ليست عوالم السياسة هي الوحيدة التي بوّأت تونس سمعة في المنطقة المغاربية والعربية بعد تنظيمها انتخابات حرّة وصياغتها دستورًا ديمقراطيًا وتجاوزها مرحلة إسقاط النظام بأقلّ الأضرار الممكنة، وليست عوالم السياحة من منحت لوحدها تونس شهرة فريدة في المنطقة بفضل جوّها الصحو وتنوّع مناظرها، بل بنت تونس مثالها المتفرّد بين جيرانها وهي ترّخص للدعارة وتمنح ممتهناتها ألقاب: بائعات هوى.
في الكثير من أقطار المنطقة، يمَارس البغاء في الخفاء بتستر السلطات التي تعلم أنّ نسبة كبيرة من قاصدي بلدانها لا يبحثون عن شواطئها أو صحاريها أو جبالها، بقدر ما يبحثون في تضاريس بناتها عمّا يشبع مكبوتاتهم الجنسية، هي بلدان تلبس رداء العفة والشرف جهرًا بينما تعقد الصلح مع الرذيلة سرًا.. أما تونس، أكثر البلدان العربية تبنيًا للعلمانية إلى جانب لبنان، فيمكن لأيّ كان، ممارسة “حق” النكاح، بمجرّد أن يخرج بأمتار قليلة من شارع الحبيب بورقيبة، أشهر أحياء العاصمة.
بعد الغوص في منعرجات المدينة القديمة التي تحتضن سوقًا يجلب الآلاف من الزوار، تبدأ المحلّات التجارية في التقلّص، إلى أن تصل إلى باب مصبوغ بالأزرق يفضي بك إلى نهج عبد الله قش، أشهر أزقة الدعارة في العاصمة. المشهد لا يختلف كثيرًا عن أزقة الدعارة التي كانت تنتشر في مدن مغربية متعددة.. نساء في عقودهن الثانية أو الثالثة أو حتى الرابعة، بملابس قصيرة تبرز مؤهلاتهن الطبيعية، يضعن غرامات من الماكياج بطريقة اعتباطية على ملامحهنّ الباهتة، لا يبدو أنهنّ على استعداد لاهتمام أكبر بزينتهن، ما دام الزبون لا يبحث عن أحمر الشفاه أو كحل العين بقدر ما يبحث عن أشياء أخرى.
روائح أعواد الند تزكم المكان، تختلط بروائح قذرة منبعثة من بالوعات الصرف الصحي، أغاني راي رديئة تحتل الأجواء، وشباب وشيب يتجوّلون بحثًا عن تلك التي تمنحهم جرعة من المتعة. الزقاق ضيق بالكاد تستطيع المرور فيه دون أن تحتك مع القادم من الجهة الأخرى، وكثيرًا ما تستفيد بائعات الهوى من ضيقه فلا يجد زبون محتمل ما الفرصة ليهرب من لمساتهن. الشقق أكثر ضيقًا إذ لا تتجاوز أوسعهنّ 50 مترًا مربعاً، تقسّم إلى أربعة غرف، لكل واحدة ملكتها الخاصة. كما أن الزقاق يحتضن شققًا عبارة عن غرف واحدة، تقسم بعناية إلى سرير ومرحاض ومرآة وكرسي للتجميل، ومساحة صغيرة لخلع وارتداء الملابس.
لا يعني أن توجد امرأة ثلاثينية أو أربعينية عند الباب، غيابًا مطلقًا داخل الشقة لمن لا تزال في عقد العشرينيات، إذ تضطلع تلك الواقفة في الزقاق بمهمة جلب الزبون وإقناعه بوجود من يصغرنها سنًا في الداخل. إلّا أن هذه الحالة لا تهمّ كل شقق الزقاق، بل هناك شابات في مقتبل العمر يقفن في الواجهة بحثًا عن جلب الأعين واقتناص الأفئدة، كما أن هناك من الزبائن من لا يجد غضاضة من انتظار انتهاء “بريئة” ما من مهمتها، دون أن يعبأ بمغازلات جاراتها اللائي يغبطنها على حظها الكبير.
