قتلت المجموعة التي تدعو نفسها باسم الدولة الإسلامية الآلاف في العراق، وسوريا، وغيرها، وتستمر الدول والمؤسسات الإعلامية حول العالم في شجب تكتيكاتها الوحشية، والتي تشمل قطع الرؤوس أمام العامة، والذبح الجماعي للسجناء العزل، واستعباد النساء والفتيات جنسيًا.
ولكن رغم ذلك، وإذا ما كان التاريخ الغربي يشكل أي دليل، فمن الممكن أن تكون الدولة الإسلامية في طريقها للحصول على الشرعية الدولية.
ويؤكد لنا التاريخ أن ارتكاب الفظائع الجماعية ليس عائقًا أمام النجاح في المستقبل. وخلال “عهد الإرهاب” الذي تبع الثورة الفرنسية، قطعت الحكومة الثورية الفرنسية علنًا رؤوس ما يقدر بنحو 30 إلى 40 ألف شخص، باسم الحرية والمساواة والأخوة. وفي وقت مبكر من 1790، قتل ما لا يقل عن 150 ألف فرنسي آخر، وأحرقوا حتى الموت، وقطعوا لأجزاء، أو أغرقوا عمدًا في منطقة فيندي الفرنسية. وقيل إن الجنرال الفرنسي، فرانسوا جوزيف فيسترمان، كتب بعد واحدة من الحملات الوحشية جدًا: “لقد سحقت الأطفال تحت حوافر الخيول. لقد ذبحت النساء اللواتي، على الأقل بالنسبة لهؤلاء، لن يلدن المزيد من اللصوص، لقد أبدت الجميع؛ وزرعت الطرق بالجثث“. وخلص فيسترمان إلى أن “الرحمة ليست مشاعر ثورية“.
وليس من الممتع قراءة هذا، ولكنه حدث منذ فترة طويلة، وفرنسا اليوم قوة أوروبية مهمة. وهي حليف كبير للولايات المتحدة.
هل حدث ذلك منذ سنوات كثيرة جدًا؟ حسنًا، للنظر إلى تركيا بين عامي 1915 و1918، حين قتلت السلطات العثمانية أكثر من مليون أرمني فيما يسميه الجميع تقريبًا، باستثناء الدولة التركية، بالإبادة الجماعية. ولكن مرت مئة سنة على حدوث ذلك. واليوم، تعد تركيا حليفًا حيويًا في حلف شمال الأطلسي.
هل ما زال هذا التاريخ قديمًا جدًا؟ إذًا فلننظر إلى الأربعينيات من القرن المنصرم، حين تجاوز عدد القتلى نتيجة المحرقة نحو 11 مليون من المدنيين، معظمهم من اليهود. ولكن اليوم، ألمانيا هي صديقتنا المفضلة في الاتحاد الأوروبي. ولا تقلقي أنجيلا ميركل، لقد تم نسيان كل شيء!
لقد كان تكوين الدولة، وتوطيد السلطة بشكل عام، عملًا دمويًا دائمًا. وفي حين يعرف المؤرخون، وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، وعلماء السياسة، هذا جيدًا، يميل بقيتنا إلى تجاهله، أو مجرد إزالته من كتب تاريخنا.
وغالبًا ما ينظر إلى حرب الثلاثين عامًا، التي سوت مساحات واسعة من أوروبا بالأرض وقتلت ما يقرب من ثلث السكان في العديد من المناطق، من قبل العلماء على أنها السبب في قيام الدولة القومية الأوروبية. وخلال الأربعة قرون التالية، قتل توطيد الدولة الأوروبية العديد من الملايين الآخرين. ولاحظ أوتو فون بسمارك، وهو مهندس الوحدة الألمانية، في عام 1862: “ليس بالخطب وقرارات الأغلبية تم تقرير الإجابات على التساؤلات الكبرى للعصر، بل عن طريق الحديد والدم“.
وبينما كان هذا يحدث، كانت الولايات المتحدة تتعلم، أو تعيد تعلم، الدرس نفسه، حتى حينما ألقى بسمارك خطابه الشهير. وبين عامي 1861 و1865، حارب مئات الآلاف من الأمريكيين من أجل “حق” استعباد 4 ملايين من الأمريكيين الآخرين تقريبًا، وتم قتل مئات الآلاف قبل أن يتم حل المشكلة، وهو ما ترك الحكومة المركزية الأمريكية أقوى من أي وقت مضى.
