كتب كبير الباحثين في “معهد دول الخليج العربي”، الصديق حسين ايبش، أن “سياسة قطر الخارجية الحذرة قد تكون مؤشرا على أنها قررت أن التنسيق مع جيرانها الخليجيين سيعود عليها بنتائج أفضل من أن تحاول أن تتصرف كقوة عظمى صغيرة”.
وفي مقالته التي نشرها في صحيفة “نيويورك تايمز”، يوحي “ايبش” وكأن قطر تراجعت وتغيرت، ويعزز مصداقيته أنه يكتب مقالته من الدوحة، فضلا عن ارتباط اسمه بمركز أبحاث يوحي وكأنه منبثق عن “مجلس التعاون الخليجي”، لكن ما خفي في مقالة ايبش أعظم مما ظهر.
أولا، من غير المفهوم كيف غيرت قطر سياستها الخارجية، فهي منذ اندلاع حرب العراق عانت من حكامه الجدد، فكان “مجلس الحكم” الذي عينته واشنطن أول من حظر عمل فضائية الجزيرة في العراق وأغلق مكاتبها. وكما في العراق، حيث وقفت في صف المعارضة العراقية، كذلك في سوريا، كانت قطر من أوائل الدول التي أيقنت أن الحلول مع الرئيس بشار الأسد غير ممكنة، وسارت في دعم معارضيه. أما في مصر وليبيا، فما زالت الدوحة تنحاز إلى جانب الثوار منذ أيام الربيع العربي في العام 2011.
ثانيا، من غير المفهوم تهكم “ايبش” واتهامه الدوحة بمحاولة التصرف كقوة عظمى. ولكن متى انكشف السبب بطل العجب، فـ”معهد دول الخليج العربي” الفاخر، الذي تم افتتاحه مؤخرا في واشنطن، يعمل بتمويل كامل من الإمارات العربية المتحدة.
وعلى عكس ادعاءات ايبش أن قطر هي التي تحاول التصرف كقوة عظمى، تشير بيانات الإنفاق على شراء النفوذ داخل واشنطن، أي العملية المعروفة بـ”اللوبي”، إلى أن الإمارات العربية المتحدة تصدرت الإنفاق العالمي بصرفها 14 مليون دولار في العام 2014، متفوقة على دول عظمى ذات علاقات تجارية ضخمة مع أميركا مثل ألمانيا وكندا.
ومن يطالع بيانات اللوبي الإماراتي في واشنطن، وهي بيانات واجب عرضها علنا حسب القانون، يرى بأن اللوبي الإماراتي يكاد أن يبتاع لنفسه تأييدا مع كل مؤثر بالسياسة الخارجية الأميركية.
هكذا، شن السيد مارك لينش المحرر في مجلة “فورين بوليسي” العام الماضي هجوما ضد قطر والكويت بتهمة التراخي مع ممولين يرسلون أموالا إلى “تنظيمات إسلامية متطرفة” في سوريا. وألّفت دراسة لهذا الغرض اليزابيث ديكنسون، التي سبق أن عملت في صحيفة “ذي ناشونال” التي تملكها حكومة ابوظبي، والتي ينشر فيها ايبش مقالا أسبوعيا.
وخلصت “ديكنسون” إلى أن ممولين خليجيين في قطر والكويت يرسلون أموالا إلى تنظيمات إسلامية “تقاتل إلى جانب تنظيمات إرهابية”. طبعا الشيطان في التفاصيل، فالدراسة لم تثبت تمويلاً خليجياً للتنظيمات الإرهابية نفسها، ولكنها ولدت انطباعا تلقفه آخرون من أصدقاء الإمارات في واشنطن، من أمثال صديق إسرائيل جوش روغان، الذي اتهم في مقالة الحكومة الكويتية نفسها بالتورط في تمويل إرهابيين في سوريا.
