هدّأت ثورات “الربيع العربي”، إلى حدّ ما، من الخطاب العربي العام ضدّ “التطبيع” مع إسرائيل، لثلاثة أسباب رئيسية. أولا، لأنه ثبت أن الإخوان المسلمين لا يسارعون في إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل عندما يصعدون إلى الحكم.
بكلمات أخرى، ما رآه الإخوان من “هناك” لم يعودوا يرونه من “هنا”، وإذا كان أشد المعارضين لإسرائيل قد تصرّفوا كذلك، فماذا يقول الضعفاء.
ثانيا، في مشاهد الرعب وسيناريوهات الذعر التي تغرق الدول العربيّة على ضوء ما يحدث في المنطقة، يمكن لإسرائيل أن تكون تحديدا عامل استقرار، وبشكل أساسي للأنظمة الاستبدادية ولكن في أحيان كثيرة أيضًا للدول ولمواطنيها، إلى جانب المساعدة والتعاون العسكري – الأمني تجدّد أيضًا التعاون في مجالات المياه والطاقة، وفي بعض الأحيان المساعدة الإنسانية أيضًا.
ثالثا، الكثير من سكان الدول العربيّة يشاهدون الحروب الأهلية الرهيبة والفظائع التي تزرعها عشرات الميليشيات المسلّحة الناشطة في دول مختلفة، ويقارنون ذلك بحروب إسرائيل ضدّ الفلسطينيين، ويخرجون بنتيجة أنّ “إسرائيل أكثر رحمة من العرب”، كما يكتب إعلاميون عرب كبار مرارا وتكرارا، بلهجة من الألم.
كما قال المتحدث مالكولم ماكدويل في الفيلم الشهير عن البيتلز، مشيرا إلى شعبية الفرقة بعد تصريح لينون بأنّ البيتلز أكبر من يسوع. يبدو أنّ هذا ما يبثّه الرأي العام العربي في موقفه من الاكتشافات “المثيرة” الجديدة حول التعاون الإسرائيلي – العربي. لأجل ذلك تحديدا، فإنّ الخفايا التي يكشف عنها الخطاب العربي العام حول الموضوع هي أكثر إثارة بكثير من الماضي. حسب تقرير نشرته صحيفة “المصدر” الاسرائيلية.
نشرت وكالة رويترز في نهاية الأسبوع الماضي أنّ إسرائيل قد نقلت إلى الأردن ستّ عشرة طائرة مروحيّة من نوع كوبرا مستخدمة، لأجل تأمين حدودها في الشمال والشرق من تهديد الدولة الإسلامية (داعش). وقال الجنرال الأمريكي مجهول الاسم الذي تحدث إلى رويترز أنّ هذه المروحيّات، التي تم إرسالها مجانا للأردنيين، تم إصلاحها قبل ذلك من قبل الولايات المتحدة.
لم يفقد الخطاب العام في الأردن سيطرته، في الإعلام المكتوب والإلكتروني وفي مواقع التواصل الاجتماعي (بما في ذلك خطاب المعارضة). ولكن التسلسل الجذاب لمتصفحي الفيس بوك في الصحيفة اليومية الشهيرة “الغد” قد كشف عن ساحة المناوشات الحقيقية: تلك التي بين الأردنيين وبين الأردنيين من أصول فلسطينية. هذه المرة، اعتبرت المساعدات العسكرية من إسرائيل مفيدة لمواطني الأردن وأمنهم ضدّ المخاطر الفظيعة التي تهددهم على الحدود المضطربة في الشمال والشرق. بعبارة أخرى، لا يدول الحديث هنا عن “خيانة” في “جانبنا” – معظم سكان المملكة، بالتأكيد، منذ قضية الطيار معاذ الكساسبة الذي أُحرق حيّا، يعرفون داعش كمحبة للشرّ – ولكن، على الأكثر، فمن العار أن تكون إسرائيل هي التي تقدّم المساعدة. في هذه الظروف، تتحول الخيانة إلى تهمة يوجّهها الأردنيون للفلسطينيين وعلى العكس، على شكل أنا لست خائنا ولكن أنت أكثر خيانة.
