لا يمكن فصل التراشق الإعلامي والتهديدات الروسية والاتهامات التركية عن الإرث التاريخي بين البلدين وهو إرث حروب وهزائم.
فروسيا هي عدوة الدولة العثمانية، حيث خسرت كل الحروب التي خاضتها مع موسكو، كما يرى أكين أونفير، الأستاذ بجامعة قادر خاص في اسطنبول، في مقال نشرته الدورية الأمريكية “فورين أفيرز” مؤخرا ويضيف أن مسار العلاقات الروسية التركية تحدد في عام 1783 عندما احتلت قوات القيصر الروسي القرم، وكان هذا أول مرة يخسر فيها العثمانيون منطقة إسلامية تابعة لهم.
وقد قادت صدمة الهزيمة العثمانيين للبحث عن مصادر القوة ومعالم الحداثة في أوروبا. وجاءت نتائج الحداثة في التحالف الفرنسي البريطاني العثماني في حرب القرم (1853 ـ 1856)، حيث حاولت هذه القوى هزيمة روسيا في القرم.
ولكن الروس عززوا من قوتهم في البحر الأسود وهو ما قاد لخسائر عثمانية على مدار أكثر من قرن ليس في القوقاز ولكن بمنطقة البلقان. ويعتقد الكاتب أن السياسة الخارجية التركية غالبا ما استندت إلى التجربة التاريخية. فاتفاق تجاري مع إيران مثلا يمكن أن يقوم بناء على معاهدة “زوهاب” عام 1639، والتي أنهت الحروب بين العثمانيين والصفويين.
ولهذا السبب، فقد اعتبرت أنقرة أن الملف النووي الإيراني لن يهددها نظرا للهدوء الذي ساد الحدود التركية الإيرانية منذ تلك المعاهدة. وفي السياق نفسه، أُنجزت معاهدة مع فرنسا ربما بناء على نظام الامتيازات الذي منحه السلطان سليمان القانوني للتجار الفرنسيين.
وليست تركيا وحدها هي التي تستند إلى التجربة التاريخية، فروسيا استعادت عام 1783 1856 عندما ضمت القرم عام 2014. ولهذا أعلن أردوغان أنه لن يعترف بهذا الضم أبدا. وبناء على هذا الإرث يمكن لنا أن نفهم ما جرى الشهر الماضي باعتباره نتاجا لتجاوزات روسية مستمرة.
ويشير الكاتب هنا لخروق الطائرات الروسية والتحركات العسكرية البحرية حتى قبل أن تتدخل في سوريا هذا الخريف، بحيث أصبحت تركيا محاصرة بالجيش الروسي، وهو ما دفع رئيس هيئة الأركان التركي، خلوصي أكر، إلى القول بأن بلاده أصبحت “داخل دائرة من لهب”.
وكان الجنرال يعلق على حادث اختراق طائرة روسية للمجال الجوي في 3 أكتوبر، حيث تصدت لها طائرتان تركيتان ورافقاتها حتى دخلت الأجواء السورية. ورغم مزاعم روسيا بأن الحادث كان بالخطأ إلا أن الطائرات الروسية استمرت في تجاوزاتها، وهو ما دفع تركيا لدعوة الناتو لاجتماع طارئ. وحصلت على دعم من الأمين العام للناتو، يانز ستولتنبرغ.
واقترحت تركيا في مرحلة لاحقة لوقف التجاوزات لجنة تركية روسية للتنسيق، إلا أن الروس لم يفهموا الرسالة على ما يبدو أو أنهم كانوا يخترقون المجال الجوي التركي عن قصد.
وعليه، فالحادث الأخير لم يكن مفاجئا ويجب أن لا يكون مفاجئا خاصة لباحثي الشؤون الدولية المهتمين بتحليل المفهوم والعملية التي أدت للصدام الحالي بين البلدين.
ولكن كيف حدث هذا في ظل علاقة قوية بين بلدين يحكمهما رجلان قويان منذ وقت طويل؟ فمهما كانت رؤية كل طرف حول طريقة إسقاط الطائرة، فالحرب السورية إن لم يتم وقفها أو إدارتها بشكل جيد، فستتحول إلى حرب بالوكالة بين تركيا وروسيا وربما الناتو كما يقول “أونفير”.
فبالنسبة لتركيا، فالحصار العسكري يعبر عن رؤية امبريالية وهو ما سيدفعها لاتخاذ موقف. وأكثر من هذا فاستمرار التجاوزات الجوية لا تعتبر مشكلة تركية بل تعتبر تحديا للناتو. أما روسيا، فنشاطها الجوي يعبر عن رد على النشاطات الأمريكية في القطب الشمالي والمحيط الهادئ.
ويعتقد “أونفير” أن تركيا وخلال القرون الماضية عانت هزائم بسبب الصعود الروسي، خلال حرب القرم والحرب العالمية الأولى والحرب الباردة، حيث حاولت حماية نفسها عبر تحالفات مع الغرب.
ولكن يجب أن لا يكون الرد عسكريا دائما، بل من خلال تخفيف نشاطات الناتو في القطب الشمالي والمحيط الهادئ ونقل مظاهر القلق التركية لروسيا على مستوى الناتو، وهو ما قد يحمي العلاقات الروسية التركية من أشباح الماضي.
وفي النهاية، تظل سوريا هي الساحة التي يمكن من خلالها تجنب شرور العلاقات الماضية. لكن بوتين على ما يبدو مصمم على حرمان تركيا من القوى المؤيدة لها في سوريا ودعم تلك التي تخشاها أنقرة وهي الأكراد، وهو ما يجعلنا ننتظر في الأيام المقبلة تصعيدا جديدا.