في الصباح الباكر من يوم الاثنين 16 مارس/أذار تلقت القوات المسلحة الأردنية أمرا مفاجئا بوضع الوحدات في شمال البلاد في حالة تأهب. بدأت القوات تتحرك على المحور الذي يربط إربد والمفرق. لم يكن هناك أي تفسير رسمي لهذا التحرك أو أسباب معلنة لذلك. ولكن على الأرجح، تعكس الخطوة حالة العصبية الموجودة لدى القادة العسكريين الأردنيين بشأن التركيز العالي من القوات الشيعية الإيرانية و«حزب الله» والقوات الأجنبية على الجانب الآخر من الحدود بين الأردن وسوريا، وهي القوى التي كانت تقترب أكثر فأكثر من الأراضي الأردنية.
وقبل أسبوع تقريبا من تلك الخطوة، وتحديدا في 7 مارس/آذار زار وزير الخارجية الأردني «ناصر جودة» طهران دون أي إعلانات مسبقة. وحافظ الأردن على مستوى عال من السرية حول تفاصيل الزيارة غير المتوقعة. وأصدرت وزارة الخارجية بيانا مقتضبا قالت فيه إن جودة سلم الرئيس الإيراني «حسن روحاني» رسالة مكتوبة بخط اليد من الملك «عبد الله الثاني». وتلقت وسائل الإعلام الأردنية طلبا من وزارة الإعلام بالتقليل من شأن هذه الزيارة.
أربعة أسباب
ولمعرفة ما يحدث في الواقع، ينبغي على المرء قياس وتقييم الحالة الذهنية للأردن عندما يتعلق الأمر بعلاقاتها مع طهران. هناك أربع نقاط تحدد وجهة النظر الأردنية حول هذا الموضوع في الوقت الحاضر.
الأول هو قلق الأردن من التمركز الكثيف للقوات الموالية لإيران القريبة جدا من حدودها. وسوف تتحرك عَمان للتأكد من أن طهران تحس بالفعل بقلق الأردن، ومن ثم تحاول الأخيرة الحصول على تأكيدات بشأن نواياهم، وخاصة منذ ظهور هذه القوى لتكون هناك لفترة طويلة.
والثاني هو محاولة فتح حوار بين الدول السنية العربية، ما يعمل على تقليص التوسع الإيراني المستمر في المنطقة. وهناك توقع بين العرب أن الإيرانيين سوف يكثفون سياسة التدخل الإقليمي في حال تم التوصل إلى اتفاق نووي.
والثالث تقديم التوصيات المتعلقة بالنهج الإيراني إلى السكان السنة العراقيين من أجل تجنب تدهور الوضع الأمني في تلك المنطقة من العراق. وأسفرت المواجهات السابقة في العراق عن مشاكل تتعلق بالأمن واللاجئين في الأردن.
والرابع هو استكشاف إمكانية «التعاون في مجال الطاقة» كما وعد الإيرانيون قبل بضع سنوات مضت، والتي جمدتها طهران بسبب التحالف القوي بين عمان ودول مجلس التعاون الخليجي.
ويبدو أن العنصر الأول والثاني في هذه القائمة، من الممكن وصفهما بالأكثر إلحاحا، سببهما وجود القوات الإيرانية على الجانب الآخر من الحدود، والجهود المبذولة لوساطة بين طهران والعواصم العربية السنية.
وفي حين أن جزء من هذه المخاوف كانت موجودة لبعض الوقت، فإن زيارة «جودة» الأخيرة تعبر بالتأكيد عن تغيير جذري في موقف عمان بشأن تلك المخاوف. وهذه هي الزيارة الأولى لمسؤول أردني رفيع المستوى إلى إيران منذ ثماني سنوات.
وزار وزير الخارجية الإيراني «محمد جواد ظريف» عمان في يناير/كانون الثاني من العام الماضي. وفي المؤتمر الصحفي لـ«ظريف» ونظيره الأردني مارس/آذار الجاري، انتقد «جودة» بشدة إيران لاحتلالها ثلاث جزر تابعة الإمارات العربية المتحدة في الخليج. وأشار «ظريف» في وقت لاحق مازحا «اعتقدت للحظة أنه وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة».
