرة تقف حائلاً امام هذا المسار. فاذا ما افترضنا جدلاً فوز الفريق “أحمد شفيق” – المرشح المنافس الوحيد لمحمد مرسى في جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية 2012، كانت المؤسسة العسكرية ستحكم مصر من خلال ممثلها الفريق “أحمد شفيق”. وهي الوضعية التي كانت ستشكل مصدر خطر حقيقي على حكومة شفيق الافتراضية، نظراً لتكتل كل القوى، سواء الليبرالية بقيادة محمد البرادعي، أو الإسلامية بقيادة «الإخوان المسلمين» لإسقاط تلك الحكومة العسكرية، خصوصاً وأن الشعلة الثورية في ذلك الوقت كانت في أوجها. وبناءً على هذا الافتراض، يبدو لنا منطقياً، ووفق العقل السليم أن نقطة الانحراف الحقيقية عن المسار الديمقراطي كانت ما قبل حكم «الإخوان» ، وليست ما بعده. لذلك يستوجب اليوم على شباب «الإخوان» الأكثر ليبرالية من القيادات؛ يستوجب عليهم أن يصححوا مسار الجماعة متخذين من ثورة يناير نقطة بداية حقيقية لانطلاق المد الثوري تحت شعار: “عيش، حرية، عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية”. وإذا ما تحقق ذلك؛ فبإمكان التيارات المناهضة لدولة العسكر أن تقف في وجه السيسي ومن معه؛ وقفة رجل واحد.
لقد اجتمعت سابقاً كل الظروف لإسقاط مبارك في ثورة يناير وكان كل طرف يهدف إلى تحقيق مصلحة شخصية من وراء إنهاء نظام مبارك، باستثناء التيار الليبرالي بقيادة محمد البرادعي الذي كان يناضل من أجل تحقيق دولة تقوم على أساس المواطنة، هذا قبل أن يدخل بشكل لا واع في غمار المجتمع السياسي، ويصبح أداة استغلها نظام السيسي، أما جماعة «الإخوان» فكانت تسعى جاهدة للوصول إلى الحكم، وتطبيق سياسة “التمكين” أو “أخونة” الدولة، وأما السلفيون فكانوا يريدون “أسلمة” الدولة على طريقة حركة “طالبان” في أفغانستان، وأما القيادات العسكرية بقيادة المشير طنطاوي؛ فقد وجدت في توحيد كل القوى المعارضة فرصة لعسكرة الدولة، أو بمعنى آخر عودة المؤسسة العسكرية للحكم بشكل أقوى. نجح انقلاب يوليو في تحقيق أهدافه وتمكنت المؤسسة العسكرية خلال العامين الماضيين من استخدام الدولة العميقة (إعلام، قضاء، مخابرات، شرطة، قطاعات الدولة بكل العاملين بها) للبطش بمختلف الحركات الثورية، سواء الليبرالية أو الإسلامية.
إن القاعدة الصلبة التي ترتكز عليها مختلف الثورات وحركات التغيير الاجتماعي عبر التاريخ تكمن في المجتمع المدني، وفي قوته التي تقوم على مبدأ “المواطنة”، وهي القاعدة التي كانت موجودة بقوة في ميدان التحرير في 2011 كما عايشناها بكل لحظاتها ما بين لحظات الإحباط ولحظات النشوة، ولكنها كانت بالرغم مما تحقق لحظات شعورية تفتقر لإستراتيجية تدحض إستراتيجية الدولة العميقة، وأيضاً تفتقر إلى لَبِنَاتٍ لبناء مسارات حقيقة تترجم مكتسبات هذه الثورة على أرض الواقع المعيش، وتكفل استمراريتها، إذ تفرق ذلك المجتمع بعد ثورة يناير بين الأخونة، والأسلمة، والعسكرة، نتيجة لتلاشي مبدأ المواطنة؛ باعتبارها هوية حقيقية، وليست مزيفة كما هو الحال عند أصحاب المصالح، ولم يزل شعار” إرفع رأسك فوق أنت مصري” يمتزج بدماء كل من عاش تلك الفترة.
حالة التردي السياسي حالياً؛ ليست مرتبطة بالمجتمع المصري فحسب، بل هي آفة يعاني منها المجتمع العربي بأكمله، مما يفتح المجال لهيمنة تيارات تتسم بافتقارها للنزعة الإنسانية، ونذكر في هذا الصدد تيار تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») الذي استثمر الوضع الحالي لينفث سمومه بعدما فقد الشباب أي حس بالهوية العربية وسط حالة من الإغتراب والإحباط العام، خاصة شباب دول “الربيع العربي”.
هكذا ساهم تردي الأوضاع السياسية العامة للمجتمع العربي؛ في تناسل التيارات المتطرفة، وعلى رأسها التيار “الداعشي”، والتي لا يمكن مكافحتها، أو دحرها، ما لم تأتلف مختلف الصفوف والتيارات الثورية المتباينة، الشيء الذي يفرض على جميع الأطياف السياسية ـ وقبل أن تفكر في إطلاق مبادرات للاصطفاف الشمولي ـ أن تنطلق من نقد ذاتي، عماده إنكار الذات ونسيان المصالح الشخصية، من أجل بناء أسس الكرامة الإنسانية أولاً. وفي غياب هذه المراجعة وهذا النقد الذاتي؛ لا يمكننا إلا انتظار فشل كل المحاولات الثورية لاسترجاع ما ضاع من الضمير العربي.