في أحراش سياسة الشرق الأوسط المتشابكة، ليس نادرًا أن تجد انعكاسًا للمقولة الشهيرة: “عدو عدوي صديقي”. لكن من الغريب أن ترى محاولات أبو ظبي لصياغة سياسة خارجية أكثر حزمًا، عبر ما كان يومًا شبكة لا يمكن تصورها تقريبًا، تضم: (1) حماس، (2) وقيادة صربيا، (3) ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير.. والرابط بين عناصر هذه التشكيلة المتنافرة، هو: (4) محمد دحلان.
فرَّ من رام الله في 2011، بعد خلاف مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. وتولى مسؤولية الأمن الداخلي في السلطة، وكان رئيس جهاز الأمن في قطاع غزة، وقضى معظم السنوات القليلة الماضية متنقلًا بين القاهرة وأبو ظبي. وتفيد التقارير المنتشرة على نطاق واسع بأنه يعمل مستشارًا لولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد آل نهيان، الذي يعتبر الحاكم الفعلي لدولة الإمارات منذ أصيب خليفة بن زايد بجلطة في يناير 2014.
ويعتقد أن دحلان (في أوائل الخمسينيات من عمره) يُثَبِّت أقدامه لخوض انتخابات الرئاسة الفلسطينية، التي شغلها عباس لأكثر من عشر سنوات. ويتفاخر بقاعدة دعم قوية في غزة، واستطاعته حشد الآلاف للخروج في مظاهرات، على الرغم من غيابه لسنوات.
إلى الخليج
بمجرد طرد دحلان من حركة فتح عام 2011، لم يضيع وقتًا حتى بدأ في التودد إلى الخليج، والتنقل ما بين القاهرة وأبو ظبي، حيث نظَّم الاتصالات بين الجيش والأمن المصري ومكتب محمد بن زايد. هذه العلاقة بين دحلان ومصر قد تفسر التقارب مع حماس، التي تحاول استعادة نفوذها في القاهرة منذ تولى السيسي السلطة، إلى جانب المكانة التي صنعها دحلان لنفسه كشخصية محورية في تعامل الإمارات مع غزة.
ووفقًا لتحقيق نشرته تايمز أوف إسرائيل، نقلت أبو ظبي أموالًا كثيرة من مؤسسة خليفة بن زايد آل نهيان لـ دحلان؛ ساعدته في حشد تأييد له في غزة، وتلميع صورة الإمارات في القطاع. ربما يكون الدور الدحلاني ليس واضحًا، لكن نشاط مؤسسة خليفة واضح للغاية؛ عبر حفلات الزفاف الجماعي ومعونات الزواج، واللافتات الضخمة التي تشكر الإمارات. وبالنظر إلى التنافس المستمر بين الإمارات وقطر- الدولة المانحة الكبيرة للفلسطينيين- يتضح أن هذه المساعدات التي يتوسط دحلان في إيصالها تمثل فوائد جلية.
بيدّ أن استعداد أبو ظبي للتقارب مع حماس يهدد بتدمير العلاقات بين عباس وقيادات حركة فتح من جهة، ومحمد بن زايد من جهة أخرى. ذلك أن القيادة الفلسطينية كانت تظن أن نفور محمد بن زايد الدؤوب من الإسلاميين سوف يدفعه إلى مخيم السلطة. فيما يقال إن دحلان لعب دورًا في حملة الإمارات على الإسلاميين الفلسطينيين في عام 2009.
التواصل مع صربيا
العلاقات مع دحلان جعلت أبو ظبي أيضًا تيمم وجهها إلى اتجاه آخر: صربيا.
كُشِفَ في وقت سابق من عام 2015، أن دحلان حصل على الجنسية الصربية، إلى جانب عائلته وعدد قليل من المؤيدين السياسيين، ما بين فبراير 2013 ويونيو 2014. ويرى المراقبون المطلعون على المشهد السياسي الفلسطيني أن دحلان قد يكون يخطط لاستخدام صربيا كقاعدة لإطلاق تحديه القيادي ضد عباس، الذي بلغ الثمانين بحلول نهاية مارس. ومن الواضح أن محمد بن زايد يدعم دحلان في التنافس على المنصب.
ويبدو أن أحد الأسباب التي جعلت دحلان يحصل على الجنسية الصربية، هو إطلاقه للاتصالات السياسية بين محمد بن زايد وبلجراد، أثمر وعدًا باستثمار إماراتي واسع النطاق. كما حصل على “وسام العلم الصربي” في أبريل 2013؛ لدوره في “تطوير وتعزيز التعاون والعلاقات الودية بين صربيا والإمارات العربية المتحدة”.
