وسط منطقة الشرق الأوسط التي يُعاد تأسيسها من جديد، ورسم ملامح لها، علي خلفية موجات التغيير التي هبت علي دول العالم العربي، فجعلتها مُفككة مذهبيًا، ومنها من يعيش في خضم حرب أهلية تعصف بمصير أملهم في حياة مستقرة، وقلاقل من صراعات مُحتملة علي السلطة بين الأسر الحاكمة، ظلت “سلطنة عمان”، الدولة ذات نظام الحُكم الملكي في منأى عن هذه التغييرات، تسعى لبناء جسور دبلوماسية عمانية لإنهاء النزاعات في منطقة الشرق الأوسط بدبلوماسية شديدة الدهاء، تتلمس خطواتها في سرية شديدة لتنال ثقة معظم الفعالين في منطقة الشرق الأوسط، ويتعاظم دورها السياسي.
خلال السطور التالية، تشرح “ساسة بوست” طبيعة هذه الأدوار والمهام التي اضطلعت بها سلطنة عمان، وجعلتها ذات حيثية في الشرق الأوسط، وكيف أسست لها موقعًا محايدًا تجاه أطراف الأزمة لتكتسب نفوذا كوسيط سلام موثوق فيه، وشريك إستراتيجي لواشنطن.
السلطان قابوس بن سعيد .. عراب التسوية بين إيران وواشنطن
في خضم الأزمة المُتصاعدة منذ سنوات بين إيران والغرب، لعبت الدبلوماسية العُمانية دور الوسيط في الترتيب للتفاوض بين الطرفين بتنظيم اجتماعات سرية بين دبلوماسيين وقادة أمنيين من كلا البلدين في “مسقط”، منذ العام 2011 في محاولة للوصول إلى أرضية مشتركة، والتي نتج عنها اتفاق جينيف، واتفاق مؤقت حول البرنامج النووي الإيراني في نوفمبر2013.
ففي نوفمبر 2013، استضافت العاصمة العمانية مسقط جولة مباحثات رفيعة المستوى بين وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونظيره الإيراني جواد ظريف بحضور كاثرين أشتون مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، وهي الجلسة التي سبقت جلسات سرية قبل التوصل للاتفاق المرحلي قبل عام.
تقول الباحثة في الشأن الإيراني فاطمة الصمادي، أن استضافة مسقط لهذا الاجتماع المُعلن وما سبقها من اجتماعات سرية ليس محل صدفة، بل إن اختيارها يحمل بعدا سياسيا حول مكانتها في المنطقة، ولا سيما لدى طهران”.
في حوار مع الصحافية الأمريكية الشهيرة “جوديت ملير” لعام 2012، أوضح السلطان قابوس أن “على إيران والولايات المتحدة الأميركية أن يجلسا معًا ويتحدثا”، و”أنه يمكن وجود حل للصراع الأمريكي مع إيران. وقد حان الوقت لهذا الحل، وأنا أعلم أن الإيرانيين مهتمون”.
“سياسي هاديء وداهية يمكث في قصر فخم في المكان الأقصى متصلا بمعلومات تأتي من العالم الكبير، لايحب وسائل الإعلام، التي تنبش في أموره، يحاول أن يبحث عن دور له بهدوء شديد ” هكذا وصفت الصحافية الأمريكية “السلطان قابوس” بعد الانتهاء من الحوار. أكمل 75 عامًا، ليصير خريج الأكاديمية العسكرية الملكية “ساند هيرست” في بريطانيا، أقدم الحكام الذين ما زالوا على رأس السلطة في العالم العربي.
تعود جذور العلاقة التاريخية بين إيران وعمان، إلى أوائل الستينيات، مع دعم الشاه العسكري لمواجهة الثورة في ظفار بين عامي 1962 و1976، في حين كانت بعض الدول العربية تدعم الثوار رسميًا وتدربهم، وكذلك امتد هذا التعاون إلى تأييد انقلاب قابوس على والده في عام 1970، والتي انعكست علي حجم التعاون التجاري والعسكري، والتي جعلت “عُمان” توافق على تمثيل المصالح الإيرانية في بعض الدول الغربية التي لا تمتلك إيران فيها أي تمثيل دبلوماسي، كبريطانيا وكندا.