وكل هذا من تاريخ الغرب فقط، ولا يتجاوز بضع لقطات مما حدث في مئات السنين القليلة الماضية. وإذا ما رمينا بقية دول العالم في الصورة، فسنجد الأمر نفسه يتكرر. قطع الرؤوس؟ حدث، التعذيب؟ حدث أيضًا، المجازر بحق المدنيين العزل؟ حدثت، وحدثت، وحدثت…
ولا يمنح أي شيء من هذا كله عذرًا للفظائع التي ترتكبها الدولة الإسلامية في الوقت الحاضر أو يجعلها أقل رعبًا، ولا سيما في هذا العصر الذي يعترف فيه الجميع تقريبًا بحقوق الإنسان الأساسية. ولكن إذا تجاهلنا الاستمرارية التاريخية بين السلوك الحالي للدولة الإسلامية والسلوك الماضي لعشرات الدول الأخرى التي تعتبر من الجهات العالمية الفاعلة والمثالية الآن، فإننا نخاطر بسوء فهم المنطق الذي يقف وراء عنف الجماعة الذي يبدو بلا معنى، ونخاطر بالتالي بزيادة احتمالات تعرض جهود الولايات المتحدة الحالية لإنهاء عهد الإرهاب للفشل.
ويسمح لنا الفشل في وضع إجراءات الدولة الإسلامية في سياق تاريخي بالحفاظ على الوهم المريح، ولكن الكاذب، الذي يقول إن الدولة الإسلامية هي مجرد مجموعة “مجنونة”، أو كما قال الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، في عام 2014، “ليس لديها رؤية غير الذبح“، وفي عام 2015، بأنها “لا تستطيع أبدًا الفوز (بأي شخص) من خلال أفكارها أو أيديولوجيتها، لأنها لا تقدم شيئًا منها على الإطلاق”.
ولكن، لا تقع في خطأ الاعتقاد بهذا. قد يكون زعيم الدولة الإسلامية، أبو بكر البغدادي، مسؤولاً عن الآلاف من جرائم حرب والجرائم ضد الإنسانية، ولكنه ليس أحمقًا. وكما لاحظت جيسيكا ستيرن وجم بيرغر في كتابهما الأخير عن الدولة الإسلامية، كان تفكير البغدادي متأثرًا إلى حد كبير بأبو بكر ناجي، الذي حث كتابه القصير، والمعنون “تنظيم الوحشية”، على الاستخدام المحسوب للعنف الشكلي، والذي يحظى بتغطية إعلامية واسعة، كوسيلة لزرع الاحترام والخوف بين كل من أعداء وأنصار الإسلام الراديكالي على حد سواء. وبالتالي، نعم، الدولة الإسلامية وحشية، ولكن لديها بالتأكيد رؤية أبعد من مجرد القيام بالذبح، وبغض النظر عن كلمات أوباما، أثبتت هذه الرؤية بوضوح قدرتها على كسب الآلاف من المجندين الشباب من جميع أنحاء العالم.
وربما سيكون من الحكمة أن نفترض أن قيادة الدولة الإسلامية تفهم دروس التاريخ الوحشية. ويستطيع الوقت في النهاية أن يخفف من وطأة حتى أشد الجرائم فتكًا. وإذا ما سمحنا بمرور عقود قليلة، من الممكن أن يتم غفران كل الفظائع من قبل المجتمع الدولي. وكما هو الحال بالنسبة لتركيا، ليس عليك حتى أن تقول آسف، أو يمكنك الانتظار 100 عام قبل أن تقدم الاعتذار، والتعازي الفاترة، التي ستبدو كافية حينها.
ولدى الولايات المتحدة سمعة سيئة فيما يتعلق بقصر الذاكرة، وعدم قدرتها على النظر بعيدًا إلى الأمام. نحن أمة تركز اهتمامها على “الآن”، وغير قادرة بشكل متزايد على تطوير أو الحفاظ على رؤية استراتيجية متسقة من الممكن أن تستمر لأكثر من بضع سنوات. ولكن يجب ألا نراهن على أن الدولة الإسلامية تعاني من نفس المشكلة. ومن المفترض أن قادتها يفهمون جيدًا أن المستوى الحالي من الوحشية يضمن لهم العداء الدولي، ولكنهم قد يقامرون بأنه إذا كان بإمكانهم تدعيم سيطرة الدولة الإسلامية على حقول النفط بما فيه الكفاية، والموانئ، وغيرها من مصادر الثروة، فضلاً عن تقليص الأعمال الوحشية، فسوف يستطيعون بعدها الجلوس وانتظار الحصول على المغفرة الدولية.
