يعكس توغل المملكة العربية السعودية في اليمن السياسة الخارجية الجديدة التي تعبر بحزم عن المطالب السعودية في الشرق الأوسط، واستخدام قواتها المسلحة لضمان حماية مصالحها. وبعد قرون من الاعتماد على الإمبراطوريات الخارجية -بريطانيا في بادئ الأمر وبعد ذلك الولايات المتحدة- لحماية أراضيها وحماية مصالحها الإقليمية، بدأ آل سعود في الاعتماد على مصادرهم الخاصة. ومن الصعب معرفة دور الولايات المتحدة، إذا كان ثمة دور لها، في هذه السياسة الخارجية المتطورة. وفي حين تخطط المملكة لمستقبلها، لم يعد هناك الكثير من الأهمية للتحالف الذي كان يوما ما هو جوهر التوجه السعودي الدولي.
ومن المؤكد أن ثمة دورا للولايات المتحدة في اليمن؛ من حيث توفير المعلومات الاستخباراتية للسعوديين ودعم جهودهم الدبلوماسية. وبالنظر إلى حجم الخلافات بين الجانبين فيما يتعلق بالقضايا الرئيسة مثل كيفية التدخل في الحرب الأهلية السورية والمفاوضات النووية مع إيران، لم تعد المملكة العربية السعودية مرتبطة بالتحالف الأمريكي. وتعد الآثار المترتبة على هذا الموقف بالنسبة لمنطقة تشهد تحولا عنيفا، أمرا بالغ الأهمية.
تحالف غير معتاد
عادةً ما ننسى أن تاريخ التحالف الأمريكي السعودي كان بالكاد تحالفا مستقرا. وهو التحالف الذي دام مدة طويلة منذ بدايته في أوائل القرن العشرين. وكانت شركات النفط الأمريكية عاملا حاسما في اكتشاف النفط في الصحراء السعودية والذي حول المملكة إلى عملاق الطاقة كما هو عليه الحال الآن. ومع ذلك، دائما ما كان هناك تعارض في العلاقة بين النظام الملكي الإسلامي المتشدد والنظام الديمقراطي الليبرالي. وقد ارتاب السعوديون بشكل متكرر في نية الولايات المتحدة وتعهدها باستقرار المنطقة.
وفي عام 1958، عصف صعود الجمهوريات الراديكالية والثوار المسلحون بالكثير في منطقة الشرق الأوسط. حيث بدأ نجم العروبة وزعيمها جمال عبد الناصر في مصر، في الصعود. وكانت الحكومات المحافظة في الأردن ولبنان على حافة الانهيار، بينما كان النظام الملكي في العراق مقطوع الرأس بالفعل. وقد ناشد السعوديون الولايات المتحدة من أجل التدخل عسكريا كما هي دعواتهم اليوم للتدخل في سوريا، ولكن كان تأثير ذلك محدودا.
وفي عام 1979، عندما تمت الإطاحة بنظام الشاه في إيران، كان السعوديون على نفس القدر من الغضب من الولايات المتحدة عندما ساندت وشاهدت انهيار حكومة حسني مبارك في مصر في عام 2011.
وفي أعقاب مآساة أحداث 11/9، أصبحت علاقة المملكة العربية السعودية مع الإسلاميين الراديكاليين ومحاولتها لنشر رؤيتها المتشددة للإسلام في جميع أنحاء العالم الإسلامي تحت المجهر. وأصبحت العلاقات المالية بين تنظيم القاعدة والأفراد والمؤسسات الخيرية الموجودة في السعودية مصدرا للخلاف بين البلدين.
ولكن الخلافات في هذه العلاقات مستجدة، ودائما ما عمل التحالف مع بعضه البعض. وفي أثناء الحرب الباردة، توحّد الجانبان معا في محاولة لمنع نجاح الاتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط. وانضمت المملكة العربية السعودية بقوة إلى المجهودات الاحتوائية للولايات المتحدة لمناهضة الشيوعية، وفعلت الكثير من أجل دعم الوجود الأمريكي في المنطقة. وكان للسعوديين دور فعال في دعم مقاتلي الجماعات الإسلامية المقاتلة ضد السوفييت في أفغانستان، مما ساعد على هزيمة الجيش السوفيتي وتسجيل فوز مهم في الحرب الباردة بالنسبة للغرب.
وفي التسعينيات، طارد شبح صدام حسين السعوديين كما طارد الأمريكيين. وعندما قام الديكتاتور العراقي بالغزو الكارثي للكويت في عام 1990، كان لا بد من دحره بالقوة بواسطة تحالف تقوده الولايات المتحدة والذي تلقى دعما سعوديا كبيرا.
وفي اللحظة المناسبة، تسببت الحرب على الإرهاب في الجمع بين النظام الملكي والولايات المتحدة للقضاء على التهديد المشترك. وقد تسببت كل هذه المصالح المتداخلة في دعوة العديد من المسؤولين السعوديين رفيعي المستوى للحفاظ على التحالف مع الولايات المتحدة على الرغم من الشكاوى المتكررة بين الحين والآخر بشأن الحل الأمريكي. وفي النهاية، يتفق القوتان على قضايا أكثر من تلك التي يختلفان عليها.