ورغم التأكيدات الإيرانية بأن قواتها في سوريا ستكون رمزية بشكل مستمر، إلا إن زيارة «جودة» ورسالة الملك «عبد الله الثاني» لـ«روحاني» في الواقع كان لهما نقطة مركزية واحدة، وهي التوصل إلى أساس تفاهم لوقف التصعيد الإقليمي بين إيران وجيرانها الإقليميين. وقد نوقشت خطة نزع فتيل التصعيد مع العاهل الأردني في زيارته الأخيرة إلى واشنطن الشهر الماضي. وكانت تلك الزيارة مختلفة عن زياراته السابقة للولايات المتحدة في جانب رئيسي واحد، وهو أن العاهل السعودي الملك «عبد الله» ليس معنا من الآن فصاعدا. هدف خطة وقف التصعيد هو تخفيف التوتر الإقليمي، وتحسين البيئة الأمنية، وعدم تصعيد الاستقطاب الطائفي الذي يهدد المنطقة باندلاع حرب دائمة.
لقد تم تصميم هذه الخطة، الموضوعة في واشنطن، بطريقة محسوبة ومدروسة. ولقد استوجبت، بشكل صحيح في الواقع، أن أي عملية وقف تصعيد إقليمي لابد لها أن تبدأ إقليميا، وإن أي دور عام للولايات المتحدة من شأنه أن يعقد الأمور أكثر. ومن وجهة نظر واشنطن، فإن المآسي في المنطقة تنبع من مصادر متعددة ومعقدة، وفي القلب من ذلك التوتر المتزايد بين إيران والدول العربية السنية. وكان من الواضح أيضا أن أي تثبيت وإعلان لصفقة نووية مع إيران، حال تم التوقيع على الصفقة، سوف يتطلب بيئة إقليمية مواتية. وفي حالة عدم توقيعها، فإن محاولات إفشال الصفقة قد تؤدي إلى حرب إقليمية من شأنها أن تجعل من المستحيل استمرار التزام الولايات المتحدة باتفاقاتها مع الإيرانيين. لذلك، كان من المتفق عليه إبقاء أي جهد في هذا الصدد بعيدا عن أنظار الرأي العام للحد من محاولات العرقلة التامة.
و خلال زيارة العاهل الأردني للمملكة العربية السعودية في أواخر فبراير/شباط، أعطى مسؤولون سعوديون إشارة حذرة بالموافقة على المبادرة «الأردنية».
ولم يتم تسريب أي تفاصيل عن مضمون زيارة الملك «عبد الله الثاني». ولا نعرف طبيعة الرد الإيراني، أو هل ردت طهران حتى الآن أم لا. ولكن انطلاقا من مناسبات سابقة، فإن الإيرانيين عادة ما يرحبون بأي انفراجة، أو أي تأكيد للعلاقات الأخوية مع جيرانهم، كما يميلون إلى أخذ وقتهم للتفكير في رد فعل حقيقي، وربما اقتراح عملية مفاوضات طويلة بينما هم يسعون لتحسين وتوسيع نطاق نفوذهم في الشرق الأوسط.
هل هناك فرصة لنجاح المبادرة الأردنية؟
يتجلى الصراع بين المفاهيم النظرية والواقعية في هذه الحالة بشكل واضح للغاية داخل الدولة في تأهب القوات المسلحة الأردنية صباح 16 مارس/آذار، بعد أسبوع من رسالة الملك للرئيس «روحاني».
وسوف يتم تشكيل الموقف الإيراني تجاه النهج الأردني، على الأرجح، بناء على النظرة الحالية في طهران للقضايا التي تبدو على المحك. وتخلق الانتصارات الإيرانية الأخيرة في المنطقة (العراق وسوريا واليمن) حالة من النشوة وإحياء الطموحات الإقليمية التي لا تعرف سقفا. وتساعد هذه الانتصارات المتشددين الإيرانيين، كما تحيي الشعار القديم المتعلق بتصدير الثورة. كما أنها تعزز يد الحرس الثوري الإيراني بشأن المسائل المرتبطة بسياسات طهران الإقليمية. لقد أصبح «قاسم سليماني» رمزًا في طهران في الوقت الحاضر.
ويبدو أن العرب السنة، بما في ذلك الأردن، يفهمون ذلك جيدا. في سوريا، على سبيل المثال، عكست قنوات الاتصال الأردنية مع المعارضة السورية في جنوب سوريا مصدر قلق حقيقي في عمان بسبب الوجود الكبير لسرايا القدس الإيرانية والمليشيات الأفغانية والباكستانية والطاجيك و«حزب الله» الشيعي قرب الحدود.
وهرع الأردنيون لاستكشاف خيارات إنشاء قوة عازلة بين هذه القوات وقواتهم الخاصة. وكانت هناك اتصالات محمومة مع جماعات المعارضة السورية للحصول على مزيد من المعلومات حول انتشار القوات الموالية لإيران. لقد حدث كل هذا بعد الزيارة الإيرانية لـ«جودة»، وليس قبلها.