وإذا ما كان هذا هو المنطق وراء الإجراءات الحالية للدولة الإسلامية، قد يكون المجتمع الدولي قادرًا على اضطرار الدولة الإسلامية على التخلي عن الأشكال الأكثر فظاعة من أعمال العنف بسرعة أكبر من خلال وسيلة بسيطة، هي تركها وحدها.
وحتى الآن، يبدو أن الحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد الدولة الإسلامية قد حققت القليل من النتائج الإيجابية. وعلى الرغم من قول المسؤولين الأمريكيين إن الحملة قتلت أكثر من 10 آلاف من مقاتلي الدولة الإسلامية، خلصت تقارير المصادر الاستخباراتية إلى أن الدولة الإسلامية لم تضعف. وفي أحسن الأحوال، تقوم الحملة بإطالة أمد الوضع الراهن. ولن تكون هذه الحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة ضد الدولة الإسلامية كافية لهزيمة أو تدمير الجماعة الجهادية، ولكن من المؤكد أنها ستكون كافية لزيادة عداء الدولة الإسلامية للغرب. وفي الواقع، هناك سبب للاعتقاد بأن الحملة العسكرية قد وسعت الانتشار العالمي للدولة الإسلامية، وعززت جهود تجنيدها.
ولكن قادة الدولة الإسلامية يطمحون إلى تشكيل دولة “حقيقية”، معترف بها ولو على مضض من قبل القوى العالمية الأخرى، في نهاية المطاف. وقد يكون من الأفضل لنا بالتالي التحول إلى استراتيجية الاحتواء، بدلاً من استمرار محاولاتنا الحالية غير الفعالة “لتفكيك وتدمير المجموعة في نهاية المطاف“.
ورغم كآبة هذه الفكرة، إلا أننا إذا ما توقفنا عن قصف الدولة الإسلامية، فقد تقوم المجموعة بترويض نفسها بوتيرة أسرع من ترويضنا لها. وربما يستنتج قادة الدولة الإسلامية، مثل عدد كبير من الأنظمة الهمجية السابقة، أن الأعمال الوحشية تولد الفوضى الداخلية والتمرد في نهاية المطاف.
وبالطبع، قد لا يكون لدى البغدادي وحاشيته أي نية لإيقاف العنف يومًا ما؛ وربما يعتزمون مواصلة المستوى الحالي من الوحشية لأجل غير مسمى؛ وقد لا يكون لديهم مصلحة في ممارسة الرقابة الدائمة على أي إقليم. وفي جزء كبير من تاريخ البشرية، كان الدين أو ولاء الدم مبدأ التنظيم السياسي الأكثر أهمية من مبدأ السيطرة على الأراضي المحددة، وهكذا كان الحال في الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الرومانية. وقد لا يهتم قادة الدولة الإسلامية في نهاية المطاف بما إذا أخرجوا من العراق أو سوريا، طالما أنهم يستطيعون كسب أنصار جدد، ومصادر جديدة للثروة والسلطة، في أماكن أخرى، حتى لو كانت تلك الأماكن متغيرة وغير متجاورة. وفي الواقع، يوحي خطاب الدولة الإسلامية بهذا تمامًا.
وبغض النظر عن كل ما سبق، تشير الأحداث الأخيرة إلى أن الدولة الإسلامية قد لا تحتاج بالضرورة إلى التخلي عن تكتيكاتها الوحشية من أجل الاستمرار واكتساب الشرعية.
وإذا ما نظرنا إلى طالبان، على سبيل المثال. من عام 1996 إلى عام 2001، كانت أفغانستان التي تسيطر عليها طالبان معزولة دبلوماسيًا واقتصاديًا على حد سواء. ومن 2001 إلى الوقت الحاضر، تم استهداف طالبان بشكل مدمر من قبل الجيش والمخابرات الأمريكية. ولكن على الرغم من أن المسؤولين الأمريكيين أدانوا طويلاً وحشية طالبان مستخدمين نفس الأوصاف التي يستخدمونها الآن لإدانة الدولة الإسلامية، عادت واشنطن الآن لتقدم دعمًا ضمنيًا على الأقل للمفاوضات مع قادة طالبان. وتشير الشائعات إلى أن المسؤولين الأمريكيين قد يكونون في الواقع مشاركين بشكل مباشر في هذه المفاوضات.