سلطنة عُمان .. وسيط خارج سرب الخليج في أزمة اليمن
في شهر مايو لعام 2015، سافر مسؤولون أمريكيون إلى عمان لإجراء مباحثات “سرية” مع وفد حوثي بشأن الأوضاع السياسية في اليمن، ومحاولات الوصول إلى حل بين كافة أطراف الصراع، وكان هذا الاجتماع أول محادثات رفيعة المستوى بين واشنطن والحوثيين منذ دشنت الرياض عملية عاصفة الحزم، وإدراك واشنطن فشلها في تحقيق الأهداف المُعلنة.
قبل هذه الجولة من المُباحثات المُعلنة بين الجانبين، كانت “مسقط” استقبلت وفدا من جماعة الحوثيين على طائرة أمريكية خاصة برئاسة رئيس المجلس السياسي للجماعة، صالح الصماد، لمناقشة حل سبل الأزمة اليمينة، وسط صمت رسمي من الحكومة العُمانية تجاه هذه الزيارة التي جرت في سرية شديدة.
سعت عُمان للعب دور فاعل في الأزمة اليمنية منذ اندلاع الاشتباكات، مُتخذة لنفسها موقعًا محايدًا تجاه أطراف الأزمة لتكتسب نفوذا كوسيط سلام موثوق فيه، من كافة أطراف الأزمة مع بعض التحفظ من جانب دول مجلس التعاون الخليجي.
موقف عُمان المُحايد من الأزمة اليمنية، وعدم انخراطها في الصراع المُسلح، مرتبط بسياق تاريخي علي خلفية دعم اليمن لحركات التمرد في ظفار بعمان، الهادف لتقويض نظام الحُكم، كذلك تخوفها من تدفق المتطرفين اليمنيين المستمر إلى بلادها، عبر ادعائهم أنهم لاجئيين حقيقين، وكذلك تشككها من النظام السياسي الجديد في اليمن على استقرار حقبة ما بعد قابوس.
فخلافًا للموقف المُوحد لكافة أعضاء مجلس التعاون الخليجي في الحملة العسكرية علي اليمن، كانت عُمان هي العضو الوحيد بمجلس التعاون الخليجي الذي رفض المشاركة في حملة الرياض الجوية، وقررت الإبقاء علي مقر سفارتها في العاصمة اليمنية “صنعاء” التي تقع تحت سيطرة الحوثيين، بينما نقلت كافة دول التعاون الخليجي مقار سفاراتها إلى عدن.
مندوب إيران في الأزمة السورية
لم تغب “عمان” كذلك عن مسرح الأزمة السورية، بل كانت في مُقدمة الوساطات بتنظيم العديد من اللقاءات السرية بين كافة الفاعلين في الأزمة السورية “بمسقط” من خلال دورها كصديق إيران الوحيد في مجلس التعاون الخليجي، وشراكتها الدفاعية الوثيقة مع حلفائها الغربيين، وكذلك شركائها في مجلس التعاون الخليجي، والذين تتشارك معهم الاستخبارات بموجب اتفاقية دول مجلس التعاون الخليجي لمكافحة الإرهاب.
ففي الشهر الماضي، التقى إبراهيم المعلم، وزير الخارجية السورية، في أول زيارة له لدولة خليجية مع وزير الخارجية العماني، يوسف بن علوي، منذ اندلاع الأزمة السورية منذ 4 أعوام، لتعلن عن مساعيها بشكل رسمي، وتدخل على خط الوساطة للوصول إلى حل للأزمة السورية المندلعة منذ 4 أعوام وسط تكهنات بإمكانية عقد لقاء ثلاثي بين وزراء خارجية سوريا والسعودية وإيران في عُمان”.
لم تقطع سلطنة عُمان علاقتها الدبلوماسية مع دمشق أسوة بشركائها الخليجين، لتدعيم موقفها كطرفٍ محايد لتصبح الجسر الرئيسي بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي.
“السلطنة لها دور مهم في التعامل مع نقاط التوتر في منطقتنا المختلفة، وننتظر ما ستفضي إليه الوساطة العُمانية، ومن البديهي أن يكون الدور العُماني موجودا في الأزمة السورية للمساعدة في حلها” هكذا يصف الرئيس السوري بشار الأسد مهام دولة عُمان في المنطقة بشكل عام والأزمة السورية بشكل خاص في مقابلة تليفزيونية مع قناة المنار اللبنانية التابعة لحزب الله.