لكل من هو موجود في الخطاب العام الأردني كان واضحا أن المتصفح الذي ردّ على الخبر بعبارة: “من يغضب من الأردن مدعو لأن يسأل الفلسطينيين لماذا يبنون المستوطنات على أرض فلسطين المقدّسة”، فهو أردني يدعو الأردنيّين من أصول فلسطينية إلى المبارزة. تمّت الاستجابة للدعوة، وردّت إحدى المتصفّحات بادعاء أنّ الفلسطينيين في الأراضي المحتلة يبنون المستوطنات من أجل اليهود لأنّهم واثقون بأنّ فلسطين ستعود إليهم. وقد أوضحت أن الفلسطينيين يبنون في الواقع من أجل أنفسهم وليس من أجل اليهود. وقد أثار ردّها موجة من الضحك وسلسلة طويلة من التعليقات بين المتصفّحين والمتصفّحات والذين أخذوا موقفا واضحا. اتهمت مجموعة من المتصفّحين الأردنيين بالخيانة، وتساءلت ما إذا كانت المروحيّات قد أصبحت “مستخدمة” بعد أن قتلت غزيّين أبرياء في الصيف الأخير.
على الجانب الآخر، مع ذلك، لم تكن هناك اعتذارات. ذكر عدد كبير من المتصفّحين أنّ إسرائيل تخدم، في نهاية المطاف، مصالحها (وكان هناك من اقترح فحص سلامة المروحيات أو إذا كانت قد وُضعت فيها أجهزة تنصّت)، ولكن عادوا إلى موقفهم: إسرائيل، كما أصرّوا، أكثر حرصا على الأردن من غيرها. شكرا لكم، أيها الأصدقاء، كما كتب بعض المتصفِّحين وهم يتوجّهون إلى إسرائيل: أنتم أفضل من بشار، أفضل من إيران، أفضل من داعش بل وأفضل من “إخواننا” الأثرياء في دول الخليج.
كان أحد العقول التمرية الذكية سيتطرّق إلى كل تلك التعليقات على نحو متساهل: معارضو الصفقة هم بطبيعة الحال “أصلاء” والمدافعون عنها هم “رجال مخابرات”. ولكن هذا التفكير يغفل الأحداث الخفية التي تم وصفها أعلاه. تغيّرت الظروف، وإذا واجه سكان الأردن خطرا وساعدت إسرائيل جيشهم، فهي ببساطة صديقة. يسمح هذا الاستعداد للمتصفّحين والمتصفّحات بكسر صفوف الجوقة المعروفة. هكذا، كان أحد الادعاءات: “من يعمل مع اليهود فهو سعيد وراض”، بما في ذلك من ناحية المزايا الاجتماعية التي يحصل عليها، وأقسم آخر قائلا: “يخرج الناس من الأردن من أجل العمل لدى اليهود ويقولون إنّ اليهود يتعاملون معهم بشكل أفضل من العرب”. ومن هناك انتقل المتصفّحون والمتصفّحات للجدال حول من أكثر خيانة، فسادا ونكرانا للجميل: الأردنيون الذين حصلوا على مروحيات من إسرائيل، أم الفلسطينيون الذين يعملون لدى اليهود في الأراضي المحتلة، ويعملون لدى أجهزة الأمن الإسرائيلية كأفراد (عملاء) وكهيئات رسمية (السلطة الفلسطينية وأجهزتها)، ويحظون بمأوى وحماية الأردن كلاجئين، وفي النهاية يؤذونه عندما يتلقى المساعدة من إسرائيل من أجل حماية مواطنيه، ومن بينهم أولئك الذين من أصول فلسطينية. لماذا يحظر علينا ما يُسمح لهم به ولكل العرب الآخرين، ثار متصفّحون أردنيّون.
حتى عندما تعتبر المساعدة التي توفرها إسرائيل كمساعدة للمواطنين العرب وأمنهم، وليس للحفاظ على النخبة الحاكمة الاستبدادية على حساب رفاهية مواطنيها وإرادتهم الحرّة، فإنّ إحراجًا وخجلا يغمران، بشكل طبيعي، الخطاب العربي العام، هل لا يحدث شيء من هذا القبيل في كل حدث إنساني للعطاء المخفي الذي يصبح مكشوفا؟ ومع ذلك، فخلافا للماضي، إلى جانب الخلاف الداخلي الذي يزرعه هذا الكشف، ظهرت أصوات جديدة في الخطاب العام ترى في إسرائيل صديقا حقيقيّا في وقت الضائقة.