بعد أربعة عقود من حُكم القذافي، يبدو أنّ التعذيب وسوء المعاملة من الصفات المتأصلة في الحمض النووي للشعب الليبي. تشعر منظمة العفو الدولية بالرعب مما يحدث في ليبيا.
ليست هذه هي الطريقة التي كان من المفترض أن تسير من خلالها الأمور في ليبيا. لقد تصوّر الداعمون الغربيون للثورة الليبية ضد الديكتاتور معمر القذافي قبل أربع سنوات أنّ مع الإطاحة به من السُلطة سيكون الباب مفتوحًا أمام الديمقراطية، أو على الأقل، بعض الاحترام الجاد لحقوق الإنسان.
مما لا شك فيه أنّ زوال القذافي كان نهاية بشعة. لقد جرّه مختطفوه وهو في حالة ذهول، تسيل منه الدماء، من نفق صحراوي غرب مدينة سرت الليبية وقتلوه بشراسة. في البداية، كذب الثوريون بشأن مصير الطاغية، وزعموا أنّه توفي متأثرًا بجروح أصيب بها في المعركة، ولكنّ أشرطة الفيديو أظهرته وهو مُجرَّد من ملابسه بشكل جزئي، تبدو على وجهه آثار ضرب وطعن المتمردين بحربة أو عصا قبل إطلاق النار عليه.
غضب الداعمون الغربيون للثورة بسبب مقتل القذافي، ولكن سرعان ما طمأنهم القادة الجدد في البلاد بأنّ هذا كان مجرد كبوة مأساوية، وأنّ ليبيا الجديدة هي دولة تراعي حقوق الإنسان ويمكن الوثوق بها لإجراء محاكمات عادلة. ليس هناك مجال لمقارنة ذلك بالجماهيرية الليبية في عهد القذافي الذي استمر لأربعة عقود من الخوف، حيث كان التعذيب من الفنون الجميلة التي تمارسها الدولة بحماس جنوني ضد النشطاء الليبراليين والإسلاميين على حد سواء، أو ضد أي شخص تكرهه “العائلة”.
أربع سنوات حتى الآن، وما زال هناك العديد من أشرطة الفيديو عن انتهاكات حقوق الإنسان، وبات من الواضح أن الوحشية المروّعة للدولة الليبية في عهد القذافي، مع ثقافة الخوف والانتقام، انتقلت إلى ممارسات الذين أطاحوا به.
ولعل الأمر الأكثر إثارة للقلق؛ هو أنّ الكثير من الليبيين لا يبالون بما يحدث، بل ويبررون تلك الوحشية من خلال الإشارة إلى وحشية خصومهم، كما لو كان هذا يعفيهم من المسؤولية بطريقة أو بأخرى.
في وقت سابق من هذا الشهر، نُشر شريط فيديو يظهر فيه مجموعة من الحرّاس يضربون ابن القذافي المدلل، سعدي القذافي، على باطن قدميه أثناء التحقيق معه في سجن الحدباء، مع سماع صوت بقية السجناء في الغرف المجاورة وهم يصرخون. كان السعدي حليق الرأس، يرتدي ملابس رياضية خضراء، وأُجبر على الاستماع إلى التعذيب الذي يتحمله زملاؤه المعتقلون قبل ربط عُصابة على عينيه وسؤاله عما إذا كان يريد أن يُسحق على مؤخرته أو على قدميه.
“أقسم بالله، إذا منحتموني بعض الراحة سوف أعطيكم كل المعلومات“، هكذا قال السعدي في الفيديو. ولكن الهدف من الاعتداء لا يتعلق باستخراج المعلومات ولكن بالانتقام القاسي والإذلال.
كيف كانت ردود الفعل بين الليبيين؟ معظمهم لا يبالون بما يحدث.
كما كتب أحد الليبيين على الفيس بوك: “السعدي مسؤول فاسد، يده ملطخة بالدماء، وضربه على قدميه لا يبدو بالأمر الخطير حتى نشتكي منه. الشخص الذي يرتكب جريمة لا بدّ أن يدفع الثمن. حقيقة أنه يُعذّب لا تُعدّ قمعًا“.
وافق على هذا الرأي ليبي أمريكي يدرس القانون، وقال: “إلى كل نشطاء حقوق الإنسان، من الذي يأبه بما يحدث لهذا الرجل؟ كل هذا التعاطف مجرد هراء. اضربوا قدم هذا الرجل حتى تنزف! انتقامًا لكل امرأة تمّ اغتصابها، وكل طفل قُتل، ولكل أسرة دُمرت بسببه!“.
ولكنها ليست عائلة القذافي وأتباعهم فقط هم الذين يتحملون العبء الأكبر من سوء المعاملة. لقد وصلت الوحشية الممنهجة إلى كل زاوية وركن من ليبيا المنقسمة. وبات تعذيب السجناء والأعداء أمرًا روتينيًا من قِبل العديد من الميليشيات، بما في ذلك تلك الموالية إما للبرلمان الفدرالي في العاصمة الليبية التي تسيطر عليها الجماعات الإسلامية أو السُلطات المعترف بها دوليًا في مدن شرق طبرق والبيضاء.
