شمس الدين النقاز – وطن (خاص)
يبدو أن النخبة المثقفة في تونس والتي يطلق عليها البعض “النكبة المثقفة” لم يعد لها اهتمام في السنوات الأخيرة إلّا بمحاولة إيجاد تناقضات وهمية بين بعض النصوص الشرعية الإسلامية والواقع المرير الّذي نعيشه.
ففي السنة الماضية أفتانا الدكتور محمد الطالبي بأن القران لا يحرّم وأنّ الخمر حلال محلّل مستدلاّ بنصوص عجيبة أشهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للسيدة عائشة رضي الله عنها “ناوليني الخُمرة”، وقد ناقض الرجل بهذا الإستدلال العجيب وقتها معتقداته ودرجته العلمية في مسألتين،أولها أنه قال عن نفسه إنه قرآنيّ ولا يؤمن بالسنة في حين أنه استدلّ بحديث جاء في سنن الترمذي.
وثانيها أنه رجل لغوي يفسّر النصوص تفسيرا لغويا مثل ما تحدّث هو عن نفسه ومثلما تحدّثت عنه كتاباته، ولا نعلم هنا كيف يخفى على عميد كليّة الآداب في تونس في السبعينات أن فقهاء اللغة وفطاحلة العرب أجمعوا ولم يشذّ أحد منهم على تفسير الخُمرة بالسجّادة الّذي يصلّى عليها.
لن نقف كثيرا مع الدكتور الطالبي ولا مع نظيره يوسف الصدّيق فهما ورغم كبر سنّهما كانا مادّتان إعلاميتان تمّ استضافتهما وفق ثقافة “BUZZ” الّتي انتشرت في وسائل الإعلام التونسية بعد 14 من يناير لتحقيق مكاسب مادّية وعائدات إشهار كبيرة بالإضافة لنسبة مشاهدة عالية.
فقط نشير إلى أن الدكتور يوسف الصديق هو الآخر، رجل لا يفقه ماذا يقول لا لغة ولا دينا، بل إنّ كلّ فنّ يتحدّث فيه يأتي فيه بالعجائب، ولا عجب فمفكّرو تونس العلمانيون “فرنسيون بطبعهم” ودرسوا في فرنسا واحتضنتهم الأخيرة وقدّمت لهم الدّعم اللازم في بدايات حياتهم الأكاديمية، ولا يخفى على أيّ متابع و”مثقّف” وفقيه في اتجاهات ومدارس العلمانية أنّ أسوأ وأكثر نموذج متطرّف من العلمانية في أوروبا وفي العالم هو النموذج الفرنسي.
نعود إلى الحديث عن “المفكّر” والفيلسوف التونسي كما يطلق عليه الإعلام يوسف الصديق، فقد أبدع هو الآخر يوم الجمعة الماضي عندما شذّ برأيه العجيب عن إجماع العالمين وقال في برنامج إذاعي في إذاعة عمومية إنّ “تمعّنه في النّص القرآني أظهر أن المساجد فضاءات مدنيّة بحتة وأن صلاة الجمعة ليست فرضا” ثمّ ومثلما هي عادة مفكّري تونس في الإستدلال على أطروحاتهم وفتاواهم بقواعد نحويّة وبلاغيّة وصرفيّة تشذّ عن المتعارف عليه ولا وجود لها في بطون أمّهات الكتب قال الصدّيق “إن الفعل في الآية الكريمة مبني للمجهول “يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة.”
في هذه العجالة لسنا بصدد مناقشة الجماعة لغويا ولا شرعيّا وإن كان أيّ شخص يمكنه ذلك، لأنّنا لا صلاحيّة لنا في هذا المقال العاجل، ولكلّ مجال أهل العلم فيه ونحن فقط نرصد التناقض العجيب في أقوال وتصريحات هؤلاء المفكّرين اللّذين دفعونا لمقاطعة مشاهدة القنوات التلفزية والإذاعية التونسية عند ظهورهم، وذلك لأنّنا مللنا سماع ما يقولون.
