لا يحتاج الأمر لعناء كبير لتفسير توقيت بث وثائق «ويكيلكيس» السعودية الآن برغم من أن «الجيش الإلكتروني اليمني» الذي سطا عليها بمساعدة من فريق عمل إلكتروني إيراني في مايو/أيار الماضي، لو تتبعنا أبرز ما نشرته الوثائق حتى الآن وما حجبته.
فالوثائق التي تم بثها تعمدت فضح سياسة المملكة في شراء ذمم صحافيين وفضائيات للسيطرة علي وسائل الإعلام وتدجينها، ونشرها –مع ويكليكس– صحيفة «الأخبار» اللبنانية الموالية لـ«حزب الله»، كما تطرقت إلي الدور السعودي في مصر وكيف امتدحت «الإخوان» والرئيس السابق «مرسي» (في الوثائق) ثم انقلبت عليهم ودعمت انقلاب الجيش في يوليو/تموز 2013.
أيضا الوثائق ركزت على البذخ السعودي في الخارج والذي وصل لدعم سياسيين وتطويعها ونفقات أمراء وأميرات وصلت لحد الفضائح لعدم دفع بعضهم الفواتير كما حدث مع أميرة في سويسرا، وركزت علي الوضع في اليمن ودور الرئيس المخلوع «صالح» –الذي كانت تدعمه السعودية في البداية– في إعطاء الدور الأخضر لتنظيم «القاعدة» لاحتلال أجزاء من جنوب اليمن (زنجبار).
وبالمقابل لم تتطرق الوثائق لأي شيء يخص العلاقات السعودية الأمريكية، ولم تنشر وثيقة واحدة تشرح العلاقات الغامضة بين الطرفين، باستثناء وثيقة تعود لعام 2012 حذرت من أن إيران حصلت على «رسائل مغازلة أمريكية» تشير إلى أن الولايات المتحدة ليست لديها أية اعتراضات على برنامج نووي سلمي لطهران، طالما حصلت على ضمانات ربما من روسيا.
كما أنها لم تتطرق أيضا لإيران واكتفت معظم الوثائق علي التركيز علي تتبع الأنشطة الإيرانية بمختلف أرجاء المنطقة أو تقويض مصالح طهران، حيث تضمنت برقية غير مؤرخة يبدو أنها أرسلت من سفارة السعودية لدى طهران، ملاحظة عما تقول إنه «إحباط المواطن الإيراني ورغبته القوية في تغيير النظام».
واقترحت وسائل لعرض المظالم الاجتماعية في إيران من خلال وسائل التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«تويتر»، كما اقترحت «استضافة شخصيات معارضة إيرانية في الخارج والتنسيق معهم وتشجيعهم على استخدام صالات العرض لإظهار صور التعذيب التي يقوم بها النظام الإيراني ضد الشعب».
لهذا يري مراقبون ومحللون أن صاحب المصلحة من تسريب الوثائق الآن وفي هذا التوقيت من تزعجه السياسة الخارجية للسعودية والصعوبات التي تهدد بخساراتها مجالات نفوذها لصالح إيران، هو «لوبي أمريكي إيراني» له مصلحة مشتركة في توجيه ضربة قوية للسعوديين وتشويه القيادة الحالية برغم أن أغلب الوثائق تعود لأعوام سابقة خلال قيادة الملك الراحل «عبدالله».
أمريكا تؤدب السعودية
وقد عبر عن هذا مراقبون وخبراء ونشطاء بقولهم علي مواقع التواصل أن: «أمريكا بدأت بتأديب السعودية بنشر وثائق ويكيليكس بعد زيارة محمد بن سلمان لروسيا والاتفاق المبدئ معها»، وأنهم (السعوديين): «أرادوا إزاحة إيران بالاتفاق مع روسيا فخسروا أميركا وروسيا وانتصرت إيران».
إذ أن بث تلك الوثائق تزامن مع اتجاه السعودية لحلفاء جدد بعيدا عن إدارة «أوباما»، عن طريق تقارب سعودي فرنسي، وآخر سعودي روسي، والحديث عن 6 اتفاقات عسكرية.
وقالوا إن «ويكيليكس» هو «حرب أميركية -إيرانية في الظل»، وأن الوثائق ضد المملكة العربية السعودية، والتي تجاوزت الـ60 ألف برقية، تعد واحدة من أهم أوراق الضغط التي اتجهت إليها الإدارة الأمريكية ضد المملكة، بعد اتجاه الأخيرة للخروج من تحت عباءة واشنطن، والتي استمرت لسنوات طويلة، بحسب مراقبون.
