تعتبر مسألة إيران وما يرتبط بها من سياقات حول إمكانية التوصل إلى اتفاق نووي معها فضلاً عن دورها المقلق في المنطقة من أهم الأمور في الشرق الأوسط. بيد، إنها ليست المسألة الوحيدة، فالمنطقة برمتها تتخبط في أزمات ومخاطر تهدد استقرارها ناهيك عن الاضطرابات الشعبية والبلبلة الإيديولوجية والدينية، وذلك على نحو لم تشهده تلك المنطقة منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية. إن جميع هذه التطورات مترابطة، وإن كان كلٌّ منها – بشكل منفصل، وحتى بصورة أكبر إذا تم جمعها سوية – يشكل تهديداً للمصالح القومية الأساسية للولايات المتحدة التي حددها الرئيس أوباما في أيلول/سبتمبر 2013 وهي: دعم حلفاء الولايات المتحدة وشركائها، وحماية التدفق الحر للنفط والغاز إلى الاقتصاد العالمي، ومكافحة الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل. وتعتبر المبادرة التي اتخذها الكونغرس الأمريكي بإقرار “قانون مراجعة الاتفاق النووي” مع إيران خطوةً هامة في إطار التعامل مع هذه التهديدات، إذ أنها تضمن للشعب الأمريكي حقه بقول كلمته في التطورات التي تؤثر على أمنه.
وبما أن الولايات المتحدة لا تعرف في هذه المرحلة ما سيكون عليه الاتفاق النووي المحتمل بين دول «مجموعة الخمسة زائد واحد» وإيران، فليس من الممكن إصدار حكم مفصل على الحزمة النهائية التي سيتم التوصل إليها. وإذا بلغت واشنطن تلك المرحلة، سيتوجب تقييم الاتفاق وفقاً لما سيتضمنه من تفاصيل حول القضايا المختلفة كالتحقق، والتخلص من اليورانيوم المخصب غير المرخص به، وحالة العقوبات، وذلك حرصاً على إخضاع المطامع الإيرانية لتطوير السلاح النووي وبرامج طهران السرية المحتملة لعمليات فحص وتدقيق طويلة الأجل. وعلاوةً على ذلك، أحِث الكونغرس الأمريكي على الأخذ بنظر الاعتبار النقاط التالية عند مراجعة أي اتفاق نووي:
أولاً، لا يمكن النظر في أي اتفاق خارج سياق السجل الإيراني الحافل بالأعمال المخلة بالاستقرار في المنطقة. هناك دولتان في الشرق الأوسط أقرّتا بامتلاكهما أسلحة نووية أو يسود الاعتقاد إلى حد كبير بامتلاكهما تلك الأسلحة. ولكن هذه الأسلحة لا تقض مضجع قادة المنطقة ولا تستحث الأمم المتحدة على إصدار العديد من القرارات تحت بنود “الفصل السابع” من ميثاقها، كما هو الحال مع إيران. والسبب هو أن سلوك طهران في المنطقة يثير قلقاً عميقاً لدى العديد من الدول. فامتلاك إيران للقدرة على صنع سلاح نووي، أو اكتسابها قوة سياسية نتيجة اتفاق يردعها عن امتلاك مثل هذه القدرة، سيطرحان تهديدات هائلة جديدة على المنطقة التي ترزح أصلاً تحت وطأة الضغط، ويقوّضان المصالح الحيوية الأمريكية الآنفة الذكر.
ثانياً، عند مراجعة النهج الإيراني في المنطقة، ينبغي علينا جميعاً أن نأخذ في الحسبان أن إيران ليست قوة “وضع قائم”. وكما كتبنا أنا واثنين من زملائي في معهد واشنطن، مهدي خلجي وسونر چاغاپتاي، في صحيفة “نيويورك تايمز” في 26 نيسان/أبريل، “إن إيران قوّة ثورية لها طموحات للهيمنة [خارج حدودها]. وبعبارة أخرى، هي دولة تسعى إلى فرض سيطرتها على المنطقة، ولن تلعب وفقاً للقواعد…. ومع ذلك، فقد تحدّت إيران هذا النظام الدولي وتواصل توسيع نطاق نفوذها”. وباختصار، خلصنا إلى أنه، “ليس من المتوقع أن تتنازل الجمهورية الإسلامية عن مبادئها في أي وقت قريب”. ولا بد لأي قرار يصدر حول الاتفاق النووي الإيراني أن يأخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة الواقعية، ويجب ألا يعتبر استعداد إيران للتوقيع على اتفاق بمثابة تغييرٍ لرأيها حول أهداف الهيمنة التي تطمح إليها في النهاية.
ثالثاً، وخصوصاً في ظل الدور الذي تلعبه إيران في المنطقة، فإن عدم التوصل إلى اتفاق نووي أفضل من التوصل إلى اتفاق قد يؤجل لبضعة أشهر المدة اللازمة لاكتساب إيران القدرة على صنع الأسلحة النووية، هذا إذا كان مثل هذا الاتفاق سيضعف التحالف الدولي الهائل الذي يقف حالياً بوجه السلاح النووي الإيراني، ويزيد من هيبة إيران، ويقوّض مصداقية الاحتواء الأمريكي لكل من المطامع النووية الإيرانية وأجندتها الأوسع في المنطقة.
