“ المستقبل الغامص لقيادة السلطة الفلسطينية، الرغبة في إعادة مصر لموقع التأثير السياسي، أم محاولة تحسين العلاقات مع الأمريكان. ما الذي يقف في الحقيقة خلف رياح الصداقة الجديدة التي تهب حاليا بين القاهرة والقدس؟”.
هكذا تساءل “جاكي حوجي ” محلل الشئون العربية في مقال بصحيفة “معاريف”، محاولا سبر أغوار التقارب المصري مع إسرائيل، وكشف أسرار “العلاقات الدافئة” بين القاهرة وتل أبيب منذ وصول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للحكم في البلاد.
إلى نص المقال..
من يتتبع العلاقات بين إسرائيل ومصر يمكن أن يلحظ الريح الجديدة التي تهب من هناك في الأسابيع الماضية. شيء ما كان ينضج في القاهرة في كل ما يتعلق بالملف الفلسطيني، وقرر المصريون تقديم الطبق إلى القدس، مصحوبا هذه المرة بابتسامة. وبكلمات أقل مجازية، يسعى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لأن يعيد لنفسه مكانة المنسق في محادثات السلام، ويكون له السبق.
وراء الجهد المصري قراءة متأنية للخارطة السياسية. ترى القاهرة في هذه الأيام نافذة الفرص وتخشى إهدارها. من المرتقب أن تنتهي ولاية محمود عباس (أبو مازن) خلال عام أو عامين بشكل طبيعي.
تجاوز عباس سن الـ 80، ولم يختر خليفة له. بعد ذهابه، سوف يندلع صراع على الخلافة سواء بشكل مفاجئ أو منظم. وقد لاحت بوادر ذلك منذ الآن. هناك اثنان من المرشحين من تلقاء أنفسهما، جبريل الرجوب ومنافسه الغزاوي محمد دحلان، يبذلان جهدا كبيرا لتعزيز مكانتهما لدى الجمهور. دحلان بدعم من راعيته الإمارات العربية المتحدة، حشد ملايين الدولارات لإنشاء جمعيات خيرية في مخيمات اللاجئين بالضفة. ويحاول بالطبع، العمل بشكل مماثل في غزة.
في المقابل الرجوب يشغل منصب رئيس اللجنة الأوليمبية بالسلطة الفلسطينية، وهي الوظيفة التي تمنحه ظهورا كبيرا بين الجماهير الغفيرة. وكانت مساعيه لتعليق عضوية إسرائيل في الفيفا جزء من حملته الانتخابية التي لم تنطلق رسميا بعد.
وجود هؤلاء الاثنين لا يؤكد أنهما المتنافسان الوحيدان. فهناك آخرون في الزاوية، بعضهم غير معروف بشكل كبير لدى الجماهير. على سبيل المثال، رئيس المخابرات العامة في السلطة ماجد فرج، أحد المقربين للغاية من أبو مازن. كذلك دكتور صائب عريقات، المسئول عن محادثات السلام، والذي ورد اسمه مؤخرا كمرشح محتمل. رغم أن عريقات قال في الأسبوع الماضي خلال حديث تلفزيوني “ليس لدي تلك النوايا ولا أبذل جهودا في هذا الصدد”، فإنه لم يستبعد إمكانية الترشح.
المستقبل الغامص لقيادة السلطة الفلسطينية لم يكن الشيء الوحيد الذي يحفز مصر. تولت القاهرة مؤخرا منصب الرئيس المؤقت للجامعة العربية. وتعد الجامعة ومقرها في القاهرة بالنسبة للقيادة الفلسطينية، نزلا دافئا للدعم والتعاون في كل ما يتعلق بخطواتها الدبلوماسية.
أي مبادرة صاغها عباس- على سبيل المثال التوجه للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، أو الطلب الذي تقدم به للأمم المتحدة وتم إيقافه والذي يدعو للإعلان عن إنهاء الاحتلال في مناطق 67- حازت تأييد الجامعة، التي تمثل رسميا الحكومات العربية. بهذه الطريقة تحول اقتراح أبو مازن لمبادرة تحظى بالإجماع العربي.
