منذ بدء الازمة السورية أبدت اسرائيل حماسة في الترويج “للثورة”. فتحت مستشفياتها، قدمت المشورة وساندت “الجيش الحر” على الحدود بتقديم المؤازرة اللوجستية وخدمات الاتصالات، لا بل صوّبت النار على الطائرات السورية التي كانت تستهدف المسلحين في القنيطرة.
لم يكن اندفاع تل أبيب نابعًا عن دعم للديمقراطية المزعومة في تحرك وهدف “الثوار السوريين”. اعترف الإسرائيليون مرارا ان دمشق شكلت طيلة الأربعين سنة الماضية تهديدا استراتيجيا لهم. كانوا ينطلقون من صدمة حرب “يوم الغفران” وذكرى معارك طبريا والهجوم المفاجئ آنذاك الذي صعق اسرائيل. لم تكتف تل أبيب بتلك الوقائع للحديث عن الخطر السوري على وجود الكيان العبري. كان يمكن ان تستمر قواعد الاشتباك التي حصلت منذ ما بعد حرب تشرين الى ما قبل الازمة السورية المستمرة. تل أبيب درست مسألة انخراط سوريا الكامل “بمحور المقاومة” ووصلت الى نتيجة منذ سنوات مضت تفيد ان سقوط نظام الرئيس بشار الاسد سيقطع الإمداد الإيراني للمقاومة في لبنان، وسيلحق الضرر بتسلح “حزب الله”. هكذا برهنت اسرائيل عن وجود مصلحة لها بدعم “الثورة السورية”.
منذ أسابيع تبدل الخطاب الاسرائيلي اقله في الصحف العبرية. في “هآرتس” و”يديعوت احرونوت” و”إسرائيل اليوم” وغيرها مقالات متزامنة تحذر فيها من تمدد الارهاب في جنوب سوريا.
كتب عيزر تسفرير في “هآرتس” منذ ايام عن وجوب تغيير السياسة الاسرائيلية: “مع سقوط نظام الاسد ستكف سوريا عن كونها دولة سيادية وستتحول الى ثقب اسود وتزدهر الأصولية على حدود اسرائيل، وغياب سلطة مركزية سيجذب الى سوريا عناصر اسلامية متطرفة من افغانستان وحتى الشيشان الذين سيتوسعون نحو اسرائيل”. يضيف الكاتب في نفس المقال ان انتصار المعسكر الاسلامي المتطرف سيخلق تهديدا للنظام الهاشمي المؤيد للغرب في الأردن، وسيؤثر في الوضع الطائفي القائم في لبنان، وسيؤدي الى تغيير حقيقي في الشرق الاوسط”.
من هنا ينطلق هذا الكاتب الاسرائيلي للطلب بوجوب تغيير السياسة الاسرائيلية تجاه سوريا والكف عن مساندة المسلحين، لا بل ذهب به الامر الى الحديث عن وجوب دعم النظام وغض الطرف عن وجود قوات مقربة من ايران في سوريا.
الخطير هو التركيز الاسرائيلي للحفاظ على الوضع القائم في سوريا، بمعنى منع انتصار اي فريق على آخر، لضمان ترسيخ عدم قدرة دمشق على تهديد تل أبيب وانشغالها الدائم بمحاربة التطرف.
في “اسرائيل اليوم” كتب ايال زيسر تحت عنوان “خطر داعش من الجنوب ومن الشمال”. حاول الكاتب الاسرائيلي التركيز على ما حصل في سيناء وما يجري في جنوب سوريا. عكس الكاتب مخاوف إسرائيلية من تمدد “داعش” وطالب بالتعاون المكثف مع الأردن ومصر ولمّح الى وجوب تغيير الأساليب بالتعامل مع ازمة سوريا.
تنطلق الصحافة الاسرائيلية مما حصل في سيناء. بالنسبة اليها ان الخطر تعاظم. لن ينفع “التخادم” الذي جرى بين تل أبيب ومسلحين تواجدوا في جنوب سوريا.
يحذر اليكس فيشمان في مقال بعنوان “تجاوز الخطوط السوداء” تم نشره في صحيفة “يديعوت احرونوت”. يقول: “رغم ان صورة داعش على الحدود الاسرائيلية الجنوبية اصبحت واضحة، الا ان الصورة المقلقة تأتي من الحدود الشمالية حيث يعمل “داعش” على إسقاط نظام الاسد”. يضيف فيشمان: “داعش ليس موجودا فقط في سيناء بل هو تجاوز الحدود من سيناء الى النقب”.
الاستنفار الصحافي الاسرائيلي متواصل ضد التطرف. لكنه بنفس الوقت لا يريد حسما للازمات الإقليمية. هو يسعى لفرض المراوحة في دورة الدم السورية. له مصلحة أيضاً بدخول مصر في تلك الدورة.
الاشارة الاسرائيلية الى تهديد الجيش السوري لتل ابيب منذ حرب تشرين حتى بداية الازمة الحالية، والتأكيد ان لا مصلحة إسرائيلية بإنتصار فريق في سوريا على اخر: “يجب ان تبقى الحرب مستمرة”. كل ذلك يعني ان مصلحة اسرائيل تقضي بالإستنزاف السوري المتواصل. تريد تل أبيب لمصر استنزافا طويلا مشابها أيضاً.
المعادلة باتت اوضح. الجيشان السوري والمصري في عين العاصفة لتحقيق رغبة تل أبيب بضرب هذين الجيشين بعدما تم إشغال الجيش العراقي بالحروب الداخلية والاستنزاف ومواجهة الارهاب على ارض العراق.
لكن اسرائيل بنفس الوقت تحذر من “الجيش الاسود” اي الدواعش. لذلك تقضي المصلحة الاسرائيلية بإنهاك كل تلك الجيوش، بما فيها تنظيم “داعش”. هذا ما يحصل عمليا.
تبدلت المعادلات وفُتحت السيناريوهات على كل الاحتمالات، بعدما انقلبت اسرائيل على نفسها في التعامل مع ازمة سوريا.
عباس ضاهر – النشرة