ومن كل هذا، يستطيع قادة الدولة الإسلامية الوصول إلى استنتاج واضح، مفاده كما قال الجميع، من ماو إلى كيسنجر، أن المتمردين لا يحتاجون إلى “الفوز” من أجل تحقيق النجاح؛ بل هم بحاجة لعدم الخسارة فقط. استمر بالوجود لفترة طويلة بما فيه الكفاية، كما فعلت حركة طالبان، ولن يكون من المهم كثيرًا كم أنت متوحش. في نهاية المطاف، سوف يتعب خصومك من القتال، وسوف يتخلون عن مكافحتك ويدعوك بشأنك، أو يتخلون عن قتالك للتفاوض معك. وإذا ما اختاروا المفاوضات، فسوف يحاولون حفظ ماء الوجه من خلال التظاهر بنسيان كل تلك الفظائع التي ارتكبتها، أو ادعاء أنهم يركزون فقط على المفاوضات مع “المعتدلين”.
وبعبارة أخرى: يمكن للدولة الإسلامية الاستمرار في قطع رؤوس الناس، وفي حال لم نستطع تدمير الدولة الإسلامية، سوف نتعب ربما من محاربتها في نهاية المطاف، وسنقرر عقد صفقات معها. وبعد ذلك، سوف نسمح بمرور بضعة عقود، لتحصل الدولة الإسلامية لاحقًا على مقعد في الأمم المتحدة، إما كدولة جديدة أو كشيء غير حكومي يتمتع بشهرة دولية، وسيتم تجاهل كل تلك الفظائع الرهيبة بأدب.
وعلى الرغم من أن التاريخ يشير إلى أن ارتكاب الفظائع المروعة واسعة النطاق ليس عائقًا أمام الدخول في المجتمع العالمي، إلا أن التاريخ يشير أيضًا إلى أنه لا يوجد أي شيء مضمون، وفي حين عاشت الكثير من حركات التمرد والأنظمة الوحشية لرؤية خروجها من جرائمها، احترقت الكثير من الحركات والأنظمة الأخرى في ألسنة اللهب.
وعندما يتعلق الأمر بالتنبؤ بمستقبل الدولة الإسلامية، فإن هناك الكثير من العوامل الجديدة. إن البيئة الإعلامية العالمية التي تغطي الأحداث على مدار الساعة أمر حديث تمامًا، ومن المستحيل معرفة كيف سيؤثر هذا، أو الطابع العالمي لحقوق الإنسان، على قدرة الدولة الإسلامية على المدى الطويل في الحفاظ على نفسها أو على تصميم المجتمع الدولي على هزيمة المجموعة. ويتغير مفهوم سيادة الدولة بطرق معقدة، ومن الصعب أن نعرف ما الذي ستكون عليه القوة العسكرية والسياسية العالمية خلال العشر، عشرين، أو خمسين سنة المقبلة. قد تغير الانتخابات في الولايات المتحدة من الديناميات العسكرية الأمريكية؛ وقد تقرر الصين أو روسيا أو أي من الدول الكبرى الأخرى، عقد صفقات خاصة بها مع الدولة الإسلامية. وأخيرًا، لا تزال المجموعة مبهمة نسبيًا للغرباء؛ ومن الممكن أن تغير الديناميات الداخلية مسار التنظيم أيضًا.
ومع ذلك، لو كنت مراهنًا، لكنت وضعت اعتراضات كبيرة على فكرة أن الدولة الإسلامية سوف تهزم من قبل الولايات المتحدة. يستطيع البيت الأبيض إصدار البيانات كما يريد، وادعاء أنه يحقق “تقدمًا كبيرًا في جهودنا لتفكيك، وفي النهاية، تدمير الدولة الإسلامية”، ولكن أظن المجموعة ستظل قوية لخمس أو عشر سنوات من الآن. لست متأكدة فيما يتعلق بحصولها على مقعد في الأمم المتحدة؛ ولكن قد يحدث هذا أيضًا بعد بضعة عقود؛ من يعرف؟
وفي النهاية، أرجو أن أكون على خطأ.
روزا بروكس – فورين بوليسي (التقرير)