رابعاً، إنّ الحجة التي استخدمتها الإدارة الأمريكية بأنه لا يوجد بديل عن الموافقة على اتفاق هي حجة خاطئة، ومماثلة للموقف القائل إن “أي اتفاق أفضل من عدمه”. فإن حدث أن تراجعت إيران عن الاتفاق الذي أُبرم في أوائل نيسان/أبريل، لن يكون من الصعب على الدبلوماسية الأمريكية إقناع الدول الأخرى بالإبقاء على العقوبات النفطية والدولية الأخرى. ولكن سيكون من الصعب فرض عقوبات دولية إضافية إلا في حالة شائنة وحيدة وهي الاستفزاز من الجانب الإيراني، علماً بأن الإبقاء على العقوبات الحالية سيكبّد إيران ثمناً باهظاً أشد مما تستطيع تحمله. وإذا لم توافق الولايات المتحدة على اتفاق نهائي مشابه لذلك الذي رسمته ورقة البيت الأبيض الصادرة في 2 نيسان/أبريل، بينما وافقت عليه إيران، فسوف يكون من الصعب جداً زيادة أو حتى الحفاظ على العقوبات الحالية المفروضة على استيراد النفط بموجب “قانون تفويض الدفاع الوطني” والمقاطعة المنفصلة التي يمارسها الاتحاد الأوروبي. وفي حين أن ذلك لا يستبعد إحجام الولايات المتحدة عن الدخول في اتفاق، إلا أن وسائل الضغط على إيران ستكون محدودة في هذه الحالة. وستُبقي الولايات المتحدة على عقوباتها المباشرة فضلاً عن عقوبات الأمم المتحدة (حيث أن رفعها يخضع للفيتو الأمريكي) ونقاط الضغط المصرفية والتجارية وربما أيضاً بعض القيود المتبقية المفروضة على دول الأطراف الثالثة فيما يتعلق باستيراد النفط الإيراني. وبين هذين العاملين المتغيّرين – أي رفض إيران أي اتفاق يشبه ذلك الذي رسم في نيسان/أبريل، أو عدم قبول الولايات المتحدة به – تتعدد السيناريوهات التي ينطوي كلٌّ منها على شيء من الصعوبة في الحفاظ على العقوبات وسائر الضغوط الدولية المفروضة على إيران.
ولكن حتى مع دعم المجتمع الدولي أو غيابه، في حال عدم التوصل إلى اتفاق، فإن القيود الرئيسية على تجاوز إيران للعتبة النووية تتمثل في جمع المعلومات الاستخباراتية من قبل الولايات المتحدة وشركائها وفي استعداد الولايات المتحدة – الذي على الجميع أن يفهمه – لاستخدام القوة في حال اقتراب إيران من القدرة اللازمة على صنع سلاح نووي. وفي حين أن هذا الأمر وارد في السياسة الأمريكية المعلنة، وإن كان قد تم الإعراب عنه بعبارات غير مباشرة مثل “الحفاظ على كافة الخيارات”، إلا أن الرئيس الأمريكي قد أضعف فعلياً هذه السياسة من خلال تحذيراته المتكررة حول حتمية “الحرب” إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق. ويزداد احتمال قيام مجابهة عسكرية في غياب اتفاق لكن ذلك ليس محتماً. وبالطبع، أن المواجهة العسكرية مع إيران ستكون مكلّفة وتتسبب بتصعيد المخاطر، إلا أنه في غياب أي قرارات أمريكية سيئة بشكل فاضح، من المستبعد أن يترتب عن ذلك هزيمة الولايات المتحدة أو [اندلاع] “حرب” بالمعنى المعتاد المستخدم في الخطابات السياسية الأمريكية – أي قتال بري دامٍ لا نهاية له من خلال إرسال مئات الآلاف من الجنود [الأمريكيين]، كما حدث في العراق أو فيتنام. واستناداً إلى تجربتي، أعرف أن اللجوء إلى القوة مجهول النتائج، ولكن جميع المصالح الأمنية للولايات المتحدة ترتكز في النهاية على استعداد واشنطن لاستخدام القوة وفي نجاحها بذلك.
