شمس الدين النقاز- وطن (خاص)
منذ إسقاط طائرة الرّكّاب الرّوسيّة في محافظة سيناء المصريّة والأحداث الدامية التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس في 13 من شهر نوفمبر الماضي،ظهرت دعوات عديدة في الصحف الغربية تدعو دول التحالف الدولي وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة وفرنسا وبريطانيا إلى مهادنة ومفاوضة تنظيم الدولة الإسلامية لإيقاف الحرب الّتي لن تتوقّف حتّى وإن هزم التّنظيم في العراق وسوريا.
بعد أن طالعتنا كبريات الصّحف العالميّة بمقالات تدعو إلى الحوار مع تنظيم الدّولة لإيقاف نزيف الدّماء في العالم تذكّرنا ما صرّح به المسؤولون والخبراء العسكريّون مع بداية انطلاق القصف الجوّي لقوّات التّحالف الدّولي على العراق أواخر 2014، فقد صارح دهاة السّياسة الامريكيّة شعبهم في أكثر من مرة قائلين “إنّ هزيمة تنظيم الدّولة تحتاج سنين طويلة لأننا أمام جماعة جهادية مختلفة عن سابقاتها” بل ذهبوا أبعد من ذلك عندما أكّدوا أنّ الحرب اليوم مع التنظيم لن تنته بمجرّد السّيطرة على الرقّة والموصل.
قبل أيّام نشرت وكالة رويترز للأنباء تقريرا مفاده أنّ هجمات باريس الّتي أودت بحياة زهاء 130 شخص لم تكلّف خزينة “الدّولة الإسلاميّة” أكثر من 7500 دولار أمريكي وقال وزير الماليّة الفرنسي ميشيل سابين “إنّ منفّذي هجمات باريس أنفقوا من أجل التّحضير لها 30 ألف يورو-حوالي 35 ألف دولار-” وقد أنفق أكثرها في تأمين بنادق كلاشنيكوف وذخيرة وأحزمة ناسفة بدائيّة الصّنع وكراء بضع سيّارات وشقق في العاصمة الفرنسيّة.
لقد استطاع تنظيم الدّولة بدولارات معدودات أن يتصدّر المشهد الإعلامي في العالم بأسره لمدّة ثلاثة أيّام متتالية أو أكثر،بل نجح في إيصال رسائله إلى العالم بكل اللّغات بعد الحادثة وذلك عن طريق بث فيديوهات من مكاتبه الإعلاميّة المحلّية تهدّد فرنسا والفرنسيّين بأنّ الهجمات لن تتوقّف حتّى تترك فرنسا قصف المدن الواقعة تحت سيطرته.
لم يكن التّنظيم يحلم أن يصبح مادّة دسمة تتناولها وسائل الإعلام العالميّة بتحقيقات وتقارير وتحليلات يوميّة، فلا تكاد تخلو كبريات الصّحف الأمريكية والبريطانيّة والفرنسيّة والإسرائيليّة من مقال يومي يتحدّث عن “داعش” أو عن “الدّولة الإسلاميّة” وكلّ يُدلي بدلوه،فالبعض يدعو إلى تكثيف القصف على المناطق الّتي يسيطر عليها تنظيم الدّولة والبعض الآخر ينادي أن تفاوضوا معهم لإيقاف الهجمات داخل أوروبا.
تنظيم الدّولة في الأسابيع الأخيرة كثّف هجماته خارج مناطق نفوذه ووصل إلى العمق الأوروبي واستهدف العاصمة باريس ب6 هجمات متزامنة في مناطق متفرّقة سقط جراءها مئات القتلى والجرحى كما قام باستهداف الضاحية الجنوبية في بيروت الّتي تعتبر معقل حزب الله وقتل وجرح العشرات كما قام بإسقاط طائرة الرّكّاب الرّوسيّة في سيناء مخلّفا أكثر من 200 قتيل وهو ما أحدث رجّة قويّة داخل الرّأي العامّ الغربي الّذي أضحى خائفا من أن تزيد حدّة الهجمات في المستقبل.
