في الثالث عشر من شهر سبتمبر 1965، عُقد في الرباط بالمغرب، مؤتمر القمة العربية، الذي كان تحت رعاية العاهل المغربي، حسن الثاني.
الزعماء العرب توافدوا إلى المكان، ولكنَ أحدًا منهم لم يكُن يعلم أن الموساد الإسرائيلي، الاستخبارات الخارجية، أقام له فرعًا في المغرب، بموافقة الملك، وأنه كان يتجسس من هناك على الدول الأعداء لإسرائيل، وفي مقدمتها مصر، التي كان يقودها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
اليوم، بعد مرور ستين عامًا على القمة العربية، سمحت الرقابة العسكرية الإسرائيلية بنشر التفاصيل الكاملة عن العلاقات السرية بين الموساد والمغرب، التي بدأت في أوائل الستينيات من القرن الماضي، على خلفية طلب المغرب من إسرائيل تقديم المساعدة للمغاربة في تصفية المُعارض المغربي المشهور، المهدي بن برقة.
قبيل انعقاد القمة العربية في الرباط، كشفت اليوم الجمعة صحيفة (يديعوت أحرونوت) الإسرائيلية، في تقريرٍ مطولٍ ومُفصلٍ، كشفت أن العاهل المغربي أمر بتخصيص جناحٍ كامل من الفندق الذي عُقدت فيه القمة العربية لرجال الموساد الإسرائيلي، لكي يتمكنوا من توثيق وقائع المؤتمر، الذي كان مغلقًا في قسمه المُهم، ولكن في اللحظة الأخيرة، أصدر الملك تعليماته بإلغاء الخطة، خشية اكتشاف أمر تواجد رئيس الموساد، مئير عميت ورجاله في الفندق.
ولكن عدم وجود الموساد داخل قاعة المؤتمرات لم تُقلل من أهمية الحدث ومن تداعياته. واستنادا لرئيس الموساد آنذاك، الذي تحدث للصحيفة، فبُعيد انتهاء المؤتمر، حصل الموساد الإسرائيلي على جميع المعلومات والوثائق والمستندات والخطابات التي أُلقيت في المؤتمر. ولفت في سياق حديثه إلى أن القضية الأكثر خطورةً، والتي كُشف النقاب عنها، كانت تتعلق باستعدادات الجيوش العربية لمحاربة إسرائيل.
وزاد قائلاً: عندما حصلنا على الوثائق تبين لنا أن جميع قادة الجيوش العربية أكدوا خلال إلقائهم لكلماتهم في المؤتمر على أن الجيوش العربية ما زالت بعيدة عن أنْ تكون جاهزةً ومُستعدةً لخوض الحرب ضد إسرائيل. وشدد في سياق حديثه على أن هذه المعلومات كانت بالنسبة لإسرائيل أكبر كنز إستراتيجي، حيث قام الموساد، الذي يتبع مباشرةً لديوان رئيس الوزراء، بتزويد المستوى السياسي بالمعلومات القيمة عن عدم استعداد الجيوش العربية للمُواجهة العسكرية.
وقالت الصحيفة الإسرائيلية أيضًا، نقلاً عن بروتوكولات الحكومة الإسرائيلية آنذاك وشعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي (أمان) والموساد، إن هذه المعلومات كانت