قرأت كل صفحة من صفحات الاتفاق النووي الإيراني الذي يذهل العقل. وهو عبارة عن وثيقة جدية تَفاوض بشأنها أشخاص جديون. وهي تتضمن سلسلة من القيود المثيرة للإعجاب في كافة جوانب البرنامج النووي الإيراني لسنوات عديدة، والتي سيدوم بعضها لربع قرن.
إلا أن هذا الاتفاق هو أكثر بكثير من مجرد اتفاق تقني. فهو عبارة عن ورقة استراتيجية تضع الخارطة لبروز إيران كقوة إقليمية، مع المباركة الكاملة، وحتى الدعم، من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي.
في البداية، من المهم أن نلاحظ مدى تطور القضية الإيرانية منذ أن ضغط المشرّعون بعيدو النظر [في كونغرس الولايات المتحدة] ولأول مرة على الإدارات الأمريكية السابقة لفرض عقوبات على الجمهورية الإسلامية بسبب برنامجها النووي الذي يؤدي إلى زعزعة الاستقرار. ففي الأصل، كان من المفترض أن تستند الدبلوماسية مع إيران على مقايضة صرفة وهي: إنهاء أمريكا (وشركاؤها) لعقوباتهم المتعلقة بالأسلحة النووية مقابل إنهاء إيران لبرنامجها النووي المحلي.
وبعد ذلك تنازلت الولايات المتحدة لإيران عن الحق في الحصول على المفاعلات النووية الخاصة بها ولكن ليس بتطوير القدرات المحلية لتخصيب الوقود النووي، الذي يشكل أيضاً العنصر الأساسي للأسلحة النووية. ثم تنازلت الولايات المتحدة لإيران عن الحق في التخصيب لكن في ظل قيود صارمة. وفي مرحلة أخرى، تنازلت الولايات المتحدة لإيران [حول موعد] انتهاء القيود الصارمة على التخصيب حيث يكون ذلك في مرحلة ما في المستقبل.
وكانت النتيجة بأن الاتفاق، الذي اعتُبر في الأصل على أنه تخفيف للعقوبات التجارية عن البرنامج النووي الإيراني، تطور مع مرور الوقت ليصبح عبارة عن اتفاق لتخفيف العقوبات التجارية مقابل فرض قيود لفترة زمنية محدودة بشأن الخطط النووية الإيرانية الطموحة، تُطبق من خلال نظام قوي من الرصد والتحقق وتحديد العواقب. إن هذا الاتفاق الجديد والأقل نطاقاً، الذي يبعد إمكانية أن تصبح إيران دولة على عتبة الأسلحة النووية في المستقبل، ربما لا يزال يصب في مصلحة الولايات المتحدة، ولكن ينبغي للمرء أن يبدأ أي تحليل بالتذكير بالشوط الذي قطعته واشنطن من المقصد الأصلي للعقوبات والدبلوماسية الأمريكية.
وتُبين قراءة متأنية للنص بأن هناك ثغرات كبيرة محتملة فيه حتى في قوة النظام الجديد الذي حدده الاتفاق. وفيما يلي ثلاث منها:
متى سيدخل المفتشون إلى المواقع المشبوهة؟ وفقاً لما فهمْتُه من قراءة الاتفاق، أمام إيران مهلة أمدها 24 يوماً لتأخير أي مجموعة من عمليات التفتيش. وفي حين قد يستغرق تنظيف منشأة ضخمة لتخصيب اليورانيوم تحت الأرض أكثر من 24 يوماً، إلا أن هناك العديد من النشاطات غير المشروعة التي يمكن لإيران أن تخفيها في غضون إشعار مدته 24 يوماً.
ما هي النتائج المترتبة على الانتهاكات الإيرانية؟ وفقاً لما فهمْتُه من قراءة الاتفاق، هناك عقوبة واحدة فقط لأي مخالفة سواء كانت كبيرة أم صغيرة، وهي إحالة إيران إلى مجلس الأمن الدولي من أجل “إعادة فرض” عقوبات دولية. وهذا أشبه بالقول بأن أي جريمة سواء أكانت جنحة أو جناية، تلقى عقوبة الإعدام. وفي عالم الواقع، يعني ذلك أنه لن تكون هناك عقوبات على أي شيء أقل من جريمة كبرى.
ما معنى “إعادة فرض العقوبات” من الناحية العملية؟ لنفترض أن مجلس الأمن الدولي يأمر بإعادة فرض العقوبات. وفقاً لما فهمْتُه من قراءة الاتفاق، ستكون جميع العقود التي وقعتها إيران حتى ذلك الحين معفية وبمنأى عن العقوبات. أي أنه يمكننا أن نتوقع اندفاعاً نحو توقيع عقود ما بين دولة وأخرى ومع القطاع الخاص، بعضها حقيقي والعديد منها افتراضي، وجميعها مصممة لحماية إيران من تأثير إعادة فرض العقوبات المحتملة، مما يضعف بالتالي من تأثير العقوبات.
ولكن المشكلة مع إعادة فرض العقوبات تزداد سوءاً. فالاتفاق يشمل تعبيراً بأن إيران ترى إعادة فرض العقوبات بمثابة إعلان عن تحريرها من جميع الالتزامات والقيود المفروضة بموجب الاتفاق. وبعبارة أخرى، إن الانتهاك يجب أن يكون كبير حقاً لكي ينسف مجلس الأمن الدولي الاتفاق ويعيد فرض العقوبات، الأمر الذي يعطي إيران بشكل فعّال ترخيصاً لجميع أنواع الانتهاكات الصغيرة والمتوسطة.
