منذ الأسابيع الأولى للغزو الأمريكي للعراق، وتشكيل مجلس الحكم الانتقالي الذي كرس واقع أغلبية شيعية تصل إلى 60% من المناصب السيادية، برز حضور السلطة الشيعية وتفردها بالقرار الأمني والسياسي بشكل جلي، فيما ظل العرب السُنَّة مجرد شركاء في العملية السياسية وفق مبدأ الشراكة الشكلية دون سلطات فعلية، أما الأكراد فكانوا إلى حد ما شركاء حقيقيين بحكم الوضع شبه المستقل عن المركز منذ نهاية حرب الخليج الثانية.
الهيمنة الشيعية على القرار الأمني والسياسي انعكست بشكل ما على مفاصل الدولة الأمنية والسياسية، وبروز ظاهرة الأحزاب السياسية التي تؤازرها أجنحة عسكرية قادرة على فرض الأمر الواقع بسلطات تتجاوز حدود دستور الدولة وقوانينها، وهذه الأجنحة العسكرية في غالبيتها تشكلت في إيران رعاية ومنهجًا وتدريبًا وتمويلًا وتسليحًا خلال فترات متعاقبة قبل الغزو وبعده، وهي الأجنحة التي اصطلح على تسميتها باسم الميليشيات.
في العام 2005، تمت عملية دمج الميليشيات الشيعية في وزارتي الدفاع والداخلية إبان عهد رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري ووزير داخليته باقر صولاغ، ومنذ تلك الأيام باتت الميليشيات هي الآمر الناهي، وانتهجت سياسة طائفية استهدفت العرب السُنَّة في بغداد بشكل خاص من خلال الخطف والقتل والتهجير؛ بهدف إفراغ بغداد منهم، وإعلانها مدينة شيعية، ومن بين أكثر الفئات العربية السُنيَّة استهدافًا: فئة أئمة وخطباء المساجد السُنيَّة.
في تصريح خاص لـ “التقرير”، يقول أحد خطباء المساجد، وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم الشرعية: “إن ما يجري من استهداف للأئمة والخطباء، وعموم العرب السُنَّة، إنما هو فعل ممنهج وليس حالات فردية، وهو يستهدف تعزيز حلم شيعي بإعلان بغداد عاصمة للعراق الشيعي، ومن خلال التعامل اليومي في الدوائر الحكومة يقومون باستدراج السُنَّة إلى التشيع، أو على الأقل التظاهر بالتشيع، لتسهيل مهمة السُنّي في إنجاز معاملاته وحصوله على التعليم العالي أو المتوسط، وفي حالات عدّة يواجه السُنّي الإهانة ويتعرض لضغوط شتى في الأحياء السُنيَّة الشيعية المختلطة وإرغامه على حضور المجلس في الحسينيات والصلاة فيها، ومن لم يمتثل قد يتم اختطافه وقتله، ونحن عاجزون عن فعل أي شيء، ففي بيت أي شيعي تجد أنواع الأسلحة التي يقتلنا بها خارج القانون فيما يتم اعتقال أو قتل السُنّي في حالة العثور على قطعة سلاح صغيرة”، ويختم: “إنها عملية تشيع صامت لبغداد“.
أحد أئمة وخطباء بغداد، رفض الكشف عن اسمه لدواع شخصية، يقول: “قبل سنوات كنا تحت أنظار المخبر السري على مدار الساعة، في الدروس والصلاة والخطب، حتى في الأيام العادية كل شيء نقوله ونفعله يسجل ويذهب لوزارة الداخلية والمخابرات، أما الآن فكل شيء يذهب لمسؤولي المنطقة التابعين للميليشيات، ففي كل منطقة عدد من الميليشيات بيدها مصيرنا موتًا أو حياة أو اعتقالًا“، ويروي عن زميل له قامت الميليشيات بمداهمة بيته الملحق بالمسجد، أنهم قاموا بتحطيم مكتبته ثم اقتادوه إلى المسجد مقتحمين حرمه بأحذيتهم، وكانت جريمته أنه لم يدع بالنصر للحشد الشعبي ولم يردد على المصلين صلواتهم المعروفة على آل البيت ولعن أعدائهم، ومن ثم أرغموه على ترك المسجد وحولوه إلى حسينية، وعند سؤالنا له عن موقف الوقف السُنّي من هذه الحادثة أجابنا: “الوقف السني يميل للميليشيات، ما يهمهم هو الأموال والمناصب، وسبق أن طالبنا بحماية المساجد لكن دون استجابة، اليوم نحن نقوم بأداء بعض الشعائر الشيعية التي لا تمت للإسلام بصلة تجنبا لاغتصاب مساجدنا وتحويلها إلى حسينيات، ونحن صابرون على اقتحام مسجدنا من قبل الميليشيات أثناء خطبة الجمعة والإعلان عبر مكبرات الصوت عن ألفاظ تبتدأ بلعن خلفاء النبي والطعن بعرض زوجاته، وهذا ما يحدث في مساجدنا في جانب الكرخ بغالبيته السُنيَّة، ووحده الله يعلم ما يجري في جانب الرصافة ذي الغالبية الشيعية“.