وتتنوع الاستثمارات الإماراتية في صربيا بين الزراعة وتكنولوجيا المعلومات إلى التعاون الدفاعي، إلى جانب تمهيد الطريق لعودة صربيا الدبلوماسية إلى الخليج- بعدما كانت المنطقة تنبذها خلال التسعينيات، بسبب أنشطتها المعادية للمسلمين في البوسنة.
وفي أغسطس 2013، افتتحت صربيا سفارة في الإمارات؛ لتدشن منصة لسلسلة صفقات، كان أبرزها شراء طيران الاتحاد 49 % من شركة جات آيرلاين الصربية (تغير اسمها إلى آير صربيا) اعتبارًا من يناير 2014.
مثل هذه الصفقات تؤكد أن اتصالات دحلان في بلجراد وصلت إلى أعلى المستويات. لدرجة أن الحملة الانتخابية الناجحة لرئيس الوزراء الصربي ألكسندر فوسيتش في 2014، اعتمدت في جزء منها على كونه “الرجل الذي يستطيع جلب الاستثمارات من الإمارات”. وتشمل هذه المشروعات: خطة تبلغ تكلفتها 4 مليارات دولار لإعادة تطوير واجهة بلجراد البحرية، وهو مشروع مشترك بين إيجلز هيل الإماراتية والحكومة الصربية. إلى جانب تعهد مشترك من شركة الأسلحة الصربية Yugoimport SDPR والشركة الإماراتية القابضة للبحوث المتقدمة؛ لإنتاج وتسليم صواريخ ومعدات ذات صلة. وتذكر التقارير أيضًا أن أبو ظبي عرضت 2-3 مليارات دولار كقروض سيادية لدعم الميزانية.
توني بلير
هذا الازدهار في العلاقة بين صربيا والإمارات يتماسّ أيضًا مع مبعوث الرباعية الدولية السابق إلى الشرق الأوسط، توني بلير، الذي يقدم استشارات لـ “فوسيتش” منذ العام الماضي. ووفقًا لشبكة تقارير تحقيقات البلقان، قامت أبو ظبي بتمويل التعاقد بين مؤسسة بلير الاستشارية “توني بلير أسوشيتس” وصربيا. ولا غروَ؛ فـ بلير شخصيًا تربطه علاقة بمحمد بن زايد، وكان مستشارًا لشركة مبادلة للتنمية ومقرها أبو ظبي، وهي الذراع الاستثمارية الرئيسية ل
ـ محمد بن زايد، منذ 2009.
سلوك انتهازي
مثل هذه الشبكة المتاهة تثير علامات استفهام بشأن الاستراتيجية الأوسع للسياسات الخارجية التي يتبناها محمد بن زايد. ذلك أن تفضيل ولي العهد لاستخدام شخصيات قوية- مثل: دحلان- في أنحاء المنطقة، يخاطر بالتفكك، إذا ما مثَّل ذلك إهانة للحلفاء الطبيعيين، مثل: القيادة الفلسطينية في رام الله. لكنه- برغم ذلك- اختيارٌ في محله، بحسب فريدريك ويري- محلل سياسات الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي- الذي قال لـ جالف ستاتس نيوز: “جزء كبير من السياسة الخارجية الخليجية يعتمد على وجود محاورين إقليميين. إنهم يميلون إلى استخدام كل من يقيم هناك، وكل من يقيمون معه علاقات طويلة الأمد. إنه سلوك انتهازي، ويعتمد على العلاقات الشخصية، ويقوم أساسًا على تلاقي المصالح.
أحد المظاهر الأخرى لهذا النهج، هو رعاية أبو ظبي للشخصيات المثيرة للجدل، مثل: المرشح الرئاسي المصري السابق أحمد شفيق، أو وزير الدفاع الليبي السابق أسامة جويلي. وهو ما يتفق مع الطبيعة الشخصية لحكم محمد بن زايد، ويؤكد أيضًا حقيقة أن علاقاته تميل إلى الانطلاق من قاعدة أمنية.
لكن الحملة التي شنتها أبو ظبي ضد الإسلاميين خلقت لها بعض المشكلات، وحتى السعودية- التي يجمعها مع الإمارات تحالف وثيق في الآونة الأخيرة- ترى أن هناك حدودًا لفعالية استهداف الإسلاميين. وقد حاول السعوديون إقناع الإماراتيين بأن هناك نقطة معينة لا ينبغي بعدها الشعور بالقلق من جماعة الإخوان المسلمين، وينبغي بدلًا من ذلك إيجاد طريقة للتعامل معهم، خاصة في سوريا. وهذا يفسر جزئيًا العلاقات التي تربط الإمارات مع شخصيات مثل دحلان”، على حد قول محلل الشؤون الخليجية في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أندرو هاموند.
ترجمة وعرض: علاء البشبيشي
المصدر : جالف ستاتس نيوز
الخليج الجديد