لم يقف الأمر عند ما قاله الطالبي والصديق فقط، فقبل أيّام نشرت الدكتورة سلوى الشرفي هي الأخرى تدوينة “بديعة” على صفحتها الرسمية على موقع التواصل الإجتماعي فايسبوك، رصدت فيه ما قالت إنه سطو أدبي من وزير الشؤون الدينية على مجهود خبراء الطقس اللّذين يتوقعون نزول أمطار بداية من الغد (أوّل أمس) ولمدة ثلاثة أيام و لهذا السبب دعا الوزير إلى إقامة صلاة الإستسقاء ثمّ وصفت ذلك بالشعوذة لأنّهم حين يعرفون بقدوم المطر يدعون إلى الصلاة.
رصد التناقضات العديدة لهذه الأستاذة والتي ما فتئت تردّدها على الملأ وعلى صفحتها الرسمية على الفايسبوك شاقّ ومضيعة للوقت، فالدكتورة الشرفي هي من أكبر الدّعاة لحرّيّة التعبير وعدم تجريم التفكير واحترام الإختلافات الفكريّة في الظاهر، في حين أنّها من أكبر القامعين لهذه الدعاوى على أرض الواقع واسألوا طلبة معهد الصّحافة وعلوم الإخبار عن ذلك وسيجيبونكم.
إنّ حال مثقّفي تونس وعلمانيوها وحتّى إسلاميوها أصبح مؤسفا ومشفقا للغاية، فالعلمانيون يتبجحون بمواقفهم ويظهرونها على الملأ وذلك تحت حماية القانون والدستور في حين يسكت الإسلاميون عن هذه المغالطات والهجمات المشينة على الثوابت الإسلامية “صلاتي الجمعة و الإستسقاء والخمر” وذلك لسببين رئيسين أولهما ضعف مؤهّلاتهم العلمية الدينية والدنيوية وكذلك خوفهم من أن يتلقّف الإعلام المهني جدّا داخل البلاد وخارجها تصريحاتهم وردودهم ثمّ تتمّ محاكمتهم وفق قانون الإرهاب ويلصق وصف أنّهم تكفيريون بهم لأنّ الدستور يجرّم التكفير.
في تونس الزيتونة وسحنون وابن خلدون، لم يقرأ المفكّر الإسلامي صحيحي البخاري ومسلم ناهيك عن كتب الحديث الأخرى، ولم يشتر تفاسير القرآن المعتمدة عند علماء الإسلام من زمن الإمام الطبري وصولا إلى الشيخ المجدّد محمّد الطاهر بن عاشور، ولم تتجاوز في أقصى الحالات مطالعاته لشروحات كتب الحديث بعض الورقات من شرح ابن حجر العسقلاني على البخاري أو من شرح النووي على مسلم، بل نحن نتحدّى هؤلاء المفكّرين الإسلاميين أن يسمّوا لنا كتب الحديث ويرصدوا لنا الفرق بينها أو أن يميّزوا بين صحيحها وضعيفها، ثمّ سرعان ما ينطلق في الفتوى والتشكيك في الثوابت المجمع عليها.
كذلك فإن شيوخ تونس اللّذين يدّعون العلم وأنّهم أبناء الزيتونة و من فطاحلة العلم، لم تتجاوز مطالعاتهم وقراءاتهم في الفقه شرحا أو شرحين لمختصر خليل وكذلك شرح الزرقاني على موطّأ الإمام مالك، بل إنّ سعيد الحظّ منهم من تجاوز هذه الشروح الثلاثة ليقرأ في بعض كتب النحو والصرف والتفسير والفقه الّتي كانت متوفّرة على استحياء في بعض المكتبات وتباع خلسة بخلاف الخمر الّذي بياع علنا في البلد في فترة حكم بن علي.
الحال نفسه لم يتغيّر بعد 14 يناير، فبعد 3 سنوات وتحت دعوى محاربة الإرهاب “عادت حليمة إلى عادتها القديمة” كما يقول المثل التونسي، وأضحت الإتهامات بأنك تكفيري وبحوزتك كتب تكفيرية “كالإستذكار لابن عبد البر أو تفسير القرطبي أو التحرير والتنوير لابن عاشور أو التبصرة للإمام اللخمي أو شرح ابن حجر العسقلاني للبخاري والنووي لمسلم” تهمة جاهزة لكلّ من نال شرف اقتحام منزله من قبل الأمن تحت طائلة حالة الطوارئ وقانون الإرهاب.