أما أحد حراس المساجد في شارع فلسطين القريب من مدينة الصدر الشيعية، فيتحدث عن حملات اعتقال مستمرة للشباب الذين يرتادون المسجد من قبل ميليشيات شيعية متنفذة، ويقول: “أوائل شهر مايو/ أيار الماضي، وأثناء صلاة العصر، اقتحمت ميليشيا عصائب أهل الحق، هذا المسجد واعتقلوا 27 شابًا بتهمة التجمع والتخطيط لأعمال إرهابية، ولم يعد منهم سوى 12 شابًا فيما لا زال مصير الآخرين مجهولًا، وهكذا فإن أغلب السُنَّة باتوا لا يؤدون صلواتهم في المساجد خشية الاعتقال، أو الاتهام”، ويضيف: “كنت في السابق أعمل حارسًا وخادمًا في أحد المساجد في شارع فلسطين وبعد سلسلة من الاعتداءات تَمّ اغتصاب المسجد وتحويله إلى حسينية ثم انتقلت إلى هذا المسجد، وذات السيناريو يتكرر هنا، إننا في وضع قلق مع غياب أي جهة حكومية تتكفل بحمايتنا، والوقف السُنّي لا يعنيه أمرنا من قريب أو بعيد وهو الجهة المسؤولة عنا، لكنهم مشغولون باستثماراتهم الشخصية ونهب أموال الوقف“.
عمر، طالب جامعي يسكن قرب الجامعة المستنصرية، أفلت من الموت على يد الميليشيات مرتين بسبب اسمه، يروي عن معاناته مع أحد الحواجز التي تسيطر عليها الميليشيات داخل العاصمة، يقول: “أحمل معي بطاقتي هوية إحداهما باسم علي عبد الكاظم، لكن أحد عناصر الميليشيات على ما يبدو لم يقتنع بصحة إصدار البطاقة، وبعد نقاش طويل تمكنت من إقناعه، لكنه عاملني معاملة سيئة أنا وشخص سُنّي كان معنا في الباص وقاموا بإنزالنا للتحقيق معنا، وبعد سلسلة من الأسئلة كلانا أصرّ على القول بأننا شيعة، ومن بين الأسئلة كيف تصلي؟، هل تصلي وأنت سابل يديك؟ وما تقول في الركوع والسجود، لكننا سبق أن حفظنا طريقة صلاتهم منذ عام 2006 واشتداد الحرب الطائفية والقتل على الهوية، ومع هذا تلقينا المزيد من الضرب والإهانات والحجز لعدة ساعة قبل أن يطلقوا سراحنا“، ويختم: “إننا نعيش مأساة حقيقية، نفكر بالذهاب للاستقرار في كردستان لكن هناك معوقات في دخول وإقامة العرب، كما أن كلفة العيش هناك كلفة عالية جدًا“.
حي السيدية جنوب غرب مركز العاصمة، من بين أحد أهم الأحياء في جانب الكرخ، ومعروف أنه حي سُنّي بالمطلق قبل العام 2003، وهو الآن حي مختلط يشكل الشيعة أكثر من ثلث سكانه، يقول أحد أهالي حي السيدية، الذي يعمل موظفًا بسيطًا في وزارة التعليم العالي: “قبل الغزو، لم يكن هناك سوى عدّة بيوت تسكنها عوائل شيعية لا تتعدى عدد أصابع اليدين، وبعد الغزو مباشرة، اتخذت ميليشيا بدر من أحد بيوت الشيعة مقرًا لها، ومنذ تلك الأيام بدأت حملات الاعتقال والتهجير والاغتيال تتسع دائرتها حتى أصبح من النادر أن تجد بيتًا سنيًا ليس فيه أكثر من قتيل أو معتقل، هؤلاء يرون أننا نشكل عبئًا على الحي؛ لهذا يسعون إلى تحويل الحي إلى حي شيعي بالكامل ليشكل هو وحي البياع رقعة جغرافية شيعية متصلة في جانب الكرخ السُنّي”.
ليس بعيدًا عن حي السيدية حيث يقع حي الدورة، المعروف بتعايش مختلط سُنّي شيعي مسيحي، ويعاني الحي أيضًا من حملات تهجير منظمة واعتقالات واغتيالات مستمرة، ويقول الحاج أبو عدنان مختار صاحب أحد محلات حي الدورة: “منذ أحداث الموصل زادت المضايقات على السُنَّة بشكل كبير، وبعد نزوح أهالي الرمادي إلى بغداد تضاعفت هذه المضايقات بشكل أكبر، وقد تمكنت من الفرار من الحي بعد أن بلغني أنني موضوع على قائمة التصفيات عند إحدى الميليشيات بحجة عدم التعاون معهم في تقديم معلومات عن النازحين”، وعند سؤاله عن الغاية من المعلومات يقول الحاج أبو عدنان: “الميليشيات تطلب منا تقديم عناوين النازحين؛ حيث تقوم بمداهمة بيوتهم لاعتقال الشباب منهم واقتيادهم إلى معسكرات تدريب الحشد الشعبي للقتال إلى جانبهم، أو مواجهة الإعدام فورًا“، ويختم حديثه قائلًا: “لن تعود بغداد كما كانت، لقد سلم الأمريكان العراق إلى إيران، إننا نخشى اليوم أن نرتدي الكوفية والعقال خشية بطش الميليشيات“.
عبد الله العمري – التقرير