في أواخر عام 2010 وأوائل 2011، اهتز الشرق الأوسط في أعقاب الثورات التي اندلعت في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والاحتجاجات الشعبية المتعددة في الكثير من البلدان الأخرى. وأَنذر ما سُمي بـ «الربيع العربي» بنهاية ثلاثة أنظمة عربية استدبادية، وبدا أنه يعد بإجراء تحسينات في الحوكمة، إن لم يكن في التطور الديمقراطي، في هذه البلدان وفي جميع أنحاء المنطقة.
ولكن سرعان ما تحول التفاؤل الحذر إلى قلق، ليس فقط من عودة الدكتاتوريين القوميين العرب العلمانيين التقليديين، بل أيضاً من احتمال بروز نوع جديد من الاستبداد في المنطقة يميل نحو التوجهات الإسلامية.
وبحلول عام 2013، كانت حكومات إسلامية قد أمسكت بزمام الحكم في مصر وتونس، وكانت ميليشيات إسلامية قد بدأت تسيطر على ليبيا التي تحررت من نظام معمر القذافي، وتحولت الثورة السورية العلمانية إلى تمرّد يقوده تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»). وبدأت واشنطن ودول الشرق الأوسط تنظر إلى «الربيع» وكأنه يشبه شتاءً طويلاً ينطوي على احتمال ضئيل لتحقيقه نتيجة إيجابية. وفي حين أبدى الكثير من العرب معارضتهم الواضحة للحكومات الجماعية القائمة على الشريعة الإسلامية، كان الإسلام السياسي يزداد قوة، واعتقد كثيرون أنه ليس بالإمكان عكس مساره.
بعد مرور أربع سنوات [على بدء “الثورات”، ما زال] الوضع في الشرق الأوسط ملتهباً، ولكن الدول العربية لم تسقط كقطع الدومينو أمام الإسلاميين. ففي مصر، تم التحرك ضد حكم جماعة «الإخوان المسلمين»، التي فازت بالانتخابات، بانقلاب عسكري؛ وفي تونس، تنازل ائتلاف منتخب ديمقراطياً – يقوده الإسلاميون لكنه لا يحظى بشعبية إلى حد كبير – عن السلطة لصالح حكومة ائتلافية أكثر علمانية. وفي أماكن أخرى في المنطقة، يتحدّى أيضاً الفاعلون غير الإسلاميين – سواء أكانوا أفرادً أم منظمات غير حكومية أم أحزاباً سياسية – مفهوم الحكومة المتأثرة بالدين. غير أن تنظيم «داعش» وغيره من الإسلاميين المتطرفين ما زالوا أقوياء في بعض المناطق، في حين ما زال الحكام المستبدون التقليديون – الذين يدّعون أنهم يتمتعون بشرعية دينية بدرجة أو بأخرى – يمسكون بزمام الحكم في مناطق أخرى.
ويقيناً، هناك عدد قليل من غير الإسلاميين الذين هم علمانيون، إما بمعنى تجنّب التطرق إلى الدين أو أنهم يؤيدون فصل الدين عن الدولة. فبعض الذين يدعمونهم أو يتعاطفون معهم متدينون على الصعيد الشخصي، والكثير من بينهم يؤيدون الفكرة بأن تلعب القيم الدينية دوراً ما في الحياة العامة. كذلك، ليس كل من لا ينتمي إلى الإسلاميين ليبرالياً: فهؤلاء الفاعلون غير الإسلاميين يضمون بين صفوفهم نخباً تقليدية وقوميين متحمسين، ويساريين، وحتى بعض المؤيدين للملكية الدستورية بدرجات متفاوتة. ولكن الأمر الذي يوحّد هذه المجموعة هو تشديدها البليغ على التعددية والتسامح الديني والحريات الشخصية، ومعارضتها للبرامج السياسية الإسلامية التي أنتجت سياسات متعصبة قائمة على الشريعة والتفرد بالحكم.
واستناداً إلى الخطاب الرائج في واشنطن حالياً، قد يستنتج المرء أن السياق العربي الحالي يمثل تنافساً، قائماً حصراً بين الأصولية الدينية والاستبداد، بمظهريه العسكري أو الملكي.
