كان لأحداث ولاية غرداية الأخيرة في الجزائر بين العرب المالكيين والأمازيغ الإباضيين الأثر الكبير في فتح النقاش مرة أخرى حول الطوائف والمذاهب الإسلامية، ومن بينها الطائفة الإباضية المنتشرة في عدد من المناطق العربية، مع نسبة كبيرة موجودة في سلطنة عمان التي تشهد واحدًا من أفضل نماذج التعايش بين مختلف المذاهب والطوائف الإسلامية.
نستعرض في هذا التقرير تعريفًا بالإباضيين وتاريخ نشأتهم، أوجه اختلاف عقيدتهم مع باقي المذاهب الإسلامية، أماكن تواجدهم وأيضًا علاقة كل ذلك بأحداث غرداية الأخيرة.
من هم الإباضيون؟
الإباضيون هم المنتسبون لأحد المذاهب الإسلامية المنفصلة عن السنة والشيعة، وقد تمت تسميتهم بهذا الاسم نسبة إلى عبد الله بن إباض التميمي، الذي عاش في زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وذلك بسبب بعض المواقف الكلامية والسياسية التي اشتهر بها ابن إباض وتميز بها، لكن الإباضيين أنفسهم لم يستعملوا هذه التسمية في بدايات ظهورهم، مستخدمين عبارة جماعة المسلمين أو أهل الدعوة، قبل أن يجدوا أنفسهم مضطرين لاتخاذ اسم الإباضية تقبلًا للأمر الواقع منذ أواخر القرن الثالث الهجري. ومن جهة أخرى فهم ينسبون مذهبهم إلى جابر بن زيد التابعي، أحد تلامذة أم المؤمنين السيدة عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنه، وقد عرف التاريخ عدة أسماء أخرى لأتباع هذا المذهب، كالوهبية نسبة الى الإمام عبد الله بن وهب الراسبي إمام أهل النهر، والقَعَدة لقعودهم عن استعراض المسلمين بالسيف كما فعلت الخوارج من الصفرية والأزارقة.
كيف نشأ المذهب الإباضي؟
يمكن اعتبار المذهب الإباضي أحد أقدم أئمة المذاهب أجمعين (باستثناء مذهب أهل البيت) فقد ولد أصحاب المذاهب الأربعة الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية بعد مولد جابر بن زيد سنة 22 هجرية، والبعض بعد وفاته. وهو إمام متحدث فقيه متبحر في الفقه أمضى حياته بين البصرة والمدينة بشكل جعله على صلة بأكبر فقهاء المسلمين حينذاك، أما عبد الله بن إباض التميميّ فقد كان مدافعًا عن المذهب في عصر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ومنتقدًا لسلوك الأمويين المخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب رأيه.
وهكذا نشأت الإباضية في البصرة وما حولها ثم في عُمان وخراسان، ولكنها تركزت فيما بعد في عُمان. وفي أول أيام الدولة العباسية، وأيام المنصور بايع الإباضية أول إمام لهم بعُمان عام 134هـ، واسمه الجلندى بن مسعود، وفي سنة 1161هـ بايع الإباضية أحمد بن سعيد، حيث انتقلت الإمامة الإباضية إلى آل سعيد، ولا يزال حكم آل سعيد قائمًا حتى اليوم في سلطنة عمان.
يرجع تاريخ تواجد المذهب الأباضي في شمال أفريقيا وخاصة بالجزائر إلى عصر الدول الأموية أو ما قبلها، وأعلن الإباضية قيام أول دولة لهم في 140 هـ، وعقب هجمات من الدولة العباسية وسقوط دولتهم الأولى، أسس الأباضيون دولتهم الثانية، الدولة الرستمية وعاصمتها تاهرت في الجزائر، وأسسها عبد الرحمن بن رستم الفارسي ودام حكمها قرنًا ونصف قرن من 144 هـ، وحتى 296 هـ (776 – 909 ميلادية).
