أفادت تقارير إعلامية أن مجموع عدد ضحايا أعمال العنف المذهبي بين الإباضيين والمالكيين في غرداية وبريان والڤرارة بمنطقة واد ميزاب )جنوب الجزائر(، بلغ في غضون أقل من 48 ساعة 25 قتيلا، أما الجرحى فإنهم بالعشرات، مع ملاحظة استعمال السلاح الناري على نطاق واسع للمرة الأولى.
ومنذ اندلاع أعمال العنف المذهبي في غرداية في نوفمبر وديسمبر 2013 بلغ عدد الضحايا في 21 شهرا 17 قتيلا، وفي غضون 48 ساعة الماضية سجلت الولاية 25 قتيلا دفعة واحدة وأكثر من 100 جريح.
يرى الباحث الجزائر في علم الاجتماعي السياسي، الدكتور ناصر جابي، أن “أحداث غرداية هي نتاج فشل في تسيير الاختلافات والتنوّع، والنظام لم ينتبه إلى أن المنطقة أمام عدم تجانس اجتماعي وثقافي أعيد إنتاجه”. فالنظام فشل في تسيير الاختلافات والتنوع، ورفض الاعتراف بهما ورفضهما، وغرداية مثال عن الفشل في إدارة تلك التحولات التي تعرفها الجزائر.
فمنذ سنوات، وفقا للباحث، قلّ الزواج بين المُكوّنين (الإباضيون والمالكيون)، بعكس الشاوية والقبائل، ولاحظنا عدم الاختلاط في الزواج والسكن، وعدم تجانس في النشاط التجاري، وفي المدرسة ظهر نظامان تعليميان مختلفان، والدولة أضحت قاصرة بحيث لم تبن أحياء جديدة وكبيرة لتشجيع الاختلاط.
وأضاف أن عدم التجانس معناه أن المُكوّنين ليس لهما نفس العلاقات مع مؤسسات الدولة، والميزابيون يعتقدون أن الدولة تعمل ضدهم، وغرداية كانت منطقة هادئة في ظل ثقافات أخرى وجيل آخر. وكنا نعتقد في سياق صورة تقليدية أن الميزابي لا يتصرّف بعنف إلا نادرا، ولا يرد على الهجمات، أما الآن فقد ظهر تحوّل جديد لدى الجيل الجديد، خصوصا الشباب، الذين يردون ولا يسكتون، وبالتالي ما كان حاصلا في الأجيال القديمة، ليس قائما مع الجيل الجديد، الذي يريد الاندماج في الدولة ويكون له صوت مسموع.
ومهم الآن إعادة قراءة في التحولات الطارئة في المنطقة عبر اقتراح طرق تسيير أخرى والتخلي عن اللجوء إلى الأعيان، فمن قال بأن كلمتهم أضحت مسموعة؟ وهل يسمع لهم شباب تخلوا عن فكرة المجتمع التقليدي؟
وهناك عقليات وطموحات جديدة ظهرت لدى المُكوّنين، فالمالكيون يريدون دخول المدينة بهدف الاندماج والشغل، والإباضيون الميزابيون يريدون الحفاظ على ما يميّزهم من نمط معيشة وعمران.
وأزمة غرداية طال أمدها وتعفنت، وللأسف السلطة حُصرت مطالب الجزائريين في سكن وقطع أرضية بعيدا عن التحولات، ومشاكل الجزائريين اختزلت في حلول اقتصادية، وإن كان جانبها الظاهر كذلك، والنتيجة هي أن النظام أصبح خطرا على الدولة.
* تخبط النظام:
كشفت معلومات تم تسريبها من اجتماع وزير الداخلية مع قيادات أجهزة الأمن المختلفة، أن قيادة الجيش اقترحت على الرئيس بوتفليقة اختيار واحد من 3 حلول لمواجهة الأزمة في غرداية، الأول هو إعلان حالة طوارئ في ولاية غرداية، وهو ما يسمح لقوات التدخل التعامل بالعنف المطلوب مع مثيري أعمال العنف، حيث تقيد القوانين الحالية تدخل وحدات مكافحة الشغب في غرداية.
أما الحل الثاني فهو تطبيق حظر للتجول في مدن ولاية غرداية الساخنة بأمر رئاسي. والحل الأخير الذي قد تلجا إليه السلطات، هو السماح بتدخل مباشر لقوات عسكرية تسيطر مباشرة على الأحياء الساخنة، مع اعتبار هذه الأحياء مناطق عسكرية.
وقد اتخذت الرئاسة قرارين مختلفين حول أزمة غرداية في غضون أقل من 48 ساعة، نص الأول على تكليف الجيش بإدارة الأزمة يوم الثلاثاء، ثم جاء الثاني لكي يلغي الأول ويعيد صلاحية تسيير الأزمة لوزارة الداخلية.
وقبل هذا، لم تنجح عشرات الزيارات لكبار المسؤولين في إنهاء الصراع المذهبي في غرداية أو حتى التقليل من حدته، في مؤشر لافت يزيد من غموض الوضع وتعقيده ويكشف العجز الفادح لأجهزة الدولة في إيجاد حل دائم للأزمة.
وكتب أحد الصحافيين معلقا على الأحدث قائلا: “يشبه الوضع في غرداية البركان النشيط الذي يخمد قليلا ثم يعاود الانفجار، ففي كل مرة يعتقد الجزائريون أن السلام قد حل بالمدينة العريقة تاريخيا، إلا وتندلع المواجهات المذهبية والعرقية من جديد، مخلفة مزيدا من الضحايا بين الطرفين المتصارعين، وملقية بمصير المدينة إلى أتون المجهول.
