نشرت صحيفة ” لوموند” الفرنسية تقريرا لمراسلها ” ألان كافال” حول عاصمة تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) وكتب المراسل الصحفي.. ” إنها بلدة كبيرة ضائعة على أبواب الصحراء العراقية، في السهل الممتد بين دجلة والفرات، على جانبي الحدود الوهمية التي كانت تفصل بين دولتي سوريا والعراق الفاشلتين قبل نشأة “الدولة الإسلامية”.
إن “تلعفر” المجهولة، التي سقطت في أيدي مقاتلي تنظيم الدولة في 16 يونيو 2014 تظل مغيبة في ظلَ “الموصل” التي أعلنها أبو بكر البغدادي “عاصمة” لدولته، وهذا مع أن عدداً من أبرز قادة “داعش” هم من أبناء هذه البلدة المتميزة في تركيبتها: فهي عبارة عن جيب تركماني (سكانها 220 ألف نسمة كلهم تركما تقريبا) في منطقة تقطنها أغلبية عربية.
وتظل تركيبة الهيئات القيادية في “دولة الخلافة” مجهولة إلى حد كبير، ولكن بعض المعلومات التي سمحت واشنطن بنشرها تبرز الدور الذي يلعبه ضباط عراقيون سابقون كبار في قيادة “الدولة الإسلامية”.
أحد هؤلاء هو “فضل أحمد عبدالله الهيالي”، الذي أُعلِنت وفاته في أواخر 2014، وهو ضابط سابق في الاستخبارات العسكرية العراقية، ثم في القوات الخاصة لـ”الحرس الجمهوري” في عهد صدام حسين، وكان معروفاً عند انضمامه إلى التمرد السني باسم “أبو مسلم التركماني”.
كان “الهيالي” مكلفاً بالإشراف على إدارة المناطق العراقية الخاضعة لـ”الدولة الإسلامية”، وقد تقاسمَ مع تلعفاري آخر، يُعرَف باسم “أبو علي الأنباري”، وهو ضابط سابق في الجيش العراقي، منصب “الرقم 2” في تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وعلاوة على هذين الضابطين السابقين، هنالك “أبو علاء العفري”، وهو من قدامى الجهاد الدولي، وهو تركماني من “تلعفر” بات مسؤولاً عن قيادة “الدولة الإسلامية” بعد إصابة “أبو بكر البغدادي” بجروح في شهر مارس 2015 حسب معلومات جريدة “الغارديان” البريطانية.
وخلف الثلاثة هنالك عدد كبير من الضباط السابقين ومن المقاتلين من أبناء “تلَعفر” الذين نشرتهم “الدولة الإسلامية” على كل الجبهات.
ويقول “هشام الهاشمي”، وهو محلل عراقي متخصص في شؤون “داعش” إن “أبناء تلَعفر وصلوا إلى مراكز قيادية كل بطريقته الخاصة، ولكنها عدداً منهم بات عضواً في أعلى حلقة قيادية في داعش. وقد امتازوا عن غيرهم بولائهم الكامل للبغدادي وبإخلاصهم المطلق لرئيسهم”.
ويذكر هذا الولاء الكامل بولائهم السابق لصدام حسين قبل الغزو الأميركي في العام 2003. ويقول جنرال سابق في الجيش العراقي من أبناء “تلَعفر” -وهو لاجئ في بغداد حاليا- إن “أهالي تلعَفَر السنة كانوا مشهورين كمصدر لتجنيد قيادات عليا في الجيش العراقي في عهد صدام”.
وبعد العام 1991 وهزيمة العراق في الكويت، قام النظام بانعطافة إيديولوجية نحو الإسلامية ما تزال آثارها ظاهرة حتى الآن.
ويذكر أحد وجهاء “تلعَفَر” وهو الآن لاجئ في “أربيل” بكردستان العراق أنه “كان لـ”حَملة الإيمان” وَقع خاص في “تلعفر”، وبدأ السلفيون يلعبون دوراً أكبر في هذه الحقبة واستفادوا من قاعدة صلبة من المناصرين في البلدة. ويضيف أحد سكان البلدة الشيعة أن “أبو علاء العفري كان أحد الشيوخ المعروفين على نطاقٍ واسع في تلك الفترة”.
