رأى” تشاك فريليخ” النائب السابق لرئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي إن إسرائيل لم تنعم منذ قيامها عام 48 بوضع استراتيجي أفضل من الذي تعيشه اليوم، في ظل السلام مع مصر والأردن، وما وصفه بتلاشي الجيش السوري وتفكك العراق، وارتباطها بعلاقات “خاصة” مع الكثير من الدول العربية والإسلامية.
واعتبر ” فريليخ” في مقال بصحيفة “هآرتس” أن الصراع الذي كان يعرف في الماضي بـ”العربي- الإسرائيلي” قد تقلص ليشمل فقط الفلسطينيين، ولاعبين مثل داعش. وأشار إلى أن تغير” البيئة الاستراتيجية” أوجد تهديدات جديدة أمام تل أبيب على رأسها المشكلة الديموغرافية، وحملات “نزع الشرعية”.
إلى نص المقال..
حققت نظرية الأمن الإسرائيلي نجاحا عظيما. ليس لأن إسرائيل موجودة فقط، لكنها أيضا دولة آمنة، مستقرة ومزدهرة. بالنسبة للكثيرين لم يكن وضعنا الأمني أفضل من هذا أبدا.
يلخص الكثيرون نظرية الأمن الكلاسيكية في الإنذار والردع والحسم، لكن يتناسون أنها تحوي المزيد من العناصر الحيوية. فعلى الساحة العسكرية جرى الحديث عن نقل القتال إلى أرض العدو وإدارة حروب قصيرة. وعلى الساحة الاستراتيجية هناك الحاجة لعلاقات شجاعة مع دولة عظمى واحدة على الأقل، والخروج للحرب فقط بدعمها (دون التخلي عن الاستقلالية). وعلى الساحة السياسية، تم اعتبار السعي لسلام مرساة رئيسية، كذلك مثل تجنيد كل الموارد الوطنية لصالح الأمن، مع بناء الدولة وضمان غالبية يهودية.
تغيرت البيئة الاستراتيجية :الدول العربية تتفكك، والتهديد الرئيس الذي تمثله حاليا ناجم عن ضعفها، وليس قوتها. مع مصر هناك سلام مستقر منذ نحو 40 عاما. ليس هناك جبهة شرقية تلك التي كانت تمثل التهديد الأساسي للجيش الإسرائيلي. فالجيش السوري تلاشى، والعراق يتفكك وهناك سلام مع الأردن منذ عقدين تقريبا وتعاون أمني، يشكل عازلا أمام تهديدات الشرق.
المواجهة مع الدول العربية التي كانت محور الصراع العربي- الإسرائيلي قد انتهت، وتقلص الصراع الآن ليشمل فقط الفلسطينيين ولاعبين خارج نطاق الدول. لا توجد اليوم قوة عظمى معادية، والولايات المتحدة التي ترتبط معها إسرائيل بتحالف وطيد، سوف تستمر في قيادة المجتمع الدولي حتى إذا ما اعتراها القليل من الضعف.
إلى هذا كله يمكن إضافة سلسلة من الدول العربية والإسلامية التي ترتبط بعلاقات خاصة مع إسرائيل، وسيكون من دواعي سرورها ترسيخ هذه العلاقات عندما يحدث تطورا في المسألة الفلسطينية. أي أن افتراض “شعب يعيش وحده” لم يعد مناسبا.
كذلك تغير شكل التهديدات العسكرية: فقد اختفى تهديد الغزو أو اندلاع معارك بين الجيوش. بدأت التهديدات غير التقليدية بشكل حقيقي في أعقاب تدمير الأسلحة الكيماوية في سوريا، والاتفاق مع إيران ورغم كل مساوئه سوف يؤجل التهديد النووي لعشر سنوات.
هذا يعني أنه لن يكون هناك تهديدا وجوديا على إسرائيل لعقد من الزمان على الأقل. في الواقع، لم يكن هناك تهديدا وجوديا منذ التوصل إلى سلام مع مصر. تبقى تهديدات على رأسها حزب الله وحماس وداعش على ما يبدو، لكنها ليست تهديدات وجودية لسلامة إسرائيل.أكبر تهديدين لإسرائيل الآن ليسا عسكريين على الإطلاق: نزع الشرعية والديمغرافية. لقد أصبحت الحروب إلى حد بعيد، حروب اختيارية.
