سيكون الشهران القادمان – وما بعدهما – حافلين بالجدالات حول ميّزات الاتفاق النووي الإيراني، وسيدور معظمها بالضرورة حول الأسئلة الضيقة النطاق التي يستثيرها الاتفاق، ألا وهي: هل يحد الاتفاق من الإمكانيات النووية الإيرانية بشكل كافٍ؟ وهل أن آليات التدقيق والتنفيذ كافية لضمان التزام إيران بالاتفاق؟ وهل تخفيف العقوبات متناسب مع التنازلات التي قدمتها طهران؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة ستساهم في معرفة ما إذا كان الاتفاق سيؤدي إلى توطيد المصالح الأمريكية أو انتكاسها.
ولكن حتى لو استنتجنا وفق ما أكده الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن هذا الاتفاق يقيد بما يكفي البرنامج النووي الإيراني وأنه أفضل من البدائل الأخرى القابلة للتطبيق، يُطرح سؤال هام آخر للنقاش، وهو: ما هي تداعيات الاتفاق على الاستراتيجية الأمريكية الكبرى؟
في 14 تموز/يوليو، قال الرئيس أوباما إن الاتفاق يستهدف البرنامج النووي الإيراني بصورة أكثر تحديداً ولن يقوض عزم الولايات المتحدة على التصدي لأي بادرة سوء تصرف من قبل إيران على الجبهات الأخرى. وقد دافع عن تعاطيه مع إيران من خلال إشارته – كما فعل من قبل – إلى أن رونالد ريغان تفاوض مع الاتحاد السوفياتي على اتفاقيات الحد من التسلح بينما كان لا يزال يلقبه بـ “إمبراطورية الشر”. إلا أن هذا التشبيه ليس ملائماً. فاتفاقيات الحد من التسلح التي أبرمت مع السوفييت شكلت بالإجمال عنصراً من عناصر استراتيجية احتواء أوسع نطاقاً، وتم تكملة تلك السياسة عبر الحد من قدرة كان يملكها السوفييت بالفعل أو إعادتها إلى وضعها السابق، مما عزز الجهد العام لتقييد القوة والنفوذ السوفييتيين.
وفي حالة إيران، لا يبدو الاتفاق مكمّلاً للاستراتيجية الأمريكية بل انقلاباً عليها. فبعد سنوات من معارضة النظام الإيراني، تسعى اليوم واشنطن إلى التعاون معه – وربما أيضاً إلى تقوية تلك الدولة التي يعتبرها بعض حلفاء أمريكا التهديد الأكبر لهم. فبموجب هذا الاتفاق، سترضخ الولايات المتحدة إلى التوسع التدريجي لجهود إيران النووية بعد مضي أكثر من عقد على الاعتراض عليها. وسوف ترفع واشنطن العقوبات بشكل شامل عن إيران بعد أكثر من ثلاثة عقود من العمل على زيادتها. وسوف تُسهل الولايات المتحدة نقل الأموال إلى الجهات الإيرانية بعد سنوات من محاولتها التصدي لها. وكل ذلك يبدو بمثابة انقلاب حاد على الاستراتيجية.
وإزاء الضمانات التي تعطيها الولايات المتحدة بعدم تغير الاستراتيجية الأمريكية الإقليمية التي تتمثل بتقوية الحلفاء والتصدي للمفسدين في آنٍ معاً، قد يميل الحلفاء أمثال إسرائيل والدول العربية السنية إلى الاستنتاج بوجودأجندة خفية في أعمال واشنطن أكثر من الوثوق بأقوالها. وبما أن الإدارة الأمريكية شعرت بأن عليها “التعويض” للحلفاء في المرحلة التي سبقت الاتفاق من خلال تقديم إمدادات جديدة من الأسلحة وتوفير تدريبات عسكرية جديدة وغيرها من أشكال التعاون، فإن هذا الأمر يوحي بأنهم لا يعتبرون الاتفاق مطمئناً ولا ضامناً للاستقرار. وبعبارة أخرى، إنه يتضارب مع – بدلاً من أن يُكمِل – استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط وتوطيد أمن الحلفاء.
وفي ضوء هذا التنافر الظاهري، فإن الإصرار على أن الاستراتيجية الأمريكية لم تتغير – كما قال الرئيس في مؤتمره الصحفي – عندما يبدو أن الاتفاق الإيراني يمثل انحرافاً عن المسار المعتاد، لن يطمئن أو يقنع أحداً. وثمة مخاوف مشروعة بأن تستخدم إيران أرباحها المالية المفاجئة التي ستكسبها من الاتفاق من أجل تمويل أعمالها الإقليمية السيئة. أما الطريقة الجوهرية لمعالجة مثل هذه الأسئلة فتستدعي قيام الإدارة الأمريكية بالتحديد بالتفصيل كيف تنوي التصدي للسياسة الإيرانية في المنطقة على الرغم من الاتفاق. ويشمل ذلك وصف الطريقة التي ستلجأ إليها واشنطن لردع التقدم النووي الإيراني بينما تتضاءل تدريجياً القيود المفروضة بموجب الاتفاق بعد 5 إلى 15 عاماً، بالإضافة إلى وصف هيكلية أمنية يمكنها تجنب انتشار التكنولوجيا النووية في جميع أنحاء المنطقة ردّاً على مكانة إيران التي اكتسبت شرعيتها مؤخراً كدولة على حافة العتبة النووية.
وإذا فشلت الإدارة الأمريكية في إعطاء وصف مقنع لاستراتيجية إقليمية ينسجم معها الاتفاق النووي المقترح، من المرجح أن يفترض الحلفاء والمشككون وجود تغيير غير معلن في إعادة المواءمة الأمريكية أو ببساطة عدم وجود تماسك، وكلا هذين الافتراضين يؤكد على إمكانية العودة إلى نقطة الصفر. وفي الواقع أن تعديل اتفاق بهذا الحجم أو نقضه بعد بدء التنفيذ سيكون صعباً. كما أن وضع هذا الاتفاق النووي الهام حيز التنفيذ ولكن ترك المسائل الاستراتيجية الكبرى التي يطرحها لكي تقوم الإدارة المقبلة بمعالجتها لن ينم عن مسؤولية ولا عن حذر.
مايكل سينغ هو زميل أقدم في زمالة “لين- سويغ” والمدير الإداري في معهد واشنطن. وقد نشرت هذه المقالة في الأصل من على مدونة “ثينك تانك” على موقع الـ “وول ستريت جورنال”.