وكان ولي عهد السعودية ووزير دفاعها، «محمد بن سلمان» زار روسيا منذ يومين، ووقع في بطرسبورج، اتفاقا حول التعاون في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، كما وقع على 6 اتفاقات عسكرية بين البلدين.
فبحسب خبراء ونشطاء مصريون يبدو أن الهدف من بث الوثائق في هذا التوقيت أمران: (الأول) أنه عقاب أمريكي للمملكة على تهميشها للإدارة الأمريكية في قراراتها سواء في اليمن أو فيما يخص دعم المعارضة السوري، و(الثاني) هو عقاب المملكة على زيارتها لروسيا وإبرامها اتفاقيات عسكرية معها على الطريقة المصرية التي أغضبت واشنطن أيضا.
أما الهدف الأمريكي الإيراني الأوضح والأبرز فهو إضعاف النفوذ السعودي في العالم العربي والمنطقة لصالح واشنطن وطهران، عبر كشف أساليب السعودية التقليدية في شراء النفوذ، وتحجيم السياسة الخارجية للسعودية.
فالسعودية اشتبكت مع الولايات المتحدة الأمريكية في أكثر من قضية خارجية أبرزها هجومها على الولايات المتحدة الأمريكية، بعدما تقاربت الأخيرة مع إيران بشأن الملف النووي، ثم عندما توجهت بمفردها لحرب اليمن دون استشارة واشنطن، وقيل أن البيت الأبيض كان يرتب ويدرك أن اليمن سيكون مستنقع للسعودية لاستنزاف أموال صناديقها السيادية في شراء أسلحة أمريكية ولهذا لم يتدخل إلا مؤخرا لبحث خطط تهدئة ومنع الحرب البرية بالتعاون مع شركاء مثل الإمارات ومصر.
أيضا أغضبت دعوة السعودية لرئيس الوزراء الفرنسي «فرانسوا أولاند»، لزيارة المملكة وتنسيق اتفاقات مع فرنسا، أمريكا بسبب الصراع «الأنجلو سكسوني» الشهير بين الطرفين الغربيين، وعدم رغبة واشنطن عن التناول عن منطقة حيوية كالخليج.
أيضا نشر وثائق عن السعودية و«إسرائيل»، وزيارات طلاب سعوديين لسفارة «إسرائيل» في أمريكا، ومن قبل كشف لقاء خبير سياسي مقرب من القصر الملكي مع مساعد نتنياهو في ندوة لمركز العلاقات الخارجية، استهدف توقيت نشرها زيادة أوراق الضغط على الملك «سلمان».
وقال الدكتور «سعيد اللاوندي» الخبير في العلاقات الدولية، في تصريحات صحافية إن تسريبات «ويكيليكس» عقاب أمريكي للسعودية، بعدما تخلت الأخيرة عنها واتجهت نحو موسكو، مضيفا «أن زيارة محمد بن سلمان لروسيا بداية ابتعاد المملكة عن القرار الأمريكي».
وقال إن أمريكا تشعر وكأنها تقتص من الإدارة السعودية بتسريبات «ويكيليكس، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تثبت بالتجربة أنهه تظهر «العين الحمراء” كما يحدث الآن مع السعودية، ولكنه استبعد تصعيد الأجواء بين الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية أكثر مما عليه الآن، فالعلاقة بين البلدين ستتجه نحو التوازن في العلاقات.
ويقول خبراء آخرون إن الوثائق لن تضر الإدارة السعودية الحالية للملك «سلمان»، لأنها تدور حول حقبة زمنية سابقة كان «التويجري» وفريقه يديرون فيها القصر الملكي وهناك حالة غضب سعودي مما شهدته هذه المرحلة، ولهذا اعتبرها مغردون سعيون منهم الكاتب «جمال خاشقجي» مفيدة للمملكة وليست ضارة، حيث قال: «إن وثائق منظمة ويكيليكس تؤكد أن السياسية الخارجية للسعودية تخدم الوطن وتسير في الاتجاه الصحيح”، أي أن الوثائق أظهرت الخلل السابق الذي يصححه الملك الحالي».
حيث قال في تغريدة عبر حسابه على موقع التدوين المصغر «تويتر»: «تسريبات الخارجية محرجة محليا وخارجيا، ولكن جملتها تؤكد أن السياسة الخارجية السعودية تمضي في اتجاه صحيح متسق يخدم الوطن».
