“خاص- وطن”- “خرجا يطلبان حباً ووطنا”، عبارة تنطبق على كل عاشقَين خرجا دفاعاً عن هذه الأرض، فمنذ بداية الهبة الجماهيرية الفلسطينية أصبحت أرض المواجهات في مدينة البيرة والخليل وبيت لحم والقدس في فلسطين المحتلة، مكاناً لالتقاء العشاق، وللاستبسال في مواجهة المحتل الاسرائيلي.
في ساحة ظل وقفت وطن تغطي وجه وليد باللثام، ذلك اللثام الذي طالما تعبق بدماء شهداء هذه الأرض، كوفيةٌ مخططة باللونين الأبيض والأسود، تعني الكثير لشهداء روت دماؤهم هذا التراب الطاهر، وكذلك تعني الكثير لشقيقه الذي ما زال يلفها حول عنقه لتبقى رائحة دم أخيه تحيطه، هي ذاتها الكوفية التي ما زالت منتصبة في غرفة الضيوف فوق صورة ذات الشهيد.
أحكمت وطن اللثام حول رأس وليد، وعادت فتقدمته ليحكم لها هو الآخر لثامها، الذي غطى وجهها ما عدا عينين مكحلتين كأنهما القمر في منتصف عمره.
حينها التقت العيون وتبادلت أسمى نظرات الحب وعشق الوطن.
تقدما بقامتين منتصبتين كأنهما الزيتون في شموخه وتجذره، وصلا لنقطة استراتيجية، وفيها بعض الأمان.
وبدأ وليد باستعمال “الشعبة”- هي عبارة عن أداة تقذف بها الجحارة- لإلقاء الحجارة اتجاه الجنود المتمركزين على بعد عشرات الأمتار.
“الشعبة” التي تُجسِّد فيها إيمان الشعب الفلسطيني بالانتصار، فهي قطعة خشبية بشكل علامة النصر، التي طالما اعتز بها الفلسطينيون في جميع المحافل، وعلى أطرافها شريط مطاطي مثبت في وسطه قطعة قماش لتثبيت الحجر عليها.
احتجّت وطن، وطلبت من وليد تدريبها لاستخدام “الشعبة”، وبعد إصرار وإلحاح كبيرين، وهما صفتان طالما وصفت فيهما وطن، وافق وليد على ذلك، وبدأ بإرشادها لكيفية استخدامها، لكنه قال لها: “لن تتمكني من إيجاد استعمالها، فهي تحتاج ليد قوية.. قالت له: “سترى ما الذي سأفعله”.
أعطاها “الشعبة” فالتقت الأيادي، والتقطتها وطن بيدين واثقتين، ووضعت حجراً متوسط الحجم على قطعة القماش، بالكيفية التي علّمها إياها وليد.
وبدأت بشد الشريط إلى الخلف بأقصى ما تملك من قوة، لكي يصل الحجر إلى أبعد نقطة يمكن له أن يصلها، ثم تركته، وانطلق الحجر إلى سبيله.
لكن في ذات اللحظة انقطع الشريط المطاطي، فالتقت العيون مجدداً لكن مع ابتسامة ظهرت من خلال التجاعيد التي تكونت حول العيون.
في تلك اللحظة بدت عيون وليد تغازل عيون وطن المكحلتين، كأن موج البحر يغازل يافا عروس البحر، ويداعب شاطئها.
تنبهت وطن من ضحكتها وقالت له: “أرأيت؟!”، فعادا وانفجرا ضحكاً، يسرقان من وسط المواجهات صوت القنابل بضع لحظات حب.
في سماء منطقة البالوع عند المدخل الشمالي لمدينة البيرة، تساقطت قنابل الغاز المسيل للدموع كالمطر فوق رؤوس الشبان والشابات.
لكي عيني وليد ترقب القنابل القريبة من نقطتهم الاستراتيجية التي ما عاد فيها شيء من الأمان، فشدَّ يد وطن وركضا بعيداً، هرباً من قنبلة كانت في طريقها إليها.
تراجع الشبان وتراجع وليد ووطن، لأخذ استراحة محارب، وهو المصطلح الذي أطلقه شبان المواجهات على لحظات راحتهم لأخذ جرعة هواء خالٍ من الغازات السامة، أو لحظات أخرى لاستعادة الأنفاس بعد انقطاعها من التعب.
ما أن تبعثرت الغازات حتى عاد الشبان أدراجهم، وعاد وليد ووطن كذلك لنقطتهما الاستراتيجية.
ولكن، آثر وليد أن يستعمل يديه لإلقاء الحجارة بعد عطل أصاب ” الشعبة”، فكرت وطن في أي طريقته لمساعدته، فلم تجد أمامها إلا أن تجلب له حجارة متوسطة الحجم من قطعة الأرض المجاورة.
فالتفت إليها وليد، وقال في نفسه: “إني والله أخشى عليها، فجسدها ندي لا يحتمل كل هذا التعب”.
ها قد شارفت شمس السماء على الاختباء خلف التلال المجاورة، وتجهز وليد ووطن للمغادرة، فأسرعت وطن بالذهاب خلف عمارة مجاورة، وما هي إلا دقائق حتى خرجت، وما زادها أحمر الشفاه الذي وضعته إلا رونقاً وجمالاً، والتقت بوليد الذي تبسم فرحاً غامراً، وانطلقا ينشدان موطني.