امتازت المواقف السياسية لدولة الإمارات إزاء الثورة السورية بين المد والجزر، واتسمت بأسلوب المماهاة في قراراتها السياسية والانفصال بين موقفها وآلية تحركها، بل يمكن القول إن مواقفها السياسية الأولى لم تتبن آلية تحرك واضحة في الحراك الإماراتي اتجاه الثورة السورية، ويمكن القول إن الدور السياسي الضعيف للإمارات في مساندته للثورة السورية عند مولده، ينبني على موقف أعمق من الثورة السورية تبنته في أروقتها السياسية المستترة، ولم تتجرأ على إعلانه في الأروقة السياسية العلنية، لأسباب منها:
-الموقف العام لدول الخليج العربي المنحاز للثورة السورية، والتي لم تستطع دولة الإمارات الخروج عنه لا سيما الموقف الأقوى للمملكة العربية السعودية وقطر.
-الضغط السعودي على الإمارات لتبني موقفاً سياسياً مؤيداً للثورة، وعدم قدرة الإمارات في الخروج عن العباءة السعودية لاعتبارات عديدة، منها وقوف السعودية بجانب الإمارات في قضية البريمي المتنازع عليها مع السلطنة العمانية.
-حجم الاستثمارات الاقتصادية الضخمة لدولة الإمارات على الأراضي السورية، والتي تجاوزت القيمة المالية لالتزاماتها حاجز الـعشرين مليار دولار قبل اندلاع الثورة السورية.
-العداء الإماراتي المتنامي للحركات الإسلامية خاصةً جماعة الإخوان المسلمين، وقلقها البالغ من نجاح الثورة واستبدال نظام الأسد بعدوها اللدود “الإخوان”.
لتلك الاعتبارات وغيرها فإن المتتبع للدور الإماراتي السياسي في ملف الثورة السورية، يرى التأرجح الواضح لمواقفها، إلا أن تقدم عمر الثورة وتسارع وتيرة أحداثها في المنطقة، كشفت المستور عن الموقف الحقيقي للإمارات من الثورة السورية، ويمكن تقسيم الدور السياسي للإمارات على مرحلتين، كل مرحلة تحمل طبيعة سياسية وآلية تحرك معينة:
المرحلة الأولى:
منذ اندلاع الثورة السورية، التزمت الإمارات بموقف إماراتي حذر من الثورة السورية، اكتفت بالدعوة للحوار وتقديم النصح والمشورة للرئيس الأسد، وتمحورت آراؤها في ضرورة الخروج من الأزمة والحد من اتساع دائرة العنف، دون أن توضح تعريفها للأزمة أهي أزمة ثورة أم أزمة نظام! وفي تلك الفترة قام وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان في 24 إبريل/نيسان 2011م بإعلان وقوف بلاده إلى جانب الشعب والقيادة السورية لتجاوز الأزمة، وتكراره الزيارة في 2 مايو/أيار 2011م، وبعد أقل من 10أيام من هذه الزيارة، قام نظيره السوري وليد المعلم بزيارة الإمارات يوم 5 يونيو/حزيران 2011م.
ثم تسارعت الأحداث في سوريا ليحدث تطوراً في الموقف العربي اتجاه القضية السورية، خرج من طابع الفردية إلى الطابع الجمعي، مما أثر على الموقف الحيادي لدولة الإمارات اتجاه دمشق، إلا أنه كان يتسم بالخصوصية الإماراتية اتجاه الثورة والذي جعله أقل اندفاعاً من باقي الدول العربية، حيث انحصرت تصريحاتها في الدعوة إلى نبذ العنف والدعوة إلى الحوار وتجنب تدويل الأزمة، والبعد عن الحلول العسكرية والالتزام بالقرارات الصادرة عن الجامعة بشأن سوريا، دون أن ترتقي لآلية حراك تنسجم مع طبيعة مواقفها.
