في الثامن والعشرين من يونيو أقامت عائلة اشتيوي اعتصامًا أمام منزل رئيس الوزراء السابق إسماعيل هنية، تطالبه فيه بالإعلان عن مصير ابنها محمود اشتيوي (أبي المجد)، المختفي منذ أشهر لدى عناصر أمنية مجهولة يرجَّح أنها تابعة لكتائب القسام، والاطلاع على طبيعة التهم الموجَّهة إليه، ومحاكمته محاكمة عادلة يحضرها محامٍ تعيِّنه العائلة، مع العلم أن “أبا المجد” هو قيادي قسامي كبير في منطقة الزيتون، عمل في المقاومة مدة 16 عامًا، وبيته كان من أوائل البيوت التي قصفتها إسرائيل في حرب 2014.
لم يستجب هنية ولا أيّ من القيادات السياسية أو العسكرية لمطالب العائلة، وفي الثالث من يوليو تم فض الاعتصام بالاستعانة بعناصر الشرطة، التي اعتقلت شقيقَيْ أبي المجد، فيما اعتدت عناصر الشرطة النسائية على نساء العائلة بالضرب، وخاصة الصحفية بثينة اشتيوي شقيقة أبي المجد، والتي صرحت عبر حسابها في فيس بوك بتعرضها للضرب المبرح بالهراوات أثناء محاولة اعتقالها، وانتقالها إلى مستشفى لمعالجة الرضوض فيما بعد.
إثر تصريحات الصحفية بثينة اشتيوي، وازدياد رقعة التغطية الإعلامية التي خصصت لهذا الحدث، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالحديث عن قضية اختفاء أبي المجد، واستخدام العنف ضد عائلته، بين مبرر للحدث، وآخر يرى أن للحكومة نظرة أخرى في القضية.
التزمت الحكومة الصمت التام حيال القضية؛ إذ نفى القياديان الحمساويان: محمد فرج الغول ويحيى موسى أي علم لهما بالقضية أو حيثياتها، ولم تصدر أية جهة رسمية بيانًا توضيحيًا بشأن ما حدث، تعلق فيه على قضية اختفاء أبي المجد.
مصادر مجهولة لروايات فتحاوية: اتهاماتٌ بالعمالة والاختلاس
منذ بداية الحديث عن اعتقال القيادي القسامي الذي تم بعد أسابيع قليلة من نهاية حرب 2014، التقطت المواقع الإلكترونية الإخبارية التابعة لحركة فتح الخبر كوجبة دسمة، يمكن من خلالها الطعن في شرف الجهاز العسكري الحمساوي في إطار الخصومات السياسية، وحملات التشوية التي يقودها كل طرف ضد الآخر.
في السابع من مارس 2015، نشر موقع الكرامة برس، ذو التوجهات الفتحاوية، تقريرًا عنوانه “قيادي في كتائب القسام: عميل إسرائيلي يقف وراء محاولة اغتيال محمد الضيف“، خلال التقرير الذي لا يعتمد على أية مصادر معلنة، يذكر أن أبا المجد اشتيوي “طيلة الفترة الماضية كان خارج دائرة الشبهات في أوساط حماس السياسية والعسكرية؛ كونه أخًا لشهيد، وتم قصف بيته في الحرب الأخيرة من قبل طائرات الاحتلال الإسرائيلي، مع التأكيد أن الكشف عن سقوطه في مستنقع العمالة جاء بمحض الصدفة؛ حيث تبيَّن قيامه ببيع عدة صواريخ من الموجودة بحوزته لسرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، كان قد أبلغ قيادة كتائب القسام بأنه قام بإطلاقها باتجاه المستوطنات الإسرائيلية خلال الحرب الأخيرة، وتم استدعاؤه من قبل جهاز الاستخبارات الخاص بكتائب القسام لمراجعته في هذه القضية؛ إلا أنه انهار في التحقيق، وقدم اعترافات وافية عن ارتباطه مع المخابرات الإسرائيلية، وكانت المفاجأة الكبرى الادلاء باعترافٍ خطير ساهم في تفكيك “لغز” محاولة اغتيال محمد الضيف“.