لتدعيم كلامنا، نذكر هنا كيف عاينّا الإستياء الكبير من قبل المشاركين في معرض الكتاب في شهر مارس من العام الماضي، حيث كنّا متواجدين وسألنا بعض العارضين عن سبب نقص المشاركين هذه السنة وعن عدم توفّر بعض الكتب، فأجابوا بأنّ البعض منهم منعت بضاعتهم من الدخول أو تعطّلت كما لم يتمّ السّماح للمئات من زملائهم بالمشاركة هذه السّنة، وقد كان المعرض حقيقة أشبه ما يكون بفترة معارض الكتاب التي تشرف عليها وزارة ثقافة بن علي وذلك بسبب شحّ الكتب على جميع المستويات وخاصّة الدينية منها، في حين توفّرت بكثرة المشاركات الإيرانية والمسيحية والعلمانية بأنواعها.
شخصيّا يضحكني كثيرا المفكرون والمثقفون التونسيون اللّذين يحزّ في نفسي أن يشار إلى أجهلهم بالبنان في وسائل الإعلام المختلفة، في حين يدفن الدكتور والمفكّر الكبير هشام جعيّط وغيره في منازلهم وهم أحياء من قبل هذا الإعلام.
الساحة العلمية والبحثية والثقافية في تونس ضعيفة وهزيلة جدّا، وأسباب ذلك يتطلّب شرحها مقالات أخرى لعلّ الله ييسّر لنا الكتابة فيها بالإستعانة بأهل الإختصاص، فالتونسيون لا في اللّغة والأدب أبدعوا إبداع المصريين واللبنانيين والسوريين ولا في الدين شاركوا بمؤلّفات تجديديّة قيّمة مثل الدّول التي سبق ذكرها خاصّة وأنّ أكثر المتكلّمين صدّعوا رؤوسنا بدعوات تجديد الخطاب الدّيني.
لقد لحن سيبويه عالم زمانه مرّة أثناء قراءة حديث نبوي شريف، فغضب بسبب ذلك وأصبح عالم زمانه والأزمنة الّتي تليه في النحو، وقد روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد وابن النديم في الفهرست أن سيبويه اتجه إلى دراسة الفقه والحديث حتى خطّأه حَمَّادُ بن سَلَمة البصري، فاتجه إلى تعلم النحو، وروي أن القصّة مفادها أنّ سيبويه قصد مجلس حَمَّاد بن سلمة الذي كان يستملي عليه سيبوبه حديثاً جاء فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ليس من أصحابي أحد إلا لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدَّرداء” فقال سيبويه “ليس أبو الدَّرداء” ظنّه اسم ليس، فصاح به حمَّاد “لحنت يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت” إنما هو استثناء، فقال سيبويه: لاجَرَم والله لأطلبن علماً لا تُلَحِّنَنِّي فيه أبداً.
أمّا مثقّفو تونس ومفكّروها وفلاسفتها فهم دائما ما يلحنون ليس في النحو فقط، إنّما في كلّ فنّ يتكلّمون فيه حتّى تلك الفنون التي حازوا فيها شهائد جامعية عالية من تونس ومن خارجها، ولم يقولوا ولو مرّة سنصلح من أنفسنا ونفعل مثلما فعل سيبويه عندما طلب علما لم ينافسه فيه أحدا.
رحم الله الشيخ الطاهر بن عاشور وابنه الفاضل، فإن كتب الله لهما العيش في زماننا هذا لتم اتهامهما بأبشع التهم ولألصقوا بهما تهمة التكفير والدعوة إلى العنف إذا ما تصدّيا لهذه الموجة غير المسبوقة من المساس بالمقدّسات والثوابت الإسلاميّة، في حين لم يتجرّأ هؤلاء المثقفون وأمثالهم في المسّ من معتقدات اليهود والمسيحيين وثوابتهم في العالم وفي تونس بل إنهم يستدلّون بالآيتين الكريمتين “لكم دينكم ولي دين” و “لا إكراه في الدّين” على اختياراتهم تلك، وكأن المسلمين الرافضين لتصرّفاتهم وأقوالهم ينكرون ويجحدون هاتين الآيتين.