بماذا تختلف العقيدة الإباضية عن باقي المذاهب الإسلامية؟
الخوض في مسألة الاختلافات العقائدية بين المذاهب الإسلامية صعب ومعقد جدًّا، ولا يتسع المجال لتحليله هنا، لكننا سنكتفي بالقول إن أبرز خلاف عقائدي بين الإباضية وباقي المذاهب الإسلامية هو مسألة رؤية الله عز وجل يوم القيامة، وهي من الأمورِ الغيبية التي اختلف فيها العلماء بين مثبت للرؤية ونافٍ لها، ورغم أَنَّهَا ليست في الأصل من أركان الإيمان ولا من أركان الإسلام التي نص القُرآن الكريم عليهَا، إِلاَّ أَنَّها صارت من أهم المسائل التي أدرجها العلماء كأصل من أصول العقيدة، وقد تشدَّدت المذاهب فيما بينها حتَّى كفّرت بَعضها البعض بهذه المسألة وغيرها، وأصبحت من أبرز المسائل الخلافية بين المذاهب الإِسلامية، وعلى هذا الأساس فالإباضية يعتقدون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه عندما عَرج به إلى السماء، ويرون أَيْضًا استحالة رؤية الله تعالى في الدنيا وفي الآخرة، بشكل يتناسب مع تنزيهه من صفات النقص، وما تَدُلُّ عليه الآيات الصريحة، والأحاديث الصحيحة، وهو ما ينسجم مع العقل والمنطق حسب رأيهم وما ذكروا في كتبهم. والقول بعدم رؤية الله سبحانه وتعالى ليس جديدًا، وليس خاصًا بالإباضية فقط وإنما كان رأيًّا قديمًا وسائدًا في الصدر الأَوَّل من الصحابة والتابعين، إِلىَ أوائل القرن الثاني الهجري بعدما تحولت هذه القضية في العصر العباسي منذ خلافة المأمون إلى ما يشبه الخلاف السياسي المرتبط بالموالين للحكم العباسي والمعارضين له، كما حدث في فتنة خلق القرآن مع الإمَام أحمد بن حنبل الذي سجن وعذب أيام المأمون واستمر حبسه مع خلافة المعتصم والواثق حتى أطلق سراحه المتوكل.
هي إذن مسألة خلافية بين المذاهب، ويقول الإباضيون إنهم لا ينكرون على أحد أن يأخذ بأي رأي يشاء، وَإنَّمَا ينكرون التعصب المقيت الذِي لا يستند إِلىَ حجة، وَإنَّمَا هو اتباع للهوى، وحكم بغير بَيِّنَة ذهب بالبعض إلى حد تكفيرهم، فالمسلم حسب رأيهم لا يكفر إِلاَّ بإنكار صريح للقرآن أو تأويل آيات القرآن بما لا تحتمله اللغة العربية، أو أن تكون أعماله مخالفة لصريح القرآن.
أما فيما يخص الإمامة، فالإباضية يرون أنه لا يجوز في أي حال من الأحوال أن تبقى الأمة الإسلامية بدون إمام أو سلطان، مهما كانت الظروف السياسية والاجتماعية، وإلا لا تقام الحدود الإسلامية، وبالتالي لا يجوز الخروج عن الإمام العادل، سواء أكان إباضيًّا أم غير إباضي.
أين يوجد أتباع المذهب الإباضي اليوم؟
تشير بعض الإحصائيات إلى أن عدد أتباع المذهب الإباضي يقدر بحوالي 2.8 مليون شخص، يتوزع أغلبهم على الشكل التالي:
سلطنة عمان:
تقع سلطنة عمان في غرب آسيا، وتحتل الموقع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، وتبلغ مساحتها حوالي 309,500 كيلومتر مربع، يحدها من الغرب السعودية، ومن الجنوب الغربي اليمن، ومن الشمال الغربي الإمارات العربية المتحدة، ولديها ساحل جنوبي مطل على بحر العرب، وبحر عمان من الشمال الشرقي.