الوثائق صحيحة
وتقول وكالة «أسوشيتد برس» إنها فحصت العديد من هذه الوثائق وهي نتاج عمل إداري روتيني، وهي وثائق مرسلة عبر الإيميل أو الفاكس، وإن المتحدث باسم «ويكيليكس»، «كريستن هرافنسن» يقول إنه واثق من صحة هذه الوثائق، على الرغم من أن الوكالة لم تتمكن من التحقق من ذلك من مصدر مستقل.
ونشر موقع «ويكيليكس» أكثر من ستين ألف برقية دبلوماسية مسربة من السعودية، لافتا إلى أنه سينشر نصف مليون برقية أخرى خلال الأسابيع المقبلة.
ومن أكثر البرقيات المثيرة تلك التي تزعم أن دول الخليج مستعدة لدفع 10 مليارات دولار أمريكي للإفراج عن الرئيس المصري المخلوع «حسني مبارك»، حيث نقلت هذه البرقية التي تحمل عبارة «سري للغاية» عن مسؤول مصري لم تذكر اسمه قوله إن جماعة «الإخوان المسلمين» وافقت على إطلاق سراح «مبارك» مقابل الحصول على الأموال «لأن الشعب المصري لن يستفيد من سجنه».
وبالرغم من أن الوثائق غير مؤرخة، يظهر الوضع السياسي الذي تصفه أنها تعود لعام 2012، حين كانت جماعة «الإخوان المسلمين» لا تزال في الطريق إلى تولي السلطة وليست مسيطرة علي السياسة الخارجية أو الداخلية.
ولكن ليس من الواضح أن فكرة دفع أموال لـ«الإخوان المسلمين» لضمان الإفراج عن «مبارك» قد تحولت إلى عرض جدي، وثمة ملحوظة مكتوبة بخط اليد أعلى يسار البرقية تفيد بأن الفدية «ليست فكرة طيبة»، بحسب تقرير لوكالة «أسوشييتد برس».
وكتب مرسل البرقية المجهول قائلا: «حتى لو دفعت الفدية لن يمكن للإخوان عمل شيء للإفراج عن مبارك، ويبدو أنه ليس هناك خيار إلا أن يدخل مبارك السجن».
ولهذا تقول «أسوشييتد برس»: «وعلي عكس من تروجه وسائل الإعلام المصرية من أن هذا دليل علي دليل علي قبول الإخوان إطلاق سراح مبارك، إن وجود مثل هذه البرقية يضيف مصداقية إلى مزاعم القيادي البارز في جماعة الإخوان المسلمين خيرت الشاطر عام 2012 بأن السعودية عرضت مليارات الدولارات مقابل حرية «مبارك، الأمر الذي نفاه مسؤولون سعوديون بشدة حينئذ».
بذخ سعودي
وركزت الوثائق الدبلوماسية التي نشرها موقع «ويكيليكس» الإلكتروني على مواقف السعوديين بالخارج، ولاسيما وسائل الترف، وسعي لتقديم لمحة عن عادات الإنفاق التي تتسم بالبذخ لكبار أفراد الأسرة المالكة والمكائد السياسية في الشرق الأوسط.
ومن بين تل من الوثائق الإدارية، فاتورة غير مدفوعة تعود لعام 2009 وتخص استئجار سيارة فاخرة من قبل الأميرة «مها آل إبراهيم»، التي تصفها وسائل إعلام سعودية بأنها زوجة الأمير «عبدالرحمن بن عبدالعزيز آل سعود».
وورد في الفاتورة، الصادرة عن شركة «غولدن ليموزين سيرفيس» ومقرها في جنيف، والموجهة إلى البعثة الدبلوماسية السعودية هناك، أن الأميرة غادرت المدينة فجأة دون سداد أول دفعة من مبلغ 1.5 مليون فرانك سويسري كانت تدين به للشركة والفندق الذي أقامت فيه.
وعندما تم إبلاغ الأميرة بالفاتورة، «أعلنت أن المبلغ كبير للغاية» وطالبت دبلوماسيين بإجراء مفاوضات حول السداد.
وفي اتصال لوكالة «أسوشييتد برس» مع «لويز روليت»، مدير شركة «جولدن ليموزين سيرفيس»، أمس السبت، أكد صحة الوثيقة وقال إنه يتذكر الحادث جيدا، وأضاف أن إجمالي مبلغ الفاتورة كان يزيد على 1.5 مليون فرانك سويسري، وأنه لم يتم سداده كاملا في نهاية المطاف، وقال إن مثل هذه الأنواع من النزاعات معتادة في التعامل مع العملاء العرب.