الدعششة الفكرية في تونس وصلت إلى سدرة المنتهى في الحياة الدنيا، ولعلّ من خرج عن فكر الجماعة وتوجّههم وأفكارهم ومعتقداتهم، سيقصفونه بإعلامهم وبالتكفيري سيرمونه في كتاباتهم ومداخلاتهم وفي غياهب السجن سيلقونه بمعيّة أصدقائهم، ولن يجد هذا الخارج عن المألوف المفارق للجماعة غير عائلته والأقربون سندا له، لأنّ المنظمات الحقوقية والحقوقيون أنفسهم سيتخلون عنه بسبب هذه التّهم الخطيرة والمسقطة حتّى وإن كان المعني بالأمر علّامة عصره وسيبويه زمانه أو أبا حامد الغزالي نفسه.
النخبة المثقّفة في تونس أتت بالعجب العجاب بعد 14 يناير ولا عجب في ذلك، فهم كانوا من المناشدين لبن علي والمساندين له في قمع الإسلاميين ومحاربة الهوية الإسلامية بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، وليستحي منهم من ينفي ذلك، فكتاباتهم موجودة ومواقفهم مسجّلة وحديثهم مع طلبتهم في الجامعات منقول بتواتر بل إن رسائل الدكتوراه لبعضهم شاهدة على ذلك.
في الحقيقة نحن مسرورون جدّا بهذه الفتاوى والآراء العجيبة من قبل هؤلاء المفكرين لأنّها من المنتظر أن تنهض باقتصادنا وتجلب لنا مئات الآلاف من السياح وستنزل بفضلها الأمطار وتنخفض الأسعار وينهار الدولار أمام الدينار وغيرها من الإنجازات في الأيام القليلة القادمة، كما أنّه من المرجّح أن تكتب عن هذه الفتاوى الشاذّة في قادم الأيّام كبرى الصحف العالمية بل ستتصدر صفحاتها الأولى، وستحللها افتتاحيات النيويورك تايمز والإندبندنت والتايمز في قادم الأيام.
في الأخير نقول، إنّنا لا ندّعي العلم والصّواب فيما نقول ولسنا من المثقّفين والمفكّرين لكننا من الداعين إلى الخروج على بعض المتسلّقين اللّذين ظلّوا في أسفل السّافلين ومر عليهم الدهر سنين وسنين وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وينظمون علما في حين أن كلامهم إجرام وتصرفاتهم تصرفات صبيان ولو كان الجاحظ حيّا لأفرد لهم فصولا في كتاب الحيوان فهو لم يدرك هذا النوع في وقته، ولكن عسى الله أن يسخّر من يؤلّف في هذا الجنس من المفكّرين والمثقّفين مصنّفا يجمع فيه شتات التّرّهات والحماقات الّتي حفظوها عن أجدادهم من العلمانيين الفرنسيين المتطرّفين اللّذين لا يجرؤون على المساس بالدّين المسيحي ولا التّشكيك في الهولوكوست لأنّهم سيحاكمون بتهمة معاداة السامية.
كذلك لا ندري إن كان ابن الجوزي في زماننا، هل يضيف هؤلاء المثقّفين التونسيين إلى كتابه الأذكياء أو إلى كتابه الآخر أخبار الحمقى والمغفّلين ونوادرهم في القرن الواحد والعشرين.
حتاما، نقولها والحزن يتملّكنا تعسا، لمن اتّبع سبيل غوايتهم وطوبي لمن فارقم وهجاهم ونظم في هجائهم القصائد ونثر في فضحهم الفرائد ولن أقول أكثر مما قاله الجاحظ في كلمته المشهورة عندما رأى في ديوان الرسائل موظفين غير مؤهلين بعد أن ولّاه عليه المأمون “ظواهر نظيفة، وبواطن سخيفة”.