كذلك تغير المجتمع الإسرائيلي هو الآخر: فقد أصبح أكثر تنوعا، لكنه مقسم. وحدث تفتت في الإجماع الوطني، الأعباء لا تتوزع بشكل متساو، وتزايد الخوف من الخسائر. كمجتمع غربي ليبرالي، انخفض الحافز لدى طبقات معينة لتحمل الأعباء، وتحديدا في ظل إدارة المعارك التي لا نهاية لها لقمع الإرهاب، دون وجود أفق سياسي.
, هناك تبعات لتلك التحولات. على سبيل المثال ، فرض الخوف من الخسائر قيودا في اختيار البدائل العسكرية في جولات القتال مع حزب الله وحماس. التغييرات في البيئة الاستراتيجية، والتهديدات العسكرية وداخل المجتمع، تلزم بإجراء تغيير جذري في نظرية الأمن الوطني. لذلك من المدهش رغم اختفاء التهديدات، ارتفاع ميزانية الأمن، وعدم وجود تغير حقيقي في نظرية الأمن. وهذه هي التغيرات المطلوبة”-
على إسرائيل التوصل لتسوية سياسية تحول دون حدوث كارثة ديمغرافية ونهاية الحلم الصهيوني. ليس هذا قولا سياسيا وليس الفلسطينيون شريكا سهلا، لكن هذه ضرورة استراتيجية. التسوية، حتى إدراك العالم أن إسرائيل تسعى للتسوية، سوف يؤدي لتحول دراماتيكي في وضعنا السياسي- الأمني.
يجب التشديد على الدفاع عن الموازنات والعقيدة القتالية. فمثل جيوش أخرى واجهت انتفاضات شعبية وحروب عصابات، يجد الجيش الإسرائيلي صعوبة في تحقيق الحسم أو حتى الردع المستمر. يجب أن تظل الحروب ذات الهجمات الحاسمة جوهر استراتيجية الجيش الإسرائيلي.
لكننا لم ننجح في الحسم أمام حزب الله في كل الجولات منذ الثمانينات، الأمر الذي يضيف ضربة للردع الإسرائيلي. وعندما لا تحقق المعارك المتعاقبة أهدافها، فمن الحكمة أن نكون أكثر حذرا في استخدام القوة. يجب القيام بذلك فقط عندما نكون مستعدين عسكريا، وتكون هناك شرعية دولية، على الأقل أمريكية، وتكون الأهداف واضحة وهناك استعداد شعبي لتحمل الثمن.
يتعين على إسرائيل تطوير قدرتها على ضبط النفس وكبح الجماح. لم يتم إثبات صحة الزعم بضرورة الرد على أي حادث لتعزيز الردع، بل على العكس تضرر الردع من عدم تحقيق نجاحا في المعارك الأخيرة. صحيح أن الإرهاب وإطلاق الصواريخ “أمر لا يحتمل” لكننا بالفعل لا نرد على كل حادثة ويتضح أن هذا أمر يمكن احتماله. القيادة الشجاعة كانت لتقول للشعب، إننا سوف نضطر للعيش مع تهديدات حزب الله وحماس، لأنه ليس هناك حل شامل وأنه يجب ضبط النفس والمثابرة.
في ظل غياب رد هجومي فعال، فإن الجيش الإسرائيلي مضطر لاستيعاب مفهوم الدفاع. الاستثمار في أنظمة مثل “القبة الحديدية” يمكن أن يكون مفيدا من الاستثمار في غواصات وطائرات مقاتلة، كون ضرورة الأخيرة غير واضحة في ظل التغيرات في البيئة الاستراتيجية وطبيعة التهديدات. إن احتساب تكلفة المنظومة الدفاعية يجب أن يوازي ثمن الإضرار بالردع.
على إسرائيل أن تكيف سياستها مع سياسة الولايات المتحدة. من الصعب التقليل من أهمية العلاقات مع واشنطن، ومن غير الواضح إذا ما كان بإمكان إسرائيل العيش بدونها. حصلت إسرائيل حتى اليوم على أكثر من 120 مليار دولار من الولايات المتحدة، مساعدات لولاها لكان الجيش الإسرائيلي وعاء فارغا.
سوف تبقى إسرائيل دون دعم أمريكي معرضة للحرب السياسية والمساعي لنزع شرعيتها. يجب اتباع سياسات تبقي في أيدينا مسافة مناورة معينة، مع البقاء على الخط مع الولايات المتحدة بل والسعي لمعاهدة دفاع رسمية.
من المفارقات، أن التغيير الأهم من ذلك كله يتمثل في نهج الحكومة. الانتخابات المتتالية والحاجة لتسويات ائتلافية طويلة المدى، تحول دون إمكانية بلورة سياسة أمن وطني رشيدة.