وفي الوقت الذي كان فيه وزير الخارجية الأردني في طهران، فإن المسؤولين الإيرانيين، كما هو متوقع، أكدوا له أن هذه القوات التي تتجمع من وقت لآخر ليست إلا للحفاظ على إبقاء ممر المساعدة مفتوحًا لحزب الله في جنوب لبنان، وليس فيه أي مخاطر أو أضرار على الأردن.
ولكنها منطقة الشرق الأوسط حيث تتحدث الأسلحة دائما. إذا كان الايرانيون يؤسسون لوجود عسكري قوي بما فيه الكفاية في جنوب سوريا كما يظهر من صنيعهم في الوقت الراهن، فإنهم قد يستخدمون ذلك في مكان ما في وقت لاحق تحت أي سيناريو، ومثل هذه الاضطرابات داخل المملكة كافية بدرجة كبيرة لجذبها. وهذا قد يفسر تحركات الجيش الأردني في 16 مارس/آذار. وكان القوات الموالية لإيران لا ترفع عدد أفرادها ولا تسليحها، ولكنها باتت قريبة جدا.
فرصة ضعيفة
محاولة الملك «عبد الله الثاني» لوضع مفهوم للمصالحة الإقليمية على الطاولة في المنطقة هي خطوة شجاعة. وفي الوقت ذاته هي خطوة ضروروية ومطلوبة. ومن الملاحظ أن جماعة الإخوان المسلمين في الأردن لا تعارض هذه الخطوة. (عانت الجماعة مؤخرا انقساما داخليا، كما تلقت تعليمات ملكية بعدم التعليق على زيارة جودة لطهران).
لكن بالإضافة إلى ذلك، إذا تفاعل العرب بشكل إيجابي مع تحركات الأردن في السياق الحالي للتوسع الإيراني في سوريا والعراق واليمن، فإنهم يخاطرون بخلق تصور أنهم يستسلمون، ما قد يثير رد فعل عنيف من السنة المتشددين (وهذا العامل يفسر جزئيا سبب التقليل من حجم وأهمية زيارة جودة إلى طهران). وهذا من الصعب تحقيقه من دون تنازلات إيرانية في اليمن والعراق وسوريا.
ولكن هذه التنازلات من الصعب وجودها عندما يعتقد الإيرانيون أنهم يعيشون حاليا حلقة من تاريخ الإمبراطورية الذهبية الخاصة بهم. لقد أنشأوا تقريبا طريقا مفتوحا من طهران إلى البحر الأبيض المتوسط، وذلك بفضل سياستهم الحالية المتمثلة في توفير الأسلحة والقوات لأي طرف إقليمي على استعداد للانضمام إلى ناديهم، فضلا عن كونهم على وشك الجلوس مع العالم للتوقيع على الاتفاق الذي يسمح لهم باستمرار أجزاء مهمة من برنامجهم النووي.
ومن الصعب تقييم فرص نجاح جهود نزع فتيل التصعيد التي يقوم بها الملك «عبد الله». ورغم ذلك، فإن الشيء الوحيد الواضح هو أن الملك يسبح ضد تيار القوة الموضوعي الذي يتشكل في المنطقة الآن. وكانت هناك فرصة أفضل لمحاولة تهدف إلى التوصل لانفراجة إقليمية في ربيع العام الماضي. ولكن السياق الحالي ليس موات لمثل هذه الانفراجة الآن. ما الذي يدفع إيران لتتخلى عن مكتسباتها أو يقودها إلى إلغاء خططها التوسعية؟ لقد ثبت افتراض أن الدبلوماسية يمكن أن تعمل من دون قاعدة قوة الحسابات الضمنية فشله مرارا وتكرارا.
ولكن هل ينبغي إمداد الملك «عبدالله» بكل مساعدة ممكنة؟ بالتأكيد وبدون أدنى شك. وما الذي سوف يحدث؟ ربما تحدث معجزة تجعل الإيرانيين يغيرون من حساباتهم. إنه عصر المعجزات بكل تأكيد. من يصدق أن الدبلوماسية المعلقة وحدها في الهواء من دون العصا أو الجزرة يمكنها أن تذهب فقط لتقديم ورقة التوت لأولئك الذين لا يملكون إرادة ولا فكرة.
سمير التقي وعصام عزيز، ميدل إيست بريفينج