وشارك في الحملة العديد م أصدقاء الإمارات ممن سبق أن عملوا في وزارة المالية في عهد الرئيس السابق جورج بوش، ومن دبلوماسيين أميركيين سابقين في الإمارات، وهؤلاء استخدموا علاقاتهم بمساعد الوزير دايفيد كوهين، الذي يعمل اليوم نائبا لمدير “وكالة الاستخبارات المركزية” (سي آي اي)، فقام الأخير بتسريب ادعاءات إلى ديكنسون، ما لبث أن قالها حرفيا في خطاب علني له.
ومن أصدقاء إسرائيل الآخرين، ممن تظهر بيانات اللوبي اتصال الإمارات بهم، جوديث ميلر، وهذه الأخيرة هي بطلة قصة أسلحة الدمار الشامل العراقية عندما كانت تعمل في “نيويورك تايمز”.
وبعد فضيحة عدم العثور على هذه الأسلحة، طُردت الصحيفة “جودي”، التي صارت تعمل مع شبكة “فوكس” اليمينية. ومن يراقب مواقف جودي منذ ربيع العام 2011 سيلاحظ انقلابا حادا في موقفها من الثورة المصرية، التي أيدتها بشدة، قبل أن تنقلب عليها وتتحول إلى الداعمة الأولى للانقلاب، ما دفع القاهرة إلى منحها مقابلة مع الرئيس عبدالفتاح السيسي بثتها “فوكس”.
من هي الدولة التي تلتزم أكثر الإجماع الخليجي: قطر أم الإمارات؟ لنأخذ سوريا مثلا، حيث تتطابق مواقف قطر مع السعودية و”مجلس التعاون”. أما الإمارات، أو من يعمل في خدمتها مثل السفير الأميركي السابق في مصر ورئيس “معهد الدول الخليج العربي” فرانك ويزنر، الذي كتب علنا ومرارا مقالات، جاء فيها أن الحل الوحيد في سوريا يتمثل في إعادة تأهيل الأسد ودعمه للقضاء على الإرهاب.
وحث ويزنر زميله السابق السفير السابق ريان كروكر، مهندس الانفتاح الأميركي على إيران في أفغانستان والعراق في زمن بوش، على اتخاذ موقف مؤيد للأسد، وهو ما فعله كروكر مرارا وعلنا في كبرى الصحف الأميركية.
ولنأخذ مثلا آخر: إيران، التي تحتل جزرا إماراتية. مع أن الموقف الإماراتي الظاهر يشي بالتزام الإمارات بالجبهة العربية ضد تدخل إيران ونفوذها المتعاظم في العالم العربي، إلا أن تقارير أميركية متعددة أشارت في الماضي إلى قيام طهران باستخدام الإمارات كمصرف بديل لها في ظل العقوبات الدولية المفروضة على النظام الإيراني.
كذلك سبق أن أشارت تقارير أميركية إلى قيام إيران بشراء لوازم برنامجها النووي عن طريق شركات وهمية مركزها الإمارات. ولزيادة تأكيد الصداقة الإماراتية – الإيرانية، تشير نظرة إلى مجلس “معهد دول الخليج العربي” إلى عضوية السفير الأميركي السابق توماس بكيرنغ، وهو من أكبر رعاة اللوبي الإيراني في واشنطن والداعين إلى رفع كامل وغير مشروط للعقوبات عن إيران وإلى تحالف أميركي معها.
قد يشي صوت فضائية الجزيرة الواسعة الانتشار أن الدوحة تسعى إلى زعامة إقليمية أو عالمية ما، ولكن اللوبي الإماراتي في واشنطن، ودبلوماسية الامارات، ومعهدها وكتّابها في “نيويورك تايمز” وغيرها، وصداقة هؤلاء المتينة مع المدافعين عن الأسد وإيران، كلها تشير إلى عكس ما كتبه ايبش تماما في مقالته.
ربما كان الأجدى للزميل ايبش أن يدبّج مقال بعنوان “الإمارات مستمرة بمسارها” بدلا من مقالته التي حملت عنوان “قطر تغير مسارها”. وربما كان الأصدق لو أنه أرسل مقالته من ابوظبي بدلا من كتابتها في الدوحة.
من واشنطن / حسين. ع