واليوم، ينقسم الشرق الأوسط على نفسه مرة أخرى، ولكن هذه المرة يحدث الانقسام تحت مظلة الهويات الطائفية. حيث تنحدر حرب باردة سعودية-إيرانية جديدة في المنطقة تتميز بدعمها لوكلاء عديدين؛ مثلما يحدث في البحرين والعراق ولبنان وسوريا ومؤخرا على نحو كبير في اليمن. ومن وجوه كثيرة، فإن هذه اللعبة محصلتها سوف تكون لا شيء، ولا تختلف كثيرا عن الصراع الأمريكي-السوفييتي. إذ تمضي إيران قدما في تحصين المكاسب الشيعية الجديدة في العراق، في حين تدعم نظام بشار الأسد في سوريا، وقوات حزب الله في لبنان. وتتدخل إيران بخبث في الفناء الخلفي للمملكة العربية السعودية في محاولتها لتوسيع نفوذها في البحرين واليمن. وتعد وحدات الحرس الثوري التي تعمل في العراق و”قوات الصدمة” التابعة لحزب الله في سوريا من بين أدوات التخريب الإيرانية.
التمحور بعيدا عن الشرق الأوسط
في حين يمر الشرق الأوسط بهذه التحولات العنيفة والمتقلبة، تبدو الولايات المتحدة مصرّة على ألا تشارك بشكل أكبر في صراعات المنطقة. حيث كشفت إدارة أوباما الغطاء بفخر عن توجهها نحو محور آسيا، وهي القارة التي ستحدد وجهة القرن الحادي والعشرين. حيث تعد الصين الصاعدة والاقتصاديات المتنامية والمنافسات التقليدية أكثر أهمية لواشنطن من الشرق الأوسط ونزاعاته الدموية القديمة. وفي حين بدأت تقل أهمية نفط المنطقة لعمل الاقتصاد العالمي، يبدو أن واشنطن لم تعد قلقة بشأن حل الكثير من مشاكل الشرق الأوسط. وفيما يتعلق بجهودها لمكافحة الإرهاب في المنطقة، فيبدو أنها ستمارسها من خلال الجو عن طريق الطائرات بدون طيار التي يمكن التحكم بها عن بعد.
وفي غياب الرعاية الأمريكية، تحالفت الدول العربية السنية معا لخوض الحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط. وتعد المملكة العربية السعودية هي المحور الجوهري في التحالف الجديد، حيث تسعى ثروتها للعمل مع دولة بحجم مصر من أجل دحض قوة إيران المتنامية. وقد تعهدت القاهرة بدعم المجهود الحربي السعودي في اليمن. وفي حين لم يتبق سوى الانتظار من أجل رؤية ما إذا كان هناك عضلات عسكرية لهذا التحالف أم لا، بدأت الدول السنية في العمل معا من أجل إحياء نفوذهم.
ومع ذلك، سوف يضطر السعوديون في هذه الحرب الباردة الجديدة لاستخدام جيشهم بطريقة لم يفكروا فيها من قبل. وفي السنوات الأربع الماضية، تدخل السعوديون بالفعل في بلدين -البحرين واليمن- ومن المحتمل أن يكون هذا التدخل أكبر بمقتضى ما يحدث اليوم. وهذا يعني أنه على الجيش السعودي أن يعزز من تحديثاته عن طريق تكوين مجموعات ضباط أكثر قدرة تأهيلية وجيش مستقر عما كان يعتقده آل سعود من قبل.
الخيار النووي
تخيم الحسابات النووية السعودية فوق كل هذه التفاصيل. وفي السنوات الأخيرة، أعرب السعوديون عن اهتمامهم بالتكنولوجيا النووية وعن إنشاء بنية تحتية محلية للتخصيب مثل تلك الموجودة في إيران. وربما توفر الأسلحة النووية قدرة ردع هامة لدولة منخفضة الكثافة السكانية وذات ثروة كبيرة. فهل يجب عليها أن تمتلك هذا السلاح ومن ثم يمكن أن تضمن المملكة العربية السعودية ألا يتم الاعتداء على أراضيها من قبل الجيران الأكبر الطامعين في نفطها؟
وفي الماضي، قدمت المظلة الأمنية الأمريكية التطمينات اللازمة، مما يعني عدم الحاجة إلى مثل هذه التدابير من الاعتماد على الذات. واليوم ربما لا يكون الأمر كما كان. ومن المهم أن نؤكد على أنه في الشرق الأوسط الجديد، ربما لن تكون الحسابات النووية السعودية مرهونة بما يحدث في البرنامج النووي الإيراني. حيث كان يُعتقد أن السعوديين سوف يحاولون مجاراة القدرات النووية الإيرانية ولكن على نحو متزايد، والآن، ربما تكون الأسلحة النووية ذات أهمية للنظام الملكي بغض النظر عما يحدث في الجانب الآخر من الخليج الفارسي.
كان القرن العشرين عصرا دمويا ومضطربا بالنسبة للشرق الأوسط، ومن المرجح أن يكون هذا القرن أكثر اضطرابا. الشرق الأوسط الآن هو مكان توجد فيه الدول الناشئة الفاشلة، والصراعات المسلحة، والصراعات الطائفية.
وهذه المرة، ربما لا يفلح تأثير القوة الأمريكية على المنطقة، بل من المرجح أن تمضي الدول المحلية قدما في التعامل مع صراعاتهم بطريقتهم الخاصة.
وقد قرر آل سعود القيام بتسوياتهم الخاصة في المنطقة المضطربة، والتخلي عن معتقداتهم الدفاعية التقليدية التي تعتمد كثيرا على الوجود الأمريكي. وفي حين يتطلع النظام الملكي إلى المنطقة، تكمن هناك أوقاتا مضطربة تنتظره.
كونسيل فورين – التقرير