وقعت قناة الجزيرة في سقطة مهنية، وخالف أحمد منصور، مقدم برنامج “بلا حدود” على قناة “الجزيرة” عندما أجرى مقابلة مثيرة للجدل مع طيار سوري أسير لدي جبهة النصرة قواعد وأخلاقيات العمل الصحفي.
وكان الطيار الأسير العقيد علي عبود، أسقطت طائرته العسكرية في 22 مارس الماضي، ونجا معه ملاح الطائرة، بينما قتل اثنان آخران من طاقمها.
ونوهت “الجزيرة”، على شاشتها قبل المقابلة المثيرة للجدل أنه تم إجراء المقابلة بموافقة كاملة من العقيد طيار علي عبود والجهة التي تحتجزه، وتابعت أنها لا يمكنها التحقق إذا ما تمت الموافقة دون شرط أو تحت الضغط، ولكن تؤكد أنه لم يكن هناك أي محاولة للتأثير أو التقييد أو الضغوط أثناء إجراء المقابلة.
وقال منصور، قبل بدء المقابلة مع العقيد طيار علي عبود أعلى رتبة عسكرية سورية تقع في أسر جبهة النصرة، إنه عندما علم بأن جبهة “النصرة”، تمكنت من أسر العقيد طيار علي عبود سعى بكل ما يستطيع إلى إقناع قيادة جبهة النصرة بأن يلتقي به ويتحدث معه ويحاوره.
وشرح أحمد منصور، ملابسات ومبررات إجراء مقابلة مع طيار أسير لا يملك حريته الكاملة، وقال: إنه “طلب من جبهة النصرة أن يتركوا الطيار على عبود معه وفريق التصوير الذي كان كله من طاقم الجزيرة وأن يخرجوا جميعا من الغرفة، فاستجابت جبهة النصرة لذلك”.
ولكن تعتبر العديد من المؤسسات الإعلامية حول العالم إجراء مقابلات مع أفراد قيد الأسر أو في السجون خرقًا لقواعد وأخلاقيات العمل الصحفي، حيث يخضع الأسير أو السجين لضغوط من الدول أو الجماعات التي تحتجزه.
وكتبت الصحافية ليال حداد في صحيفة (العربي الجديد) مقالا بعنوان (أحمد منصور “محققاً” عسكرياً… ماذا بقي من الصحافة؟)
هذا نصه
بنجاح منقطع النظير قام أحمد منصور بواجبه طيلة خمسين دقيقة. بنجاح منقطع النظير لعب أحمد منصور على شاشة “الجزيرة”، قبل قليل، دور المحقق العسكري لدى جبهة “النصرة”. بعد أسبوعين من عودته من “الاعتقال” الألماني، ها هو يدخل معتقلاً آخر، لكن هذه المرة لإجراء مقابلة مع “أعلى رتبة عسكرية لدى النظام السوري يتمّ أسرها من قبل جبهة “النصرة” العقيد الطيار علي عبود.
“من مكان ما في إحدى المناطق المحررة في شمال سورية” أطلّ علينا الإعلامي المصري بما وصفته قناة “الجزيرة” بـ”الانفراد” في برنامج “بلا حدود” (الأربعاء 22:05 بتوقيت مكة). البداية كانت بتحذير من أن “الجزيرة” أجرت هذه المقابلة بعد موافقة “جبهة النصرة” وموافقة الطيار، وأنها “لم تستطع التأكد إن كان عبود قد تعرض لضغط”. ثم أطل منصور مكرراً نفس الجملة، ومعلناً أنه “رفض إجراء المقابلة إلا بعد موافقة الطيار نفسه؛ لأنه لا يحب إجراء حوارات مع أشخاص لا يملكون حريتهم الكاملة”!
انتهت تبرئة النفس، ورفع المسؤولية، وبدأ التحقيق. تحقيق عسكري حرفياً، ومن دون مبالغة. الأهم كان مع انطلاق الحوار، هو التأكيد أن جبهة “النصرة” تعامل الأسير عبود، بطريقة “ممتازة”. بصوت يرتجف أكد الطيار أن “المعاملة جيدة، يا ماحلا معاملة الثوار”.
“من أين أنت؟ من طرطوس”، “ما هي رتبتك وكم سنة مضى على خدمتك؟”، “حدّد الأماكن التي كنت تضربها”، “من يحدّد المنطقة التي ستقصفونها؟ أي منطقة؟ أي قيادة؟ أعطني تفاصيل”، “كيف يديركم النظام؟”… بالصوت نفسه، يجيب الرجل، وعندما لا يعجب الجواب منصور لا يتردّد بتوبيخ الرجل. المحقق يأخذ دوره بجدية مفرطة.
ينتهي الاستجواب العسكري، ويأخذ الحديث المنحى الطائفي: “كلكم علويون؟ ماذا؟ هل تقول إن بينكم طيارين سنّة ويقصفون المناطق السنية؟”. ثمّ ومن دون أي خجل يأتي السؤال: “هناك قرى علوية لا تبعد إلا كيلومترات قليلة عن مكان وجودنا، القرداحة (قرية آل الأسد) نفسها لا تبعد سوى كيلومترات قليلة؟ ما الذي تتمناه قبل أن تحصل مجازر في هذه القرى؟”. يسأل السؤال بتلقائية تامة، من دون تردّد ومن دون محاولة التخفيف من وقعها الطائفي المزعج. ثم بادر بسؤال آخر: “هل ستقاتلون حتى آخر علوي؟”.
وبين سؤال عسكري وآخر طائفي، وجّه أحمد منصور عظة أخلاقية لعبود: “هل تسبّبت بدمار كبير؟ لقد تسبّبت بدمار كبير” مع هزّة رأس متأسّفة. أما في فقرة التحقيق الأخيرة فعاد أحمد منصور إلى الأسئلة الاستخباراتية: “ما أسماء أولادك؟ كم أعمارهم؟ ما هو اسم أخيك؟ أين يسكن؟ ماذا يعمل؟”.
المقابلة باختصار مهينة. مهينة للعمل الصحافي، مهينة للثورة السورية حتى لو كانت مع مجرم كان يقصف المدنيين السوريين. في المقابلة استعادة مباشرة، لما تفعله الأجهزة الأمنية مع المعتقلين لديها، لما لجأ إليه النظام السوري مع انطلاق الثورة: يومها كنا نشاهد على شاشة “الإخبارية السورية” أطفالاً ومراهقين “يعترفون” بسعيهم إلى “تنفيذ عمليات إرهابية بعدما أغرتهم جماعات متطرفة، وأعطتهم حبوباً للهلوسة أو المال”. فيها استعادة لما فعله الاحتلال الإسرائيلي في لبنان، وفلسطين مع بث شهادات “مخربين غرر بهم لمهاجمة جيش الدفاع الإسرائيلي”… لكن أن تلجأ قناة بحجم “الجزيرة”، أكبر إخبارية عربية، إلى الأسلوب نفسه، وأن تحقّق مع أسير بهذه الطريقة، ففي الأمر انحدار إلى مستوى الإخبارية السورية. وهي مقارنة تكفي وحدها لوصف حجم السقطة المهنية التي شاهدناها الليلة على الشاشة.