وبعد ذكر التفاصيل حول رواية اغتيال الضيف، يقرر أن هذه الكارثة “أصابت القسام في مقتل”، وهو ما تريده تمامًا مواقع فتح الإعلامية الطعن في الشرف العسكري لحماس، واعتبار جهازها العسكري مهلهلًا مخترقًا من الداخل.
في السابع من مايو، نشر الصحفي زاهر أبو حسنين منشورًا عبر فيس بوك يؤكد فيه حصوله على معلومات تؤكد أن القيادي القسامي أبا المجد متورط في عملية اختلاس مقدارها ستة ملايين دولار، وعلق بلغة لا تخلو من الشماتة واللمز: “وبدي حد مسؤول حمساوي يقدر ينفيها أو يثبت عكسها، قال صحيح إنه المجد اشتيوي مسؤول كتيبة الزيتون الغربية لكتائب الشهيد عز الدين القسام معتقل لدى أمن حماس بسبب تورطه بالخيانة وتسبب بمقتل مجموعة من الشهداء واختلاس أموال تقدر ب 6 ملايين دولار؟!”.
الغريب أن حماس التزمت الصمت، ولم تعلق على هذه الروايات نفيًا أو إيجابًا.
اعتقالات الأجهزة الأمنية: قضايا أمنية حساسة
بعد موجة الانتقاد الحادة لحكومة غزة إثر اعتدائها على عائلة اشتيوي، خاصة بعد اختراقها لحساب بثينة اشتيوي وإغلاقه؛ حيث اتهمت بالسلطوية المشابهة للأنظمة الديكتاتورية في الدول المجاورة خاصة مصر، مع اعتبار حادثة اختفاء أبي المجد حالة “اختفاء قسري” بسبب عدم إعلان التهم الموجهة إليه، وعدم منحه حقه في محاكمة علنية يدافع عنه خلالها محاميه الخاصة، كانت ثمة أصوات أخرى ترى الأمر من منظور مختلفٍ كليًا.
براء نزار ريان، المحسوب على حركة حماس، نشر مقالًا بعنوان “لماذا تعتقل المقاومة الفلسطينية أحد أفرادها؟“، يفتتح المقال بقصة عن شاب يستغل أسيرًا محررًا، ويسرق أمواله التي ادخرها له أهله أثناء سجنه، ويشير إلى أن القصة واقعية مع تغيير الأسماء، وفي القصة اتهامٌ واضح بالنصب، يمهد للسبب الأول الذي يدفع المقاومة لاعتقال أحد أبنائها: الاحتيال!
خلال المقال يبرر ريان الاعتقال، ومن هذه المبررات أن العاملين في الجهاز العسكري ليسوا مدنيين، وأي قضايا تتعلق بهم فهي قضايا ذات أبعاد أمنية لا يجوز فضحها والتشهير بها؛ لأن فضحها لن يكون في صالح أحد: لا الجهاز العسكري، ولا العائلة، ولا الشخص نفسه.
أما عن عدم وجود محاكمة قضائية، فهو يؤكد أن كل فصيل مقاوم لديه جهازه الأمني التابع له المسؤول عن اكتشاف الثغرات الأمنية، بما في ذلك العملاء المزدوجون، يقول: “هذه الأجهزة لا تتعرّض للقضايا الجنائية الاعتياديّة المرتكبة من عامّة الشعب؛ إذ هي اختصاصُ الأجهزة الأمنية الحكوميّة، ولا تحقق، أيضًا، في جرائم أفرادها العاديّة، فهو اختصاصُ الحكومة أيضًا، إلا ما كان له صلةٌ بأمن المقاومة، أو أثار على صاحبه شبهة أمنيّة، حيثُ يُحظر على الأجهزة الحكوميّة أن تحقق مع الشخص، أو تسأله عن أسرار جهازه العسكريّ، أو تعتقله من الأصل من دون تنسيق مع الفصيل المقاوم الذي ينتمي إليه!“.