ذلك أن الأزمة التي اختفت قليلا عن الأنظار عاودت الظهور في أسوأ حالتها، بأكبر حصيلة من القتلى تسجل في غرداية خلال يوم واحد منذ اندلاع المواجهات أواخر سنة 2013، فيما يشبه دوامة دخلت فيها المدينة ولم تعد قادرة على الخروج منها أو تجاوزها، رغم ما يظهره أهلها ولو ظاهريا من استعداد للتجاوز والعيش المشترك. وبدل أن يحمل المسؤولون والوزراء الذين يتقاطرون على غرداية الحلول لأزمتها، صار وجودهم من عدمه لا يؤثر في مجريات الأحداث”.
وفي كل مرة يحل وزير أو مسؤول بغرداية، يتكرر نفس الخطاب من دعوة للتهدئة توجه في لقاء مع أعيان المدينة من الطرفين الإباضي والمالكي، ثم التحذير من أن الدولة لن تسمح بالممارسات التي تكرس أسلوب الفتنة والاستفزاز المتبادل الذي يشعل فتيل المواجهة.
لكن هذه الإستراتيجية في التعامل، لم تؤت أكلها في إنهاء أزمة يصفها علماء الاجتماع بالمتجذرة ومتعددة الجوانب، والتي تحتاج إلى علاج عميق يبتعد عن السطحية والتبسيط. أما على المستوى الميداني، فلم ينجح الحل الأمني في إيقاف أعمال الشغب والمواجهات، أو على الأقل التقليل من الخسائر رغم الإمكانيات الكبيرة المرصودة من حيث البشر والعتاد.
* الرئيس المريض…الغائب الأكبر:
أما الغائب الأكبر في ما يجري، وفقا لمتابعين، فهو الرئيس بوتفليقة الذي اكتفى من أول تعليق له على الأزمة في 30 ديسمبر 2013، عبر بيان مجلس الوزراء، بالخطاب الوعظي والدعوة إلى “ترجيح قيم التسامح والوئام والحوار التي يحث عليها ديننا الحنيف وفضائل التضامن والوحدة العريقة في بنية مجتمعنا”.
واللافت، كما كتب أحد المعلقين، أن الرئيس الذي يستقبل الرؤساء والمسؤولين الأجانب بكثافة، لم يكلف نفسه عناء استقبال ممثلين عن المدينة بعد أن استنفدت أوراق باقي المسؤولين الذين يوفدهم.
تداول على وزارة الداخلية، منذ اندلاع الفتنة المذهبية في غرداية، ثلاثة وزراء للداخلية الذين تنقلوا إلى المنطقة وأعلنوا عن مبادرات واستراتيجيات لإعادة السلم والهدوء بمنطقة واد ميزاب، غير أن لا شيء منها تحقق.
وما يلاحظ أن أحداث العنف في غرداية تتكرر منذ قرابة السنتين تقريبا دون أن تتوقف كلية، وهو ما يعني أن تجدد هذه الأحداث بين سكان غرداية له تفسيرات مختلفة، فإما أنها تعود إلى عملية توظيف سياسي من قبل بعض الأطراف، سواء من داخل النظام أو من خارجه، وإما أن هنالك مشكلا فعلا لم تتم معالجته إلى الآن، ويستعصي تجاوز هذه الأزمة دون حله ومعالجته.
لقد أُغرقت غرداية على مدار السنتين الماضيتين بتعزيزات أمنية بالآلاف من جيش ودرك وشرطة وحتى مخابرات، في سياق التدابير المتخذة لاحتواء الوضع الأمني بوادي ميزاب، كما نصبت كاميرات مراقبة وشكلت خلايا أزمة وأخرى أمنية وغرف عمليات وغيرها للإمساك بزمام الأمور، غير أن منطق اللاحرب واللاسلم ظل جاثما على غرداية، ما أفقد المنطقة الهدوء والاستقرار.
واقتصرت حلول السلطة التي حملتها إلى غرداية ثلاثة وزراء للداخلية على الحل الأمني، في حين أن الكثيرين يرون أن الأزمة تقتضي حلولا سياسية وأخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية، وما دون ذلك ستبقى الأزمة تزداد تعفنا وتعقدا واستعصاء وابتعادا عن الحل، مع كل يوم تتجدد فيه مناوشات جديدة بين سكان وادي ميزاب.
* مرض الرئيس أصاب الدولة بالشلل:
ويقول مطلعون إن الرئيس المقعد عبدالعزيز بوتفليقة عندما عدّل الدستور للظفر بالعهدة الثالثة، لم يكن يفعل ذلك لنفسه، بل يؤسس دستوريا لعهدة أولى لأخيه، سعيد بوتفليقة، فالرئيس وقتها كان مريضا ويعرف أنه أصبح بمرضه هذا في تعارض مع نص الدستور وروحه.
وهو ما حصل فعليا، فالرئيس أصبح الآن لا يحضر لمبنى الرئاسة إطلاقا، وحتى الوفود التي تزوره في شكل زيارات رؤساء الدول والمبعوثين، تتم في بيت الرئيس وليس في الرئاسة.
وهذا هو السر الذي جعل الرئيس بوتفليقة يغيّر 6 رؤساء حكومة وأكثر من 200 وزيرا وعشرات من المستشارين بالرئاسة، وفي كل هذه التغييرات ظل أخوه هو الثابت الوحيد غير القابل للتغيير، وفقا لتعليق أحد الكتاب الجزائريين، وذلك لأنه المستشار برتبة رئيس العهدة الثالثة ثم الرابعة التي نعيش نكساتها وكوارثها وعجزها اليوم.
(العصر)