في الخامس من تموز/يوليو الماضي ضجت مواقع الإنترنت بشريط لرجل يرتدي عباءة سوداء، كَث اللحية وعلى رأسه قلنسوة ذات لون أسود. اعتلى منبر الجمعة بخطى متأنية وحيا جموع المصلين، وبلهجة صارمة حث أبو بكر البغدادي الحاضرين على قتال من أسماهم “أعداء الله” و”مجاهدة المشركين”.
لاحقا، سيكون ذلك الرجل وتنظيم “داعش” الشغل الشاغل للأجهزة الأمنية وغرف العمليات العسكرية في العديد من دول العالم، مقابل اختفاء تدريجي لرجل آخر هو أيمن الظواهري وانحسار تنظيمه (القاعدة) من الساحة ودائرة الاهتمامات الدولية.
وبعد مرور ما يزيد عن تسعة أشهر على إعلان البغدادي، تطرح أسئلة كبيرة عن أسباب اختفاء القاعدة أو تراجع دورها، مقابل بروز لافت وقوة متزايدة لتنظيم الدولة الإسلامية. وتحيط بتلك الأسئلة علامات استفهام كبيرة حول سر جاذبية داعش للمقاتلين بمن فيهم مقاتلو القاعدة سابقا.
اختفاء وظهور
يعتقد المختص في شؤون الجماعات الجهادية خالد الشكراوي أن مقتل أسامة بن لادن تسبب في تآكل تنظيم القاعدة، ولاحقا بدأ هذا التنظيم في التلاشي سواء بسبب انقسامات داخلية أو بسبب الحصار المادي الذي فرض عليه وتخلي الكثير من المؤسسات والأشخاص الذين كانوا يمولونه عن تحويل الأموال لصالحه. وحتى إن حولت تلك الأموال فإنها، حسب المتحدث ذاته، تصل بطريقة بطيئة جدا ومعقدة للغاية.
إلى هذه الأسباب يضيف الخبير العسكري واللواء المتقاعد عبد الجليل معايطة، في تصريح لموقع “راديو سوا”، تشتت جهود القاعدة وبالتالي ضعفها عسكريا. فالقاعدة، يقول معايطة، كانت تسعى لفرض وجودها في مناطق متباعدة من العالم دون التركيز على بلد بعينه، وهذا كان خطأ في حد ذاته استفادت منه داعش، كما يقول.
ويعتقد هذا الخبير العسكري أن تنظيم داعش ركز كل جهوده على بلاد الرافدين وسورية، مع الحرص على ربط الصلة بتنظيمات أخرى دعاها إلى مبايعة “الخليفة” أبوبكر البغدادي.
وفي هذا السياق، يرى الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، عبد الجبار المنار السليمي، أن سر ظهور داعش بقوته الحالية هو أنه “أصبح يفكر بما يمكن أن نسميه دولة حتى لو كانت افتراضية، القاعدة لم تفكر بدولة، بل بمخطط استراتيجي، ركز داعش منذ البداية على بناء دولة ووجد ظروفا ساعدته على ذلك”، حسب تعبيره.
ويعدد السليمي ثلاثة أساب يقول إنها عجلت باختفاء القاعدة ومهدت الطريق أمام ظهور أعلام داعش. يرتبط أول هذه الأسباب بـ”المراحل الانتقالية الثقيلة التي عاشتها القاعدة في أواخر عهد بن لادن”، وتَحوُلِ هذا التنظيم “إلى مجرد فكرة”، إضافة إلى كون التنظيم فقد الصلات التي كانت تربطه بالتنظيمات الموالية له، فانعدم التواصل، حسب رأيه، بين القاعدة الأم وبقية التنظيمات التي ستبحث لاحقا عن تنظيم أقوى لم يكن سوى داعش.
النزوح من القاعدة إلى داعش
الاحتياطات المالية الكبيرة وتوفر موارد التمويل وعلى رأسها الحقول النفطية التي سيطر عليها داعش في سورية والعراق كانت من أبرز عوامل الإغراء التي حولت داعش إلى ما يشبه “مغناطيسا” جَذَبَ العديد من التنظيمات والمقاتلين الذين كانوا يدورون في فلك القاعدة وفق رأي الخبير العسكري عبد الجليل معايطة.
إضافة إلى ذلك، يعتبر معايطة أن الصراع السوري غطى على داعش في بداياته وسمح له باستقطاب العديد من المقاتلين الذين وجدوا في محاربة القوات النظامية السورية “جهادا” كانوا يحلمون به.
ويرى رئيس المجموعة العراقية للدراسات الاستراتيجية واثق الهاشمي في حديث لموقع “راديو سوا” أن داعش توفرت فيه مقومات كان مقاتلو القاعدة يفتقدونها، فهذا التنظيم حسب رأيه “طرح نظرية دولة لم يطرحها تنظيم القاعدة. القاعدة لم تعلن دولة ولا ولايات ولا أنظمة، وداعش استمد قوته من نظرية سياسية قدمها وبدأت عمليات البيعة لأن التنظيمات رأت فيه التنظيم الأقوى فأنهت ولاءها للقاعدة وبايعت البغدادي”.