وإذا اعتبرنا ريان صوتًا حمساويًا مطَّلعًا على تفاصيل البنية الهيكلية لحركة حماس وجهازها العسكري، فسيكون هو الرد الأوحد على الحدث، وبغير قليل من التلميح بالاتهام، يقول ريان في ختام مقالته: “ومما يجدرُ التنبيه إليه -وهو من البدهيات- أنه ليس كلّ من تحقق معه المقاومة من أبنائها، ساقطًا في وحل العمالة، لكن ما أعرفُه أنّ البريء منهم لا يستغرقُ ملفّه أيامًا، وأنّ كل من طالت عليه مُدّة الحبس لديها، فإن احتمال براءته يكونُ معدومًا، لكنّ نوع جُرمه ومستوى تورّطه لا يعلمُه إلا هيئة التحقيق معه، والجهة الرقابيّة الحكوميّة، والسرّية والكتمان هما ما يحافظان عليه وعلى سمعته وليس على أمن المقاومة فقط!“.
هكذا تكون خصوصية الوضع الأمني الفلسطيني، وهاجس الاحتلال الاستخباراتي مبررًا للحكومة لاختطاف الأشخاص المشبوهين دون إقامة أية محاكمات علنية!
حماس متهمة
في 27 مايو، أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرًا يؤكد أن حركة المقاومة الإسلامية “حماس” ارتكبت جرائم حرب بحق مدنيين فلسطينيين تتهمهم بالتعاون مع إسرائيل خلال حرب 2014، وقد صرح فيليب لوثر مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمنظمة العفو الدولية أن ما حصل “أمر مروع لأقصى حد، فبينما كانت إسرائيل تنزل الموت والدمار بشعب غزة على نطاق هائل، انتهزت قوات حماس الفرصة لتسوية الحسابات بلا رحمة منفذة سلسلة من عمليات القتل غير المشروع وغيرها من الانتهاكات الجسيمة“.
وربما كانت من أبرز الشبهات حول عمليات التصفية هذه، ما أثير من جدل حول مقتل القيادي في حماس “أيمن طه”؛ فقد أكدت بعض الروايات أن طه كان مختطفًا في سجون حماس بتهمة الفساد، وبعد قصف إسرائيل للسجن في السابع من أغسطس، نقل إلى المستشفى بإصابة متوسطة، تم بعدها اختطافه مرة ثانية من المستشفى وتصفيته من قبل عناصر أمن حمساوية، ومن ثم الإعلان عن استشهاده، كانت هذه إحدى الروايات المتعددة عن مقتل أيمن طه.
لم يقتصر الأمر على القيادات، فقد أعلنت حماس في 22 من أغسطس خلال حرب 2014 عن تنفيذها لقرار محكمة ثورية بإعدام ستة من العملاء إعدامًا ميدانيًا في الشوارع، بدون أية محاكماتٍ قانونية.
وعليه؛ فإن مثل هذه العمليات من الاعتقال ستظل حاضرة طالما وُجد الهاجس الأمني الذي ستبرر به الحكومة اعتقالاتها، وسيظل الجهاز الأمني التابع للأجنحة العسكرية للمقاومة صاحب اليد الطولى في هذا الأمر، بحيث لا تستطيع حتى الأجهزة الأمنية الرسمية التدخل في عمله، وهو ما سيجعل احتمال إلحاق الظلم ببعض الأفراد ممكنًا وحاضرًا، طالما بقيت الملفات مقروءة في العتمة.
وربما ستعيد قضية أبي المجد اشتيوي هذه القضية إلى السطح، فكل ما طلبته العائلة محاكمة عادلة، وتصريح بالتهم، وإدخال محامٍ إلى القضية، وربما ينمِّي الرفض والتجاهل الرسمي لهذه المطالب المخاوفَ من تطور مثل هذه الحوادث التي تعد قليلة حتى اللحظة، لكنها قد تتطور إلى استطالة يد الأجهزة الأمنية في محاكماتٍ مغلقة فوق القانون، تُحَوِّل خصوصية الأجواء الأمنية في قطاع غزة إلى مدخل نحو السلطوية الديكتاتورية.
محمد الميرغني – التقرير