بأثمنة تتراوح ما بين سبعة دينارات و15 دينارًا (35-75 درهما)، تمارس بائعات الهوى مهنة يشرّعها القانون التونسي منذ بدايات عهد بنعلي، إذ لم يتسبّب وصول حركة النهضة الإسلامية إلى السلطة استمرار هذا العمل، فتقنين الدعارة ليس صفة للنظام القديم، بل “مكتسبًا” لهؤلاء النسوة اللائي يرفضن وصف “عاهرات”، مبرزات أنهن عاملات جنس.. فإن كان الواحد منا يعمل بدماغه والثاني بيده والثالث بقدمه، فهنّ يعملن بمناطقهن الحساسة.. المهم أنه عمل وكفى!
بيدَ أن الغريب في هذا الزقاق، هو احتواؤه كذلك للمثليين، فإن كانت هذه الممارسة غير مشروعة في القانون التونسي، فإن ذلك لم يمنع البعض منهم من التجوال في الزقاق، بحثًا عن زبائن معيّنين يرافقوهم بعيدًا عن أنظار الشرطة التي تحرس المكان، أو حتى إلى داخل شقة معيّنة في لحظة مسروقة من الزمن. تكتشف وجود هؤلاء بالأقراص التي تزيّن حواجبهم، أو حتى غمزهم لك إذا وقعت عيناك صدفة على وجوههم، أو بالروائح النسائية التي تبلّل ملابسهم.
لا حظ لك لالتقاط صورة، فأيّ حركة مشبوهة قد تجعلك فريسة لحراس الزقاق، رجال شداد غلاظ يكتريهم الباطرون أو الباطرونة حماية للعاهرات، أو تؤدي بك إلى اعتقال ومساءلة من الشرطة. نادرًا ما التُقطت صُوّر داخل هذا المكان، وحتى تلك الفيديوهات القليلة التي التقطها صحفيون ومهتمون، تعود إلى كاميرات خفية مدسوسة بإتقان وسط الملابس، فـ”عبد الله قش” لا يريد لأجواء الحنان داخله أن تشيع في العالم، إنما يريد الحفاظ عليها ككتاب مغلق لا يقرأه إلّا من تجشم عناء زيارة جدرانه.
تقتات العاهرات هنا مع العمال البسطاء أو شباب المناطق الفقيرة أو أولئك القادمين من نواحي العاصمة، فعدم تجريم القانون التونسي للعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، وتسامح المجتمع التونسي مع العلاقات الحميمية بين الشباب والشابات، أمران أساسيان يجعلان مهنة “بائعة الهوى” غير مربحة كثيرًا هنا خلافًا لما عليه الأمر في مناطق أخرى من العالم، ورّبما أنه لولا زيارات الأجانب للمكان، خاصة القادمين من ليبيا، لكسدت تجارة الجسد هنا، وانخفضت إلى ما تحت السبعة دنانير.
في هذا الزقاق المملوك للدولة التونسية التي تكتري شققه لرجال ونساء “البيزنيز الجنسي”، تجبر المرّشحة للعمل على القيام بكشوفات صحية، وبعدها تمرّ على وزارة الداخلية كي تستصدر ترخيصًا بمزاولة المهنة، كما تستفيد من دورات للمتابعة النفسية وحملات الرعاية الاجتماعية. وأكثر من ذلك، لديها الحق في العطلة الأسبوعية والسنوية.. فكي تحافظ السلطة على الرمزية الدينية ليوم الجمعة ولشهر رمضان، مكّنت العاهرات من حق الراحة وربما حتى حق التعبّد..فالله أعلم إن كنّ من المحافظات على حضور صلاة الجمعة أو صوم الشهر الفضيل!
لا أحد يعرف بالضبط كيف تحوّل اسم ولي صالح شهير بالعاصمة إلى مرادف لأشهر زقاق للبغاء فيها.. تقع الثورة أو لا تقع، الزقاق مستمر في تقديم خدماته دون اكتراث بتبدّل أحوال السياسة ودون خوف من تونس جديدة كثرت فيها الحركات المتشدّدة. كما لو كنّ موظفات في القطاع العام، تبدأ عاهرات “عبد الله قش” العمل مع الساعة التاسعة صباحًا وتنهينه في الساعة الرابعة بعد الزوال. بل هنّ موظفات عند الدولة، هنّ جزء من مواردها البشرية، وربما حتى كفاءاتها.. وُجودهن تحصيل حاصل عند شعب يفكّر في تدبير أفضل لهزات ثورة الياسمين الارتدادية.
هسبريس – إسماعيل عزام