ولكن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك: فبين هذين النقيضين هناك قوى عربية شعبية أصيلة، تدعو إلى تشكيل حكومات تمثل أطيافاً أوسع من المجتمع وإلى المزيد من الحريات الشخصية. وهذه القوى، التي تنتمي إلى المعسكر غير الإسلامي، أساسية لتحديد الطابع المستقبلي للشرق الأوسط. وبالرغم من مكامن العجز المتعددة لدى الفاعلين غير الإسلاميين في المنطقة، فإن مصلحة الولايات المتحدة الدائمة تتمثل بانتصارهم.
لقد كُتب الكثير حتى الآن عن مسألتي مصر وتونس، اللتين تحتلان عناوين الصحف، ولكن تجارب أخرى في المنطقة تمثل كذلك فرصاً متواضعة تهدف إلى بلوغ مزيد من التعددية، وإلى تشكيل حكومات تمثل أطيافاً أوسع من المجتمع، وإلى زيادة احترام القيم الإنسانية العالمية. ويمكن القول إن سجل الإسلاميين الفاشل في الحكم وشعبيتهم التي ما انفكت تتراجع في بعض الأماكن قد شكلا فرصة لبروز بدائل من غير الإسلاميين.
وبالفعل، تؤكد البيانات الانتخابية هذا الانفتاح. ويبرز مثالان على هذا الأمر، أولهما في تونس، حيث فازت أحزاب ليبرالية واشتراكية/شعبوية، وحتى أحزاب لا تخفي علمانيتها، بشكل مشترك بغالبية المقاعد في انتخابات “المجلس الوطني التأسيسي” في عام 2011؛ والمثال الثاني في مصر، حيث حاز المرشحون غير الإسلاميين على 57 في المائة من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في عام 2012.
وفي العديد من البلدان العربية الأخرى، من المغرب إلى ليبيا، وصولاً إلى العراق والكويت، يحصد المرشحون غير الإسلاميين أو الأحزاب غير الإسلامية في أغلب الأحيان على أصوات أكثر من منافسيهم.
وليس هناك شك بأنه توجد أسباباً كافية تدفع إلى الحذر من آفاق القوى غير الإسلامية في المنطقة. فالكثير من هذه الجماعات سيء التنظيم، ويعاني من الاقتتال الداخلي بين صفوفه، ويفتقر إلى رسالة متماسكة، وتَعرّض لاستهداف الأنظمة القمعية والقوى الإسلامية على حد سواء. والحق يقال، أن برامج بعض هذه الجماعات – سواء أكانت تنادي بالدولة المهيمنة أو بالاشتراكية، وسواء أكان بعضها من رموز الأنظمة السابقة أو غير ذلك – لا تتناسب مع القيم الأمريكية في جوانب أساسية منها، على الرغم من أن آراءها أقرب بأشواط إلى القيم الأمريكية من آراء المتعصبين دينياً. وحتى الآن، لم تتمكن هذه الجهات، باستثناء تونس كما يُحتمل، من تحويل فشل الإسلاميين إلى فوز انتخابي دائم لصالحها أو إلى انتصار لسياساتها. فعلى أبسط المستويات، ما زالت الجهات غير الإسلامية تفتقر إلى شبكات الخدمات الاجتماعية الراسخة كتلك التي بناها الإسلاميون، كما تفتقر أيضاً إلى موارد تسمح لها بالتواصل مع عموم الناس، توازي تلك التي يتمتع بها الإسلاميون. ولكن رغم ذلك، فإن ردة الفعل الحالية في المنطقة الموجهة ضد المتطرفين والتمادي السياسي الذي مارسه الإسلاميون، يشكلان فرصة لتلك المجموعات.
