عندما زار وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف كلاً من بغداد وبيروت قبل فترة قصيرة، تحدث عن استقرار العراق ولبنان، لكنه كان عملياً يعني «استقرارهما» في أيدي حلفاء إيران، أي «حزب الدعوة» و «حزب الله» اللذين يهيمنان على القرار في هذين البلدين، بما يتماشى مع توجهات طهران الإقليمية والدور الذي تسعى الى تعزيزه في المنطقة بعد انجاز الاتفاق النووي مع الأميركيين.
وهكذا تكرر السيناريو ذاته في العاصمتين: أزلام إيران ينقضّون على تحرك شعبي شعروا بأنه يهدد هيمنتهم وتفردهم بالقرار، ولأسباب غير تلك التي يعلنونها.
ففي بيروت، خرج متظاهرون مسالمون السبت الماضي بأعداد متواضعة قاربت عشرة آلاف شخص بحسب المنظمين، وهو رقم لا يوحي بالقدرة على «انقلاب»، ويفترض ان لا يخيف المسؤولين السياسيين والأمنيين اذا ما قورن بحجم التظاهرات المليونية التي خرجت في عز الانقسام بين فريقي 8 و 14 آذار. لكن الذي جعل فرائص وكلاء الايرانيين ترتعد، كان ان هؤلاء المتظاهرين عابرون للطوائف والمذاهب، ونجحوا في إلغاء القواطع المرسومة بدقة وعمق بين المكونات اللبنانية، وتوحدوا تحت شعار محاربة الفساد مطالبين فقط برفع الإهمال والغبن اليوميين اللذين يفتكان بعيشهم.
استطاع التحرك على بساطته ان يضع الطبقة السياسية كلها في قفص الاتهام فلا يفرق بين ممثلي طائفة وأخرى، بمن في ذلك «شيعة ايران» الذين اكتشفوا ان المتظاهرين العفويين قد يشكلون، بسبب مطالبهم المحقة وتعبيرهم عن سخط اهلي محتدم، نواة لحركة أوسع لن يستطيعوا استيعابها، ولهذا جاء قرار مواجهتهم بعنف شديد فاق التوقع. لكن التعاطف الشعبي الذي نالوه بعد تفريقهم بمدافع المياه والهراوات والرصاص الحي، أحرج أهل السلطة، وضاعف مخاوف «حزب الله» من انهيار الجدران النفسية التي يرعاها بين اللبنانيين وتخدم استئثاره بطائفته وبالبلد كله.
وكان أن أرسل في اليوم التالي عصابات تأتمر به لافتعال مناوشات مع قوى الامن وحرف التظاهرة عن سلميتها وعفويتها وشمولية مطالبها، فأطلق هؤلاء الشعارات الطائفية، وحطموا واجهات المحال التجارية وإشارات السير، في تجسيد لحقد قديم على بيروت ووسطها التجاري الذي يمثل جزءاً من إرث رفيق الحريري واتفاق الطائف. ولم يسلم ضريح الراحل من اساءاتهم، وهم المُتهمون بدمه.
وفيما الحركة المطلبية السلمية تجهد للحفاظ على زخم تحركها وانقاذه من الغوغاء التي استولت عليه، وإعادة تأكيد هويتها الأهلية الجامعة، عطل وزراء الحزب ووزراء حليفه ميشال عون جلسة الحكومة التي كان يفترض ان تعالج بعض المطالب الشعبية الملحة، ملوحاً بالنزول الى الشارع، وهو أمر يجيده، وتاركاً التحرك الشعبي في بلبلة وحيرة.
وفي بغداد، ألمّ الجزع نفسه باتباع إيران عندما انطلقت تظاهرات شعبية شارك فيها سنّة وشيعة ومسيحيون، وخلت شعاراتها من السياسة، مقتصرة على مطالب وقف الفساد والهدر وتأمين الكهرباء، وقفزت بعفوية فوق الطائفية التي تكرسها الاحزاب الايرانية الهوى وتعمل على قوننتها وتأبيدها.
وبدت اللحظة سانحة لرئيس الوزراء العبادي لتصفية الحسابات داخل «حزب الدعوة»، فركب موجة «الاصلاحات» وحاول الإطاحة بسلفه وخصمه المالكي الذي لا تزال له يد طولى في مؤسسات الدولة وأجهزتها، لكن طهران التي لم تستسغ الانشقاقات في صفوف حلفائها الأقربين سارعت الى ارسال قاسم سليماني للجم العبادي واستيعاب التحركات الشعبية. وتجول رجل «الحرس الثوري» القوي في سوق كربلاء في تأكيد لأولوية المرجعية الايرانية السياسية والمذهبية، وسيادة قرارها في الشأن العراقي. ولم تتأخر مواقف الأحزاب الشيعية العراقية الموالية لطهران في الظهور تباعاً، ساعية الى استعادة زمام الأمور من الشارع الذي توحّد في غفلة منها، وانبرى بعضها يدافع عن المالكي ويحد من اندفاعة العبادي، وسارع آخر الى محاولة تجيير التظاهرات لمصلحته عبر دعوة تياره الى المشاركة الكثيفة فيها.
في العاصمتين اللبنانية والعراقية، نجحت ايران في اجهاض تحركين عفويين هددا بكسر هيمنتها عبر إزالة التقسيمات المتعددة المستوى التي يستخدمها حلفاؤها لرسم موازين القوى والإمساك بالقرارات، ولم تستطع العفوية الشعبية الصمود في وجه آلتهم الحزبية وعنفهم وخبثهم. وأثبتت ايران انه عندما يتعلق الأمر بخطر يحيق بنفوذها، سرعان ما تنسى تصريحات مسؤوليها الواهية عن «فتح صفحة جديدة» في سياستها الاقليمية.