خامساً، حتى بوجود اتفاق، فإنّ القيود القصوى على اكتساب إيران للقدرة على صنع سلاح نووي تكمن أيضاً في قابلية الولايات المتحدة وعزمها على ردع إيران بالسبل العسكرية من الوصول إلى القدرة على إنتاج سلاح نووي. من هنا، بإمكان الكونغرس الأمريكي أن يدعم بشكل مفيد سياسة ردع كهذه من خلال إقرار بشكل أو بآخر عملية تفويض مسبق على استخدام القوة العسكرية ضد إيران في حال تجاوزها العتبة النووية. ومن جهتها، ينبغي على الإدارة الأمريكية أن توضح ما تعتبره الخط الأحمر بالنسبة لاستخدام التحرك العسكري ضد إيران – أي الخطوات الإيرانية أو الحالة التي ستعتبر “عتبة” تستلزم من الولايات المتحدة التصرف بناءً على سياستها التي تهدف إلى “منع إيران من امتلاك سلاح نووي”. وفي الواقع أن الوضوح في دعم الكونغرس وبالتالي دعم الشعب الأمريكي للتحرك العسكري، فضلاً عن الوضوح في توقيت هذا التحرك، سيساهمان كثيراً في تجديد قوة الردع الأمريكية وفي تقليص احتمالات تعرّض الولايات المتحدة للاختبار.
سادساً، كل ما يرتبط بإيران يتمحور في النهاية حول دورها في المنطقة. فإذا انبثقت عن الاتفاق النووي إيران جديدة، تكون على استعداد لقبول الوضع الإقليمي القائم، فهذه نتيجة أفضل إلا أنها يُستبعد حصولها. ولكن إلى أن تتضح هذه الحصيلة، يجب على الولايات المتحدة ألا تراهن على حدوثها، وعلى وجه الخصوص عليها ألا تضبط نفسها في فرض القيود على إيران خوفاً من أن يحول الرد الأمريكي دون الاعتدال الناشئ المزعوم. ولا بد لأولئك الذين يأملون بحدوث مثل هذا التغيير في الرأي الإيراني أن يفكروا في تهديد إيران على إسرائيل عبر الأسلحة التي تزودها طهران إلى «حزب الله» و «حماس»، ومن خلال عمليات إيران في العراق، والمحاولة التي أقدم عليها كبار ضباط الاستخبارات الإيرانية لتفجير “مقهى ميلانو” هنا في واشنطن.
وفي حين أن مبادرة “كامب ديفيد” التي اتخذها الرئيس الأمريكي كانت تهدف إلى تهدئة مخاوف الدول الإقليمية من استمرار إيران “المتمكّنة” – بفضل هيبة الاتفاق النووي (بالإضافة إلى أكثر من مائة مليار دولار من الأموال المجمدة التي ستُعاد في النهاية) – في أعمالها التخريبية، إلا أن تلك المبادرة تدعو للتهكم. فتركيز الإدارة الأمريكية في “كامب ديفيد” ومعظم التبادلات الأخرى مع حلفائها الإقليميين يتمحور حول التزامها بآليات دفاعهم التقليدية ودعمها لقواتهم العسكرية. غير أنهم يخشون الاجتياح الإيراني المحض أقل بكثير مما يخشون التغلغل الإيراني في المناطق الضعيفة من العالم العربي حيث تعمل إيران على زعزعة الاستقرار وتضغط على الدول القومية السنية في المنطقة بالمعنى الديني والسياسي والنفسي. وكما كتبنا في مقالنا في صحيفة “نيويورك تايمز” فإن إيران، “تستخدم مجموعة متنوعة من الأعمال الإرهابية، والانتشار النووي، ووكلاء عسكريين، وتعتمد أحياناً على دبلوماسية من الطراز القديم لمواصلة هيمنتها”.
إن ما تحتاجه تلك الدول هو التزام الولايات المتحدة – مدعوماً بالأفعال في هذه المرحلة – بتسخير كافة الأدوات الموجودة في ترسانتها، بما فيها الوسائل العسكرية، لمكافحة ودحر المساعي الإيرانية غير الشرعية للتغلغل في الدول العربية في مختلف أنحاء المنطقة ولإضعافها. ويشمل ذلك مكافحة تصرفات إيران في العراق وسوريا واليمن ولبنان وغزة. إن دعم التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية في اليمن، والتهديد بتفتيش السفن الإيرانية التي يُزعم أنها تحمل المساعدات الإنسانية إلى اليمن، والاتفاق مع الأتراك على الخطط الأولية لتدريب 5000 من الرجال السوريين في تركيا، وغيرها من الخطوات الأخيرة هي أمثلة عمّا يجب أن تكون الولايات المتحدة مستعدة للقيام به بانتظام من أجل استعادة ثقة شركائها الإقليميين بها.
وباختصار، لا يجدر الحكم على أي اتفاق فقط وفقاً للقيود الفعلية والقابلة للإثبات التي يفرضها على إيران، بل أيضاً على أساس السياق الذي سينفذ فيه هذا الاتفاق وهو: الجهوزية لدعمه عبر الاستعداد بدرجة أكبر وضوحاً ومصداقية بكثير من الاستعداد لاستخدام القوة بهدف وضع حد لأي تجاوز للعتبة النووية، وعبر برنامج أمريكي ناشط أكثر بكثير لاحتواء التحركات العسكرية والأيديولوجية والدينية والاقتصادية والدبلوماسة، غير المتناسقة التي تقوم بها إيران لتوسيع نفوذها في المنطقة.
جيمس إيف. جيفري هو زميل زائر متميز في زمالة “فيليب سولوندز” في معهد واشنطن.