ويعلق موظفي حكومي أصله من “تلعَفَر” أن “الأرضية في البلدة كانت ملائمة لنشوء انتفاضة إسلامية لحظة سقوط نظام صدام حسين”، وجاء قرار حل الجيش العراقي الذي اتخذته سلطات الاحتلال الأميركي ليفجر هذه المقاومة، سواءً في “تلعَفَر” أو في المناطق السنية في العراق عموماً.
ويقول الجنرال السابق من “تلعَفَر”: وجد عشرات الألوف من العسكريين السابقين أنفسهم عاطلين عن العمل ومن دون رواتب، ولكنهم جميعاً احتفظوا بأسلحتهم. وفي “تلعَفَر”، حيث كانت للجيش مكانة خاصة، سرعان ما انتظمت نواة من الضباط السابقين وانخرطت في مقاومة الاحتلال. ولم يمضِ وقت طويل حتى تغلغلت “القاعدة في العراق” في تلك النواة، وهؤلاء أنفسهم هم الذين اكتسبوا أهمية في “داعش” والذين نسمع بأسمائهم الآن”.
ويضيف أن النزاع سرعان ما اتخذ طابعاً طائفياً: “في البداية، كانوا يقاتلون ضد الأميركيين، ولكن، بعد أصبح الجيش العراقي الجديد خاضعاً لقيادة شيعية، فقد بدأ السنة بمهاجمة شيعة “تلعَفَر” الذين كانوا يتمتعون بدعم الحكومة المركزية”.
ويقول أحد سكان “تلعفر” السابقين من الشيعة أن “الطوائف انقسمت في ظل الاحتلال”، ويضيف: “لم يكن يمضي أسبوع دون حدوث اعتقالات في أحياء السنة وتفجيرات في أحياء الشيعة”.
ونتيجة لأعمال العنف، وهرباً من الانتشار المتزايد للقوات الأميركية في البلدة، فقد فر قسم من الأهالي السنة إلى الموصل. ويقول الجنرال السابق إن “الموصل أكبر بكثير من “تلعَفَر”، مما يسمح للمقاومين بالاختفاء بين أهاليها والإفلات من مداهمات الجيش الحكومي”.
كانت “القاعدة في العراق” تملك كل المصلحة في الرهان على “تلعَفَر”، فموقعها القريب من الحدود السورية جعل منها محطة إجبارية على الطريق نحو العراق التي كان يسلكها المقاتلون الأجانب الراغبون في الانضمام لـ”القاعدة”، وذلك بتواطؤ ضمني من نظام دمشق.
ويقول الموظف الحكومي السابق إن “أجهزة الاستخبارات السورية كانت موجودة بكثافة في “تلعَفَر” أثناء الاحتلال الأميركي، وكانت تسمح للمتطوعين في “القاعدة” بالتدرب في الجانب السوري من الحدود، كما كانت تسهل وصول المقاتلين والأسلحة إلى الجانب العراقي”.
وحسب الوجيه السابق الذي لا يزال على صلة مع أقاربه الباقين في البلدة، فإن “تلعَفَر” ما زالت تلعب وظيفة استقبال المقاتلين الأجانب: “إنهم ينتشرون في كل مكان. وهم من جميع الجنسيات، وحيث إن كل شيعة “تلعَفَر” قد رحلوا عنها، فهنالك منازل كثيرة لاستقبالهم”.
ويضيف المحلل العراقي “هشام الهاشمي” أن “تلعَفَر” هي مركز “لوجستي”، كما إنها قاعدة خلفية محتملة: “لقد جهزت “داعش” الكثير من العمليات الانتحارية في “تلعَفَر”، وهي تملك العديد من معسكرات التدريب فيها، وخصوصاً معسكرات تدريب الأجانب. وكثير من الأهالي هناك يؤيدون تنظيم الدولة، وإذا ما شعر أنه مهدد فمن المحتمل أن يتحصن فيها”.