الصحراء الكبرى في الذيل الشمالي لمصر العظمى، لازالت محطًا للكثير من الأزمات ومصدر أرق مزمن للسياسة المصرية، حالة لم تُدرَس ولم تأخذ حقها في التشخيص والعلاج، إذ تُركت الصحراء مهملة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، بل إن الإتفاقيات التي وقعتها الدولة المصرية مع الجانب الصهيوني تُقنن القوة العسكرية فيها من حيث العدة والعتاد على الأطراف الشمالية لمصر دون مراعاة لحساسية وأهمية المنطقة، مما أدى إلى ارتخاء القبضة الأمنية في منطقة ذات طبيعة جيوستراتجية وطوبوغرافية خاصة، ومختلفة عن باقي المناطق المصرية من شرقها إلى غربها، ومع ذلك فإن المفاوض المصري أدخل نفسه في فوضى مستمرة لا تنتهي بجولة أواثنتين لطالما بقيت فيها يده الأمنية أقصر من نظره.
فالدولة التي تبني ذاتها بالعصا وتحكم شعبها بالقوة لا يمكنها أن تعالج الفلتان والخروج عن القانون إلا بالقوة ذاتها، والقوة القاصرة لا تعالج أزمة متفاقمة، مما يستوجب على وجه السرعة والخصوص إجراء دراسات وبحوث مكثفة تشخص تلك المشكلة بعيدًا عن مفاهيم القوة والهيمنة الأمنية لتبدأ المنطقة في مرحلة علاج إذا ما أُريد لها أن تشفى وتتعافى.
هل يمكن النظر إلى ما يجري في شمال سيناء بمعزل عن الأحداث التي جرت منذ عهد الثورة؟، من السؤال يتبين أنه لا يمكن الإفلات من استحقاقات ثورة 25 يناير ذاتها، بدايةُ حللحة الأوضاع وتصدُّر المواقف جماهيريًا وشعبيًا، وكسر حاجز الخوف من القوة الأمنية والعسكرية بمواجهة العساكر ورجل الأمن بصدور شعبية عارية وأصوات جماهيرية جهورة تحت أعين حاجب السلطان وجلاده، مما ضاعفت من حالة التمرد، لتصوغ بعدها كل عصبة أهداف تمردها بمعزل عن غيرها، ثم تبدأ بصناعة وسائل تحقيق أهدافها وغاياتها.
حتى إننا رأينا نمو بعض الإسلاميين المتطرفين منذ اللحظات الأولى لنجاح الثورة، وهو التحدي الأول الذي ستواجهه إفرازات 25 ياناير، بين إبقاء القبضة شديدة الإحكام، وبالتالي الدخول في معارك إعلامية تتهم نتاجات الثورة بكبت الحريات والإقصاء السياسي والتشديد الأمني، وبين إرخاء القبضة للحركات المتشددة، وبالتالي مواجهة مباشرة في المستقبل مع أعضائهم أو انشغال في حل أزماتهم الدينية والطائفية التي يخلقونها داخليًا.
بين الخيارين السابقين ترتسم ملامح مرحلة جديدة لمصر، تقول تحليلات الأحداث إن إحدى العوامل لنمو الجماعات المتطرفة في شمال سيناء وتزايد عملها التفجيري في أجهزة الجيش المصري وأعضاءه، إنما تعود إلى القرارات السياسية الخاطئة والتي صدرت في حقبة الرئيس المعزول محمد مرسي بالإفراج عن شخصيات إسلامية متهمة بالإرهاب وأعمال قتل وتفجير، كما أن الفترة شهدت نمو الجماعات السلفية الجهادية واستعادة نشاطها داخليًا، حيث كان لضعف الإدارة السياسية في عهد الرئيس محمد مرسي أثره وأسبابه في تكوين خلايا نائمة في شمال سيناء، وخلايا تتبع رسميًا لتنظيم القاعدة العالمي، وأخرى حديثًا أعلنت أنها تبايع أبو بكر البغدادي، أي أنها تنضوي طبيعيًا تحت تنظيم داعش الإجرامي، وهي إحدى التكوينات النامية من الخلايا النائمة.