أكثر من عام من القصف وعشرات الآلاف من الطّلعات الجويّة في العراق وسوريا بأحدث الطائرات الحربيّة الّتي دخل بعضها ساحات المعارك لأوّل مرّة،ولكن ورغم هذا الكمّ الهائل من القصف لم يستطع التّحالف الدّولي القضاء على التّنظيم وليس الأمر عجيبا إذا ما أدركنا جيّدا أنّ الحروب لا تحسم من الجوّ وإنّما بالبرّ.
رغم أنّ الخسائر البشريّة في مناطق سيطرة تنظيم الدّولة الإسلاميّة كانت مرتفعة بالإضافة إلى دمار كبير حلّ بالبنية التّحتيّة لبعض المدن العراقيّة والسّوريّة إلّا أنّ سكّان هذه المدن لم ينقلبوا على التّنظيم ولم يقوموا بأيّ حركات احتجاجيّة سلميّة أو انتفاضات مسلّحة داخلها رغم الكمّ الهائل من المناشير الّتي ترميها طائرات التحالف والّتي تحرّض أساسا على الثّورة على التّنظيم وهو ما يمكن تفسيره بأنّ الحاضنة الشّعبيّة زادت من صمود تنظيم الدّولة على الأرض.
إنّ الخسائر في صفوف مقاتلي “الدولة الإسلاميّة” كانت مرتفعة جدّا ووصلت إلى أكثر من عشرة آلاف قتيل وآلاف الجرحى بسبب القصف الجوّي المكثّف والإشتباك البرّي مع القوّات العراقيّة والسّوريّة المدعومة بميليشيات شيعيّة،ورغم ذلك لم يتأثّر التّنظيم كثيرا على الأرض حتّى وإن فقد بعض المدن في العراق وسوريا وعلى رأسها تكريت وتل أبيض وبيجي وسنجار.
صحيح أنّ هذه المدن الّتي فقد السّيطرة عليها كانت مهمّة بالنّسبة إليه باعتبارها حزام الأمان لعاصمتيه العراقيّة “الموصل” والسورية “الرّقّة”، إلّا أنّ المتابع لسير المعارك اليوميّة في البلدين يلحظ أنّ تنظيم الدّولة خرج من هذه المناطق ولكن ضيّق الخناق على أرجائها ومنع القوّات المسيطرة من التّقدّم أكثر لتضييق الخناق على عاصمتيه بل قام بهجمات مباغتة في بعض الأحيان على بعض المدن الأخرى على غرار سامراء وريف حلب الجنوبي.
تنظيم الدّولة في الفترة الرّاهنة يبدو أضعف من قبل ولا يعني هذا الضّعف بالضّرورة عدم قدرته على المبادرة بالهجوم والمباغتة بل يمكن أن يكون هذا البرود في العمليّات الّتي يقوم بها في كلّ من العراق وسوريا متنفّسا لخلاياه النّائمة الموزّعة في أنحاء أورويا وأفريقيا للقيام بعمليّات كبرى داخلها وهو ما يزيد من ثقة مقاتليه والمتعاطفين معه ويساهم في سخط الشّعوب الغربيّة على سياسات حكوماتها.
في الأخيرة يمكننا القول إنّ تنظيم الدّولة الإسلاميّة لا يملك ولا يمتلك في الفترة الرّاهنة مبادرة الدّعوة إلى الهدنة مع دول التّحالف وروسيا،ولعلّ المتابع لنسق التحرّكات الغربيّة الأخيرة يعلم تمام العلم أنّ مسألة الهدنة والتّفاوض مع “الإرهابيّين” في كلّ من العراق وسوريا مسألة غير مطروحة بتاتا في المستقبل القريب خاصّة بعد أن أصبح الرّئيس السّوري شريكا في القضاء على “الإرهاب” بعد أن كان صانعا وداعما وحاضنا له.
* صحافي من تونس