و اللافت أن “داعش” استطاع ان يجمع آلاف المقاتلين من كل أصقاع العالم تقريبا، وهو ما يسيمه خالد الشكراوي بـ”العالمية الجهادية”. هذا الفكر فتح الباب أمام أي راغب في “الجهاد” مهما كانت سنه أو جنسيته أو مستواه الاجتماعي أو الثقافي، وهو ما كان سببا رئيسيا في تدفق أعداد هائلة من المقاتلين إلى سورية والعراق، حسب قوله.
ويضيف الشكراوي أن هذا الفكر كان غائبا لدى القاعدة التي حصرت تقريبا مصادر المقاتلين في المنطقة العربية الإسلامية وأفغانستان ومقاتلين من الشيشان.
تحرص قيادات داعش على تقديم إغراءات كثيرة لمقاتليها كان لها الدور المؤثر في تقاطرهم على العراق وسورية حسب رأي المنار السليمي ” فكل مقاتل ينضم للقتال إليهم سيجد ما يبحث عنه من الجهاد والزواج والحب والرومانسية، وهذه عوامل الجذب كانت غائبة عن القاعدة”.
فضلا عن ذلك فإن ظروفا كثيرة كانت تمهد لتخلي مقاتلين كثر عن القاعدة، ولم يكن ينقصهم، حسب السليمي، سوى وجود من يبايعونه، فقد كان هناك الكثير ممن تمردوا على القيادة المركزية للقاعدة وبدأوا في “النزوح” نحو تنظيم البغدادي ليس بسبب الإغراءات المادية فقط بل “بسبب خلافات ستنتجها مراجعات فكرية لبعض العناصر والتحاق البعض الآخر بمسلحي داعش”.
خلافات أم اختلافات؟
فجر إعلان أبو بكر البغدادي لتنظيم الدولة الإسلامية دون استشارة القاعدة خلافا مع قيادتها المركزية، وهكذا أمر زعيمها أيمن الظواهري في شريط صوتي بإلغاء هذا الإعلان واعتبار الدولة الإسلامية فرعا تابعا للقاعدة. وعمق الشريط الخلافات بين الطرفين بعد رفض البغدادي لما جاء في كلام الظواهري. أعقب ذلك سجال إعلامي بين الطرفين سلاحه الأشرطة المسجلة.
ووصل الخلاف ذروته حين اندلعت معارك عنيفة بين جبهة النصرة (فرع القاعدة في سورية) وداعش مطلع سنة 2014 أدت إلى مقتل المئات من الطرفين، وانتهت بسيطرة مسلحي التنظيم على أجزاء مهمة من محافظة دير الزور شرق سورية.
ستكون هذه المعارك بداية لقطع كل صلات القاعدة مع داعش ووصف تنظيم أبوبكر البغدادي من قبل أيمن الظواهري بأنه “متوحش”.
يبرر واثق الهاشمي وجود هذه الخلافات بسعي القاعدة إلى السيطرة على كل التنظيمات المتشددة بما فيها داعش، ورغبة كل طرف في السيطرة على موارد التمويل وبسط نفوذه على التنظيمات الصغيرة.
أما من الناحية الفكرية فلا يجد السليمي أي اختلاف في المرجعية الفكرية للتنظيمين فكلاهما حسب رأيه “ينتميان لنفس الأصول المرجعية الأيديولوجية، بمعنى أن من يعود لتتبع مسار كل الحركات المتشددة في العالم العربي سيجد أن الأصل واحد”. ويوضح تلك المرجعية في تصريح لموقع “راديو سوا” بكون تلك التنظيمات تمثل حركات سنية، تنهل جميعا من فكر ابن تيمية، ليخلص إلى أن “المرجعية في نهاية المطاف واحدة”.
لكن السليمي يؤكد بالمقابل وجود اختلافات في طريقة التنظيميين من حيث ارتكاب ما يصفه بـ “الفعل الإرهابي”، فداعش، في نظره، يتعامل بمنطق الدولة أي أن له أرضا يدافع عنها ويحاول السيطرة على أراض أخرى، عكس القاعدة التي “تعتمد أسلوب التفجيرات والعمليات الانتحارية، ولم تفكر بمنطق الدولة بل بمنطق التنظيم”، على حد وصفه.
و من الناحية العسكرية، يعتقد اللواء عبد الجليل معايطة أن داعش يستخدم عقيدة قتالية أقرب إلى عقيدة الجيوش النظامية، إلا أنه يحصر ذلك في سورية والعراق، أما في بقية الدول فلا يرى المعايطة أي فرق في العقيدة العسكرية للتنظيمين فكلاهما يركز على أسلوب التفجيرات والعمليات الانتحارية المفاجئة.
عنفار ولد سيدي الجاش