إن هذه الفجوات وغيرها جوهرية. لذا فهي تستحق أن تحظى بفحص دقيق من قبل المشرّعين في الكونغرس الأمريكي وبإجابات واضحة من قبل الإدارة الأمريكية. لكن المخاوف بشأن الاتفاق هي أوسع من ذلك بكثير.
هذا وتشمل الصفقة مع إيران أيضاً التراجع إلى حد كبير عن جميع العقوبات “المتعلقة بالشأن النووي”، سواء تلك التي فرضتها الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة. ويشمل ذلك جميع العقوبات في مجالات الطاقة والنقل والعقوبات المالية والتجارية. وفي الواقع، يتضمن الاتفاق صفحة بعد صفحة من أسماء الأشخاص والشركات الذين سوف يتم “رفع التجميد” عن أصولهم. بالإضافة إلى ذلك، يتضمن تخفيف العقوبات، في السنة الخامسة، رفع الحظر المفروض على الأسلحة التقليدية على إيران، وفي السنة الثامنة، رفع القيود المفروضة على تسليم مكونات الصواريخ الباليستية إلى إيران.
بالإضافة إلى ذلك، هناك التزام رئيسي في الاتفاق يحظر على موقّعيه “إعادة إدخال العقوبات أو إعادة فرضها”، بينما يرد لاحقاً في النص أنه ممنوع عليهم “فرض الشروط التنظيمية والإجرائية التمييزية بدلاً من العقوبات والتدابير المقيدة التي يغطيها [الاتفاق]”. فهل يعني ذلك أن الولايات المتحدة ستقف مكتوفة الأيدي ولن تطبق هذه العقوبات ضد إيران بسبب نشاطاتها العدوانية الأخرى، من الإرهاب إلى انتهاكات حقوق الإنسان؟ يبدو أن الولايات المتحدة، على أقل تقدير، لم توضح بما فيه الكفاية عزمها على الحفاظ على عقوبات لهذه الأغراض غير النووية. وفي الواقع، قد تعتقد إيران أنها البلد الوحيد في العالم الذي لا يمكن أن تطبق ضده أبداً لائحة طويلة من العقوبات على أي جريمة قد يرتكبها، الأمر الذي لن يؤدي سوى إلى الترحيب بالسلوك السيئ الذي تأمل واشنطن تفاديه.
ويذهب الاتفاق مع إيران إلى أبعد من ذلك. فعلى رأس الامتناع عن معاقبة إيران على السلوك السيئ تلتزم الولايات المتحدة وشركاؤها بمساعدة إيران على التطور في مجالات الطاقة والتمويل والتكنولوجيا والتجارة. إن الفكرة بأن الولايات المتحدة وحلفاءها، سيساعدون فعلاً إيران لتنمو وتصبح أقوى في هذه المجالات ستكون لها نغمات متعارضة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، حيث يُنظر إلى النظام الإيراني على أنه صانع القرار وراء قمع الرئيس السوري بشار الأسد الوحشي لشعبه، والتمرد الحوثي ضد سلطة الدولة في اليمن، وتوسيع زحف النفوذ الشيعي في العراق وأنشطة بعض الجماعات الإرهابية الفلسطينية الأكثر تطرفاً.
وفي هذا السياق، يُعتبر هذا الاتفاق تاريخياً بحق. إذ يمثل نقطة تحول محتملة في التزام الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، أي تحولاً من بناء الأمن الإقليمي على فريق من الحلفاء القدامى الذي كانوا أنفسهم خصوماً سابقين لبعضهم البعض، أي إسرائيل والعرب السنة، لصالح التوازن بين هؤلاء الحلفاء وعدو الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، أي إيران.
إن هذه الصفقة لا تعني أن الولايات المتحدة وإيران أصبحتا الآن شريكتين، بل الوضع بعيد كل البعد عن ذلك. ولكنه يبعث بهزات في جميع أنحاء المنطقة حول إمكانية شراكتهما. ولا يتوجّب على إيران دفع ثمن هذا المكسب الاستراتيجي الضخم من خلال تخليها عن اللجوء إلى الإرهاب والتخريب والسياسات الأخرى التي تطرح إشكالية. فالثمن الوحيد الذي تدفعه إيران مقابل هذا المكسب الاستراتيجي الضخم هو تأجيل طموحاتها النووية.
ربما يحقق الاتفاق، حتى مع جميع هذه المشاكل، ما وعدت بتحقيقه إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، أي منع مسارات إيران المتعددة نحو الوصول إلى القنبلة، على الأقل خلال العقد المقبل. وربما تحقيق هذا الهدف يستحق التضحيات والتنازلات العديدة التي قدمتها واشنطن على طول الطريق الذي سارت به وصولاً إلى هذا الاتفاق.
قبل تقديم هذا الحكم، لا بد للإدارة الأمريكية أن توضح عيوب الاتفاق الواضحة و تعقيداته. ولا تقل أهمية عن ذلك ضرورة أن تقدم هذه الإدارة بقدر أكبر من الوضوح الأساس المنطقي للميزان الاستراتيجي، أو ربما المنافسة الاستراتيجية، بين حلفاء الولايات المتحدة القدامى وحليفها المحتمل الجديد، الذي يبدو أن هذا الاتفاق يعنيه ضمنياً.
روبرت ساتلوف هو المدير التنفيذي لمعهد واشنطن.