كانت مصر دائما الدولة الأكثر هيمنة في الجامعة العربية، لكن أحيانا- وتحديدا قبل اندلاع أحداث الربيع العربي- كان عليها مواجهة معارضة داخلية. سوريا على سبيل المثال كانت رمزا متشددا في كل ما يتعلق بالمشكلة الفلسطينية وصعبت أحيانا عملية اتخاذ القرار. ليبيا بقيادة القذافي قادت ضد الجامعة جهدا كشف ضعفها بل وأضعفها. فقبل ثلاث سنوات من سقوطه، أعلن القذافي مغادرة الجامعة واتهمها بالعجز. ووجه مساعيه لإفريقيا السمراء.
مع شغل المصريين منصب الرئيس المؤقت، قاموا بتنفيذ خطوة حادة في المسألة الفلسطينية. حيث حلوا لجنة المتابعة العربية المكونة من 13 مندوبا، والتي كان أبو مازن قد توجه إليها للتصديق على كل مبادراته حيال حكومة نتنياهو. بهذا نجحوا في التخلص من قطر، العضو المؤثر باللجنة، التي عملت كراعي لحماس، وغالبا ما ضغطت من أجل اتخاذ قرارات أكثر تشددا.
وبدلا من لجنة المتابعة أنشأ المصريون مطبخا مقلصا ومعتدلا، يضم السعودية والمغرب والأردن ومصر والجامعة العربية. كل تلك الدول مستقرة بشكل نسبي، ولها تاريخ في التدخل بالشأن الفلسطيني (تتولى المغرب رئاسة لجنة القدس بالجامعة) ومقبولة بالنسبة لإسرائيل. لجنة الـ5 سوف تكون من الآن المرسى الدافيء لأبو مازن لدى مجيئه للحصول على اختام الموافقة من أصدقائه العرب.
علاوة على ذلك، اتخذ المصريون خطوتين دبلوماسيتين تكتيكيتين. بداية، عينوا سفيرا في إسرائيل، حازم خيرت، مستشار وزير الخارجية المصري للشئون القنصلية وشئون السلك الدبلوماسي. وحصل خيرت الذي سيكون السفير السادس لمصر هنا على خبرة كبيرة في الدبلوماسية الإقليمية. حيث عمل في السابق سفيرا لبلاده في دمشق، وفي سينتياجو، عاصمة تشيلي، ومندوبا بالجامعة العربية.
من المنتظر أن يصل خيرت إلى مكتبه في تل أبيب خلال الأسابيع المقبلة، لينهي بذلك ثلاث سنوات كانت السفارة تدار خلالها عبر الوكيل الرسمي فقط، منذ أن أعادت القاهرة سفيرها في إسرائيل خلال عملية عامود السحاب في غزة.
بعد الإعلان عن السفير الجديد، دعا المصريون المدير العام الجديد لوزارة الخارجية الدكتور دوري جولد لزيارة القاهرة. سافر جولد في زيارة استغرقت عدة ساعات، التقى خلالها قيادة وزارة الخارجية المصرية. وبعد أن عاد لإسرائيل، مساء 28 يونيو، نشر المصريون الخبر في الصحف. يفهم المصريون جيدا العقدة الإسرائيلية وتعاملوا معها بأناقة. إسرائيل، كما هو معروف، تحب أن تكون محبوبة. فأي كشف عن علاقات تطبيعية تنظر له القدس بارتياح كبير، ورغم أنه لم يكن لهذه الزيارة دلالة مفاجئة بخلاف إجرائها، فقد حرص المصريون على نشرها، على النقيض من سياسة الخجل التي تتعلق بالاتصال بشخصيات إسرائيلية.
ضربت القاهرة بدعوة دكتور جولد إليها ثلاثة عصافير بحجر واحد. فبخلاف أنها بعثت للقدس برسالة ساخنة لحسن النوايا، مع أمل فتح قلب الحكومة الإسرائيلية حيال الشأن الفلسطيني، استغل المصريون مكانة الضيف. فجولد مقرب للغاية لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الأمر الذي من شأنه ضمان وصول أي رسالة قيلت خلال المحادثات المغلقة مباشرة لأذن رئيس الحكومة.
مدير عام وزارة الخارجية من أصول أمريكية، وذو باع في واشنطن. هذه الميزة، كما يأمل المصريون، قد يتم استخدامها في المستقبل، في إطار الجهود المتواصلة لتقليص الفجوة مع الإدارة الأمريكية، منذ الإطاحة بالرئيس الإخواني محمد مرسي.