إذْاً لم تكن المواقف أكثر من التزام بالموقف الجماعي لدول مجلس التعاون، وجامعة الدول العربية الذي لم ترغب الإمارات في مخالفته. أما عن آليات تحركها فلم تتجاوز المساعدات الإنسانية والإغاثية التي تقدمها للشعب السوري، على اعتبار أن المساعدات هي المنسأة التي تتكئ عليها الإمارات في إبراز وجهها الحسن والمؤيد للثورة، دون أن تكون مساعدات حقيقية يمكنها إحداث خرق في معادلة الثورة منذ شهورها الأولى، يقول مصطفى العاني الخبير بقضايا الأمن والإرهاب في دبي، لم يصل حدّ المساعدة للتنظيمات الجهادية، بل توقف عند حدود تنظيمات معيّنة منها الجيش الحر وفصائل علمانية وأخرى إسلامية معتدلة. أي أن الدعم الإماراتي لم يكن في السلاح ولم يغيّر موازين القوى بشكل كبير. كما أن شماعة المساعدات تم استغلالها إماراتياً خلال قلق السعودية من الموقف الإماراتي للتستر على موقفها الحقيقي والمناهض للثورة، لا سيما أن السعودية تمتلك تقارير لتصرفات إماراتية مريبة في الشأن السوري بخلاف ما يتفقون عليه، وبعد قيام السعودية بمهاتفة الإمارات لاستبيان الأمور، قام المسؤول الإعلامي بوزارة الخارجية الإماراتية إعطاء مبلغ عشرين ألف درهم لصحيفة “بهية مارديني” السورية في محاولة منه لشراء ذمم صحفية، وطلب منها أن تكتب مقالات شكر للإمارات على مساعدتها الشعب السوري ووقوفها إلى جانبه!
ثم حدث تحول دراماتيكي في الموقف الإماراتي من الأزمة السورية؛ نتيجة عدم استجابة النظام السوري للمبادرة العربية الثانية، اقترحت فيه أبو ظبي تجميد عضوية سوريا في الاتحاد البرلماني، وقامت بسحب السفير الإماراتي من سوريا، ورحبت في تلك الفترة بقرارات الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، بالمشاركة في محادثات مؤتمر جنيف2، ولكن اقتراحها لم يتضمن آلية عمل من شأنه تنفيذ اقتراح تجميد العضوية، ومن ناحية أخرى جمّدت نفسها في مكان الشذب والاستنكار والاستياء من عدد القتلى السوريين، على لسان وزير خارجيتها، وفي أكثر من محفل عبرت الإمارات عن دعمها لحقوق الشعب السوري في تقرير مصيره، ولكنها لم تخرج من دائرة التعبير فقط.
المرحلة الثانية:
دخلت الثورة السورية أعوامها المتقدمة، لتمر بمنعطفات وتحولات كبرى ف
ي الموقف الإماراتي اتجاه الثورة السورية، وبعد ضعف الموقف العربي في حسم قراراته المعلنة في مبادراته العديدة اتجاه النظام السوري، ليبرز بعدها الموقف الإماراتي من الثورة وإن كان مستتراً في تصريحاته إلا أنه أكثر وضوحاً في حراكه السياسي ضد الثورة السورية، وإن كانت الدولة المصرية اللاعب المحوري في الوطن العربي منشغلاً في ثورته الداخلية، وكانت السعودية اللاعب الأبرز سياسياً في منطقة الخليج العربي، إلا أن دولة الإمارات التي تفتقر إلى القوة السياسية لتمكنها من تصدر الموقف السياسي العربي، فهي تمتلك القوة المالية ذات التأثير القوي على خارطة المنطقة السياسية الذي يجعل من الصعوبة تجاهل دورها.
وإنْ برزت الإمارات في موقفها المحايد من الثورة السورية ابتداءً، ثم دعت لفرض عقوبات على النظام السوري بعد رفض الأخير للمبادرة العربية، إلا أنه بروز مستتر لا حقيقي، فهي تُخفي حقيقة تأييدها للنظام الذي لازالت حتى اللحظة تعترف بحكومته بقيادة الأسد! وفي تلك المرحلة من عمر الثورة السورية برز الدور السياسي للإمارات في طبيعته المنحازة إلى نظام الأسد، وآلية تحركه المضاد للثورة
* الحلقة الرابعة من بحث لـ (مركز برق) للأبحاث يتعلق بالإمارات ودورها في النزاع السوري وينشر حصريا بالاتفاق مع المركز
انقر هنا للوصول إلى (مركز برق)