وعلى الرغم من أنه يجب ألا يُبالغ في توصيف قوة الفاعلين السياسيين غير الإسلاميين، لا شك في أن هذه المجموعة ضرورية لتقدم دول الشرق الأوسط نحو أنظمة حكم أكثر تسامحاً وتعددية. وبالتالي، يعتبر «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» أن مراقبة هذه الأفكار، والقدرة التنظيمية، والدعم المحلي والأجنبي لهذه الجهات تشكل نشاطاً منتجاً. وسوف يقدم المعهد سلسلة من الدراسات العلمية، سيتم نشرها على مدى الأشهر الـ 18 المقبلة، تطرح مستويات متفاوتة من التفاؤل حول آفاق القوى غير الإسلامية وغير الدكتاتورية في المنطقة. ومما لا يثير الدهشة أن معظم المساهمين بعيدون كل البعد عن التفاؤل الذي أبداه الكاتب في صحيفة «واشنطن بوست» جاكسون ديل، الذي كتب في 27 نيسان/أبريل 2015:
أنّ تمكن تلك الدولة، أي تونس، من إرساء ديمقراطية فاعلة، بالرغم من تصارع العلمانيين والإسلاميين على السلطة، وبالرغم من إرهاب الجهاديين، يثبت أن هدف التحول الديمقراطي لم يكن حلماً مستحيلاً أو فرضاً غربياً لا يصلح للبلدان العربية.
إن ما ستوفره هذه الدراسات هو تقييمات واقعية للفاعلين غير الإسلاميين الذين يميلون نحو الديمقراطية والتعددية في أكثر من 10 بلدان عربية في الشرق الأوسط. وسوف يركز التحليل على الأوضاع الخاصة بكل بلد، مفصلاً أهداف تلك الجماعات ومكامن القوة والضعف عندها، ويدرس مقارباتها في التنافس مع خصومها الإسلاميين.
وحتى الأشهر القليلة الماضية، لم يكن أحد في واشنطن يعترف بالآفاق التي قد توفرها الجهات الفاعلة غير الإسلامية، مهما كانت محدودة، مقابل التركيز على سردية الصراع بين الاستبداديين والإسلاميين. فمن جهة، كان الافتراض السائد في واشنطن في السنوات الأربع الماضية أن الإسلاميين يمثلون بطريقة ما اتجاهات الشعب الحقيقية، وأن منافسيهم غير الإسلاميين بعيدون كل البعد عن الجماهير. ومن جهة أخرى، أضعفت الولايات المتحدة هؤلاء الفاعلين عبر الدفع إلى إجراء انتخابات سابقة لأوانها، مما برز بالتالي خطر تسلم الحكم من قبل مجموعة جديدة من الاستبداديين.
وتهدف سلسلة دراسات «معهد واشنطن»، التي تتناول الفاعلين غير الإسلاميين الذين يميلون نحو الديمقراطية والتعددية، إلى تسليط الضوء على هذه التوجهات، وإلى تقديم المقترحات إلى واشنطن حول أفضل السبل لتنمية هذا المورد المحدود والمحافظة عليه.
وفي هذه المرحلة الحرجة من العملية الانتقالية، وبعد مرور عقود من الزمن وإنفاق ملايين الدولارات الأمريكية على مشاريع إرساء الديمقراطية، كان المرء يأمل لو أن عدد الليبراليين الديمقراطيين في الشرق الأوسط أكثر مما هو عليه الآن. ولكن للأسف، في معترك الأفكار اليوم – وفي السياسة الانتخابية – تلك المجموعة من الناس قليلة العدد في معظم البلدان العربية. ولكن على الرغم من جميع الخلافات التي قد تكون للأمريكيين مع المجموعة الأكبر من العرب غير الإسلاميين الذين يميلون إلى التعددية، يستحق هؤلاء الفاعلون دعم الولايات المتحدة. لقد بدء هؤلاء بالتنافس سياسياً مع الإسلاميين والاستبداديين، مع أنهم يعانون من عجز جدي ولكن ربما ليس من غير الممكن تخطيه. فكما حصل إبان التطورات في تونس، تكمن مصلحة الولايات المتحدة الفضلى في تماسك هؤلاء الفاعلين غير الإسلاميين على الأقل في أماكن أخرى في الشرق الأوسط.
ديفيد شينكر هو زميل أوفزين ومدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن. وشملت مؤلفاته الأخيرة فصلاً عن العلاقات الأمريكية- اللبنانية في لبنان: “التحرير والصراع والأزمات” (پالجريف، 2009)، و”التحديات المستمرة أمام مصر: تجسيد البيئة في المرحلة ما بعد مبارك” (2011). وقد ظهرت أيضاً كتاباته في الشؤون العربية في عدد من المجلات والصحف العلمية البارزة، بما في ذلك صحيفة “وول ستريت جورنال”، و “لوس أنجلوس تايمز”، و “جيروزاليم بوست”.