تظهر وزارة الخارجية المصرية انفتاحا نسبيا حيال طاقم السفارة الإسرائيلية بالقاهرة، على عكس فترات مختلفة في الماضي، حصلوا بشق الأنفس على عنوان. الآن، علاقة السفير حاييم كورن وطاقمه بعناصر الحكم، والاقتصاد والإعلام بالعاصمة المصرية جيدة. ثمار هذه العلاقة يمكن رؤيتها نهاية الأسبوع الماضي، عندما هنأ كورن الشعب المصري بعيد الفطر ونهاية شهر رمضان في تسجيل مصور بالعربية.
لكن كل هذا سبقته دراما، ليست دراما سياسية، بل تليفزيونية. ففي العام الماضي تم انتاج مسلسل “حارة اليهود”. والذي تدور قصته حول قصة حب بين شاب مسلم وفتاة يهودية. تضمنت الحبكة أحداث داخل أسرة الفتاة، ليلى هارون التي جسدت شخصيتها الممثلة منة شلبي، وتتناول طبيعة الحياة داخلها. السيناريست مدحت العدل، حرص على إظهار احترام أبطاله، وهكذا اتضح أن “حارة اليهود” ليس فقط عمل فني، بل أيضا مرحلة في نضج الفن المصري: حتى الآن ظهر اليهود هناك في عدة أعمال نمطية، بخلاء، مدبري مؤامرات، ومجرمين وقتلة. لكن العدل حولهم للمرة الأولى لأناس طبيعيين، لديهم رغبات وخيبات أمل، وطموحات مشروعة ومخلصين للخالق، كإخوانهم المسلمين.
وهناك أيضا غمزة لمن يعروفون حارة اليهود في القاهرة القريبة من سوق خان الخليلي الشهير، والتي تمتد إليها جذور الرئيس عبد الفتاح السيسي. فهناك نشأ. خلال عامين من زعامة السيسي لمصر، تحدث عدة مرات عن عملية السلام. قبل نصف عام زار نتنياهو الأردن، وحل ضيفا على الملك عبد الله الذي اتصل بالرئيس المصري، وأعطى السماعة لنتنياهو. قال الرئيس المصري للصحف في أعقاب هذا الحديث التليفوني “قلت لرئيس الحكومة نتنياهو إنه لا مفر من العودة لعملية السلام. مصر على استعداد لبذل الجهد لتحريكها”.
ستكون هذه مفاجأة كبيرة إذا ما أثمرت الخطوة المصرية نقطة انطلاق. في وزارة الخارجية بالقدس يرفضون الحديث عن مجموعة الرسائل التي تصل من القاهرة. حيث يعرفون هناك أنه في ظل غياب ضوء أخضر من مكتب رئيس الحكومة، فلن يتحرك شيء فيما يتعلق بعملية السلام.
حكومة نتنياهو من جانبها بعيدة عن تحريك أي عملية مع الفلسطينيين. الفراق بين السلطة الفلسطينية وغزة، كما يقول المقربون من نتنياهو، يضمن اتفاقا جزئيا فقط، أو مصاعب جمة في كل اتفاق مستقبلي. ويضيفون في القدس “عندما يضطرب كل شيء حولنا، فلن يكون هذا الوقت المناسب لاتفاق دائم تاريخي مع الفلسطينيين”.
طوال هذا الوقت ، يتبدل الواقع تماما بين إسرائيل، ومصر وحماس والتنظيم المتشدد “ولاية سيناء”، الذي بايع داعش. وهو ما يعقد أي اتفاق للسلام. تقاتل إسرائيل ومصر هناك ضد أي تقارب حقيقي بين الفصيلين الآخرين، من شأنه تهديد استقرار المنطقة على جانبي الحدود. عنصر في حماس همس في آذاننا حول فرص السلام مع السلطة الفلسطينية قائلا:”لن يمنحوكم شيئا، لأنه ليس بمقدور أبو مازن اقتراح تنازلات لإسرائيل، سيكون من الأسهل بالنسبة لكم التوصل إلى تسوية هادئة معنا تحديدا”.