هذا الاعتداء هو رد فعل منهجي ولا إرادي، تعبيرًا عن الغضب والإحباط الذي يؤدي إلى الدخول في دوامة من العنف، مثلما أشارت العديد من التقارير الحقوقية الموثقة منذ الإطاحة بالقذافي.
وفي ظل تبدد الطموحات الثورية العالية ومواجهة البلاد للميليشيات والعنف القائم على الجريمة، وصعود إحدى الجماعات التابعة لتنظيم داعش والانقسامات الأيديولوجية الحادة، يبدو أنّ الليبيين عازمون على مواصلة الانزلاق في مستنقع الوحشية البشعة، وينأون بأنفسهم عن الأهداف النبيلة لثورة 2011.
الازدراء الفظ لكرامة الإنسان لا يمكن إنكاره حتى عندما يكون الهدف من تلك الشراسة هو إخفاءها عن زيارة الصحفيين الغربيين أو العاملين في مجال حقوق. إنهم لا يضربون المهاجرين المحتجزين في مراكز الاحتجاز أمامك، ولكنك ترى عصا الضرب بوضوح، وتسمع الأوامر الصارمة وتشاهد ارتعاد وخوف المعتقلين عندما يقترب الحرّاس، يتوقعون صفعة على وجههم في أحسن الأحوال أو ضربة قوية على أسوأ تقدير. لقد رأيتُ ذلك في مراكز الاحتجاز في وقت سابق من هذا الصيف.
وعد المدعي العام في طرابلس، المسؤول عن سجن الحدباء، بفتح تحقيق للتعرف على الحرّاس في تسجيل الفيديو و”اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضدهم”. ويعتقد القليلون بأنّه لن يحدث لهم أي شيء. هذه هي مجرد كلمات للاستهلاك في الخارج لاسترضاء الغرب.
لقد علّم القذافي ليبيا أنّ السُلطة لديها صلاحيات غير قابلة للطعن، وللأسف، يبدو أنّ الليبيين تعلموا هذا الدرس جيدًا.
تشير جميع مقاطع الفيديو التي نُشرت الأسبوع الماضي عن انتهاكات مقاتلي داعش للمعتقلين، الذين تمّ رميهم على الجزء الخلفي من الشاحنات ولكمهم وضربهم وصفعهم وسط ضحكات صاخبة، إلى تحضير لمزيد من الانتهاكات في المستقبل.
تشير تقارير منظمة العفو الدولية إلى أنه في العام الماضي اختفى 378 شخصًا دون أثر، اختُطفوا بأعداد غير مسبوقة لأسباب منها الآراء السياسية أو العضوية في قبيلة معينة أو لمجرد الحصول على فدية. بين المخطوفين، كان هناك 49 مواطنًا أجنبيًا، بينهم 21 من المسيحيين المصريين الذين خُطفوا وقُطعت رؤوسهم من قِبل تنظيم داعش بالقرب من سرت في الشتاء الماضي.
وذكر الهلال الأحمر الليبي أنّ عدد المختطفين وصل إلى 626، منهم 508 في بنغازي؛ حيث سعى الإسلاميون إلى تطهير المدينة من نشطاء المجتمع المدني وأنصار “عملية الكرامة” التي أطلقها ضدهم الجنرال خليفة حفتر، رئيس القوات المسلحة التابعة للحكومة الليبية المعترف بها دوليًا.
كما جاء في تقرير منظمة العفو: “لقد قام أنصار كل جانب من الصراع بالعديد من الأعمال الانتقامية التي تنطوي على عمليات الخطف والقتل غير القانوني والهجمات ضد الممتلكات المدنية“.
لا تساعد القوى الغربية من خلال إدانة تلك الانتهاكات؛ على سبيل المثال، كان هناك القليل من اللوم من العواصم الغربية ضد الضربات الجوية والقصف المدفعي للأهداف المدنية من قِبل قوات الجنرال حفتر.
كما وصفت منظمة العفو الدولية هذا القصف العشوائي بأنّه جريمة حرب. لقد اختفت إدانة الغرب في كثير من الأحيان بسبب خشية تقويض محادثات السلام بوساطة الأمم المتحدة التي تهدف إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية قادرة على استعادة سيادة القانون.
ولكن مع ترسيخ شيطان التعذيب في نفوس الليبيين، سيتطلب الأمر أكثر من مجرد إنشاء حكومة وحدة وطنية لطرد هذا الشيطان. ما نحتاجه هو تغيير ثقافي ينهي حالة اللامبالاة التي تصيب الليبيين عندما “يحصل خصومهم على ما يستحقونه“.
ويكتب أحد الليبيين عن مخاطر الانتهاكات: “انظر حولك، ماذا ترى؟ السلب، والنهب، وانتهاكات حقوق الإنسان والاعتقال التعسفي والتعذيب والإعدام والمحاكمات الجائرة والاعتقال غير القانوني والحرب والإرهاب والتدخل الأجنبي، وعدم الاستقلالية، وعدم السيادة وتبديد الموارد، وغير ذلك الكثير. وماذا عن الجروح النفسية الداخلية، ولماذا يحدث ذلك؟ هل هذا يخدم البعض الذين لا يريدون أي شيء سوى أن يكونوا طغاة أسوأ من القذافي. الآن، الشعب الليبي هو الخاسر في هذا الصراع“.
ديلي بيست – التقرير