الشريك الصامت للولايات المُتحدة الأمريكية
لعمان أهمية إستراتيجية كُبرى للولايات المُتحدة الأمريكية، فهي الشريك العسكري الأبرز لها، والوسيط الموثوق فيه من جانب الإدارة الأمريكية في المُباحثات الدولية حول الشرق الأوسط خصوصًا مع إتقانها سياسة “جيران بلا مشاكل” التي نجحت من خلالها في بناء جسور داخل المنطقة بين الشرق والغرب، واكتساب شرعية وثقة من كافة الحلفاء.
هذه الأهمية الإستراتيجية بين الجانبين ظهرت في تعزيز الجانب الأمريكي لوجوده العسكري في حليفه عبر مجموعة من الأصول العسكرية المهمة، شملت قاعدة المصيرة الجوية، وقاعدة ثمريت البحرية الجوية للطائرات الدورية المضادة للغواصات المتمركزة في عمان، وعدد من القوات الجوية الأمريكية لمطار السيب الدولي.
في أكتوبر العام قبل الماضي، حصلت سلطنة عُمان علي صفقة (صواريخ أرض – جو) ناسا مز المتطورة، منظومة أمريكية متكاملة للدفاع الجوى، والتي تعد ذات قدرة عالية، تفي بالمتطلبات العملياتية وتوفر نظام حماية جوية، كما أنها مزودة بأحدث التقنيات في الأنظمة الدفاعية.
هذه العلاقة جعلت عُمان هي الوسيط الأكثر ثقة من الجانب الأمريكي في قضايا الشرق الأوسط، وخصوصًا مع إيران كما حدث في 2011، حيث لعبت عُمان دورا مركزيا في التوسط من أجل إطلاق سراح ثلاث رحالة أمريكيين اتهمتهم إيران بالتجسس. لذا لم تكن قدرة قابوس على جلب واشنطن وطهران إلى طاولة المفاوضات مفاجأة.
هل ستصمد إستراتيجية عُمان أمام رياح التغيير في الشرق الأوسط؟
في يوليو 2014، وُضع السلطان “قابوس” ذو الأربعة وسبعين عامًا تحت عناية الأطباء في ألمانيا بسبب ما يقال أنه سرطان القولون، ليدفع مسألة خلافته كأبرز تحدٍّ داخل النظام الاجتماعي والسياسي العُماني، وتزداد التحليلات عن قضية السلطة داخل السلطنة التي عرفت انقلابًا على السلطة من قبل من جانب “قابوس” على والده، واحتمالية الصراع على السلطة بين الورثة المُحتملين أو بين الأسرة الحاكمة وقادة الجيش ما قد يعصف بالاستقرار الذي عرفته خلال العقود الأخيرة من تاريخها.
ليس لدى قابوس زوجات ولا أطفال ولا وريث واضح، ما يحيل مسألة تحديد خليفه إلى الدستور العماني المعروف باسم القانون الأساسي، والذي كتبه السلطان في عام 1996 وتمت مراجعته في عام 2011، والذي ينص على أنه بعد وفاة الحاكم، فإن مجلس العائلة سيجتمع لاتخاذ قرار بشأن خليفته، وإذا لم يبت مجلس العائلة في الأمر خلال ثلاثة أيام، فهناك أربع هيئات استشارية أخرى ستفتح رسالة كتبها السلطان مخبأة في عدة مواقع في جميع أنحاء البلاد، بها قائمة باختياراته لخليفته بالترتيب.
ويُعتقد أن الأسماء المُرشحة لخلافته هم: سعد بن طارق رجل الأعمال الذي درس في ساندهيرست. وهيثم بن طارق وهو وزير الثقافة في سلطنة عمان. وشهاب بن طارق الذي قاد البحرية لمدة أربعة عشر عامًا، ولكنه تقاعد من منصبه قبل عقد من الزمن، والذين لايُعرف عنهم الكثير.
يوضح هذه المخاوف، القائد السابق لسلاح الجو السلطاني، محمد العارضي: “يظن الناس أنه من الأسهل البقاء بعيدًا عن المتاعب، والأكثر صعوبة هو الانخراط فيها، ولكن على العكس من ذلك، فإنه من الصعب للغاية البقاء في نفس المسار والابتعاد عن الصراع. هذا ما قام به جلالة الملك”.