تعتبر عمان من أبرز معاقل المذهب الإباضي، إذ يشكل الإباضيون حوالي 70 في المئة من مجموع السكان، والسلطنة من أبرز أمثلة التعايش التام بين مختلف الطوائف والمذاهب الإسلامية، فلم تسجل أبدًا حادثة تذكر بين الإباضيين والشيعة والسنة المتجانسين مع بعضهم دون خلاف.
مزاب (غرداية) – الجزائر:
تبعد منطقة مزاب عن العاصمة الجزائرية بحوالي 600 كيلومتر، مساحتها حوالي 38 ألف كم مربع، يحدها شمالًا وادي بوزبير، وغربًا وادي زرقون، وجنوبًا بركاوي، ويمكن القول إن توزيعها السكاني يتباين بين أمازيغ يتبعون المذهب الإباضي وعرب يتبعون المذهب المالكي.
زوارة – ليبيا:
مدينة ليبية تقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، تبعد عن العاصمة طرابلس حوالي 120 كم غربًا، وتبعد نحو 60 كم عن حدود تونس، يبلغ عدد سكانها 32000 نسمة. وهي مدينة ذات أصول أمازيغية ما زال القسم الأكبر من سكانها يتحدثون الزوارية البربرية ويسمون مدينة زوارة باسم تامورت.
الجبل الغربي – ليبيا:
سلسلة جبال صخرية تقع في المنطقة الشمالية الغربية لليبيا، تبتدئ من تونس، وتجتاز الحدود حتى نالوت، وتستمر وصولاً إلى غريان، وتنتهي عند شرقي غريان، وتستمر سلسلة الجبال حتى الخمس. يبلغ ارتفاع أعلى قمة 968 مترًا.
جربة – تونس:
جزيرة تونسية تقع في جنوب شرق تونس في خليج قابس. تبلغ مساحتها 514 كم2 وتعد أكبر جزر شمال أفريقيا (شريطها الساحلي طوله 125 كم).
بسبب موقع الجزيرة المنعزل بحريًّا، فقد كانت ملاذًا لعدد من الأقليات العرقية والدينية والطائفية، إذ يقطنها السنة المالكيون والإباضيون الذين شهدت العلاقة بينهما الكثير من التشنجات عبر التاريخ، بالإضافة إلى جالية يهودية كبيرة.
ما الذي وقع في غرداية بالجزائر بين الأمازيغ الإباضيين والعرب المالكيين؟
يمكننا القول بأن التجاذبات بين السلفيين والأباضيين لم تتوقف طوال القرون التي خلت. إلا أن أسباب التجاذب كانت أكبر في الحالة الجزائرية. لأن الإباضية هناك لم يكونوا مختلفين في المذهب فحسب، وإنما اختلفوا في العرق أيضًا، باعتبارهم من المواطنين الأمازيغ. الأمر الذي أضاف مصدرًا آخر للحساسية بين الجانبين.
وهكذا فقد اندلعت في شهر رمضان الحالي، مواجهات عنيفة بين العرب المالكيين والأمازيغ الإباضيين في ولاية غرداية بالجزائر، راح ضحيتها 22 شخصًا، وجرح 700 آخرين.
المتتبعون للشأن الجزائري الداخلي، يجزمون بأن أصل المشكل يعود لما يمكن اعتباره تفاوتات طبقية وعوائق اقتصادية تعيشها المنطقة في ظل تهميش من السلطة المركزية، بين اتهامات بالتفقير يكيلها العرب للأمازيغ، واتهامات بالاستفادة من الامتيازات الإدارية والسلطوية يشير بها الأمازيغ إلى العرب، هذا رغم الطابع المذهبي العرقي للمواجهات الدامية التي اندلعت لأول مرة سنة 2008.
اضطر الجيش الجزائري لإنزال قواته حفظًا للنظام في الولاية، كما عملت الكثير من الفعاليات المدنية والجمعوية على احتواء الخلاف الذي قد يهدد الوحدة الجزائرية من خلال صراعات طائفية هو في غنى عنها، فتم تنظيم عملية إفطار رمضاني رمزي موحد بين أبناء المنطقة من العرب المالكيين والأمازيغ الإباضيين.
عبدالمجيد سباطة
(ساسة بوست)