والسؤال الذي يطرح نفسه، ما هي الحيثيات التي تجعل الإرهاب ينشط في سيناء؟ وما علاقته بالأزمة الداخلية المصرية؟، سؤال تحاول مؤسسات الدولة الرسمية، الهروب من جوابه واستحقاقته، فربما حل إشكاليات هذا السؤال يقطع ثلثي الطريق على نمو التنظيمات المتطرفة داخل أراضيها، ولكن استحقاقاته أكبر من أن تقبل به قوى مستبدة بعينها، وإذا ما أُريد تشخيصًا سليمًا للمشكلة تقود إلى حلٍ شفائي، فلا يمكن أن تبدأ دراسة الأوضاع الأمنية في شمال سيناء وأزماتها دون الوقوف على الأزمات السياسية الحاصلة في عمق مصر وأطرافها، وقفة جادة تدرس علاقة الأعمال العنفية والمتطرفة بالسياسات العسكرية والأوضاع الداخلية للدولة الأمنية.!
لا شك أن الاستبداد، وتمزق النسيج الإجتماعي، والإقصاء السياسي خاصة لطبقة الشباب، وتنامي القوة الأمنية في البلاد، وكبت الحريات ،وتكميم الأفواه، وقصور أو تقصير الدولة في واجباتها المنوطة بها إزاء المواطنين، وغيرها من الأسباب التي تعصف بمصر وشعب مصر متعانقة مع عوامل تداخل المحلي بالإقليمي وأخرى دينية، أدت وتؤدي إلى مزيد من قلقلة الأوضاع وتفجيرها كلما تملكت السلاح مجموعة الأفراد المتأثرة بالعوامل السابقة.
أما الحدث الأمني فيبقى مستقلًا بأهميته من حيث الدلالات والإِشارات، فقد ذهب البعض لعدّه عمليةً نوعية مقارنة بالجيش المصري وهيبته وسمعته، ومن جهة أخرى فإن فرق التوقيت الزمني لشريط داعش ولاية حلب وهي تتوعد حماس وتهددها بقتلهم في عقر غزتهم له دلالته الكبرى ، إذ كان فرق التوقيت يقارب الأربعة والعشرون ساعة.
ومن زاية أخرى، فإن الحدث يدل على أن المواجهة العسكرية على مدار أكثر من سنة مضت، أفادت تلك العصابات الإجرامية وجعلتها قادرة على تغيير ذاتها والتكيف مع محيطها، فقد تموضعت بشكل يصعب اقتلاعه في شمال سيناء خلال الفترات السابقة من المواجهة الدامية مع مصر وجيشها، مكنها هذا التموضع من تكرار مثل هذه الحواث بفاصل زمني قصير جدًا، مستفيدة من خبرة كرّها وفرّها ضد الدولة.
ويأتي السؤال اللازم، كيف يمكن تلاشي شرور التنظيمات المتطرفة؟ وما السبيل للحيلولة بينهم وبين الشباب المصري؟ ثم هل تكون مواجهة الأفكار المتطرفة بالقضاء على أجسامها التنظيمية أم تجفيف منابعها الفكرية؟
وإذا خصصنا الحديث عن مصر وشمال مصر “سيناء” فإن حديث مواجهة الأفكار المتطرفة ينحني نوح مسارات ثلاث:
المسار الأول: مسار تنموي يعمل على إنعاش تلك البقعة الجغرافية إقتصاديًا، والعمل على رفع مكانتها بإصلاحها وتنميتها وتطوير سبل الحياة والمعيشة فيها.
المسار الثاني: أمني عسكري، على أن يتم تقنين استخدام الأداة العسكرية لا تضخيمها، والعمل على حل الأوضاع السياسية بعيدًا عن البندقية العسكرية، والذي من شأنه تخفيف حالة التباعد بين القوى الوطنية والعمل على لم شملها وتوحيد جهودها، بدلًا من التفرق والتفكك التي تقود إلى الإنحارف الفكري والتطرف السلوكي.
المسار الثالث: فكري وثقافي، لإزالة الركائز الفكرية التي يعتمد عليها الإرهابيون في تجنيد أفرادها وحشد تعاطف الجماهير معها، ولا بد للعلماء وكبار المؤسسات الفكرية والدينية في مصر من التصدر لهذه المهمة والعمل على تجديد الفكر ومعالجة الأفكار الميتة ومقاومة الأفكار القاتلة بين شباب مصر.
الخلاصة:
تأتي الأحداث متسارعة الخطى لتلقي بثقلها على كاهل المنطقة العربية، فلا تكاد تفيق المنطقة من ضربة إلا وتدخل أختها في أخرى، وباتت الجماعات الإسلامية المتطرفة تضاهي الحكومات العربية المستبدة في تخوف الشعوب من ظلمها واستبدادها وشذوذ سلوكياتها، لتلقي بالمهمة على عاتق مفكريها ومؤسسات أبحاثها لتناول الظاهرة بصورة أعمق وأدق، وتجليتها للمواطن العربي بصورة تشكل مانعًا وقائيًا من ظاهرة التطرف.
وبالنظر إلى خارطة وطننا العربي فإننا نجد كبرى دول الوطن العربي تنقسم على ذاتها وتكابد ويلات حكامها واستبداد متطرفي جماعاتها المتدينة، فلم يعد المشهد السوري بشقيه الأسدي في دمويته السياسية، والداعشي في دمويته الدينية، محل قدرة واحتمال على تكراره في دول عربية أخرى، لا سيما مصر بوابة الوطن العربي وذات العمق العربي الاستراتيجي في المنطقة، وتماسها الهام مع الكيان الصهيوني، وتأثرها وتأثيرها في المنطقة العربية برمتها.
وإذا ما قُدر للأفكار المتطرفة من التفشي داخل الأراضي المصرية، فإن إنذار إنفجار مدوٍ ستشهده المنطقة في السنوات القليلة المقبلة، وإن متاهات جديدة تنتظر الوطن العربي من شأنها دفع عجلة التغيير إلى الوراء مئات السينين.
أما من ناحية أصحاب القرار، فإن السؤال يتكرر عن جدوى سياستهم الأمنية المتبعة وراء كل عملية داعشية في سيناء، فهل من المجدي أن يبقى السؤال قائمًا كما هو دون تغيير في النظر إلى تركيباته بتقديم وتأخير في محتواه، لينضج عنه سؤال أكثر أهمية، ما هي جدوى السياسة الأمنية المتبعة في التعامل مع الأزمات السياسية الداخلية؟ لا سيما أن بديهيات قوانين الشعوب الاجتماعية، تقول بأن دخول المجتمعات في حالة عدم توافق وطني يوفر مظلة للعمليات الإراهبية، وأن تفكك التماسك الإجتماعي يوفر تربةً خصبةً للأفكار العنفية، وأن الانسداد السياسي يوفر بيئة خامًا لتشكل الخلايا الإرهابية، فهل تعي السياسة المصرية تلك القضايا؟ وهل سيقف أصحاب القرار والجهات التنفذية العليا أمام مسؤولياتهم التي يلقيها الوطن على عاتقهم، ويعيدون النظر في خطواتهم ومساراتهم التي قضت على التماسك الاجتماعي والتناغم الوطني بين مكوناته وأطيافه المختلفة؟!
ويبقى الحلم لكل الأحرار والطامحين في مستقبل مشرق لأمتهم، أن ترى في الأفكار المتطرفة تحديًا تخلقه داعش في المنطقة، تًمكّن القوى السياسية المصرية من نفض خلافاتها جانبًا والنظر إلى الأحداث السياسية لمواجهتها بشكل أفضل، وتمكنهم من تجاوز الأنا الحزبيةوالإنخراط في المجموع الوطني، ومن ثم العمل المتناغم والمشترك بين كافة أطياف الوطن شعبًا وحكومةً، معارضةً ودولةً، أفرادًا ومؤسساتًا، لمواجهة خطر الفتنة الداعشية المشتعلة في المنطقة وحماية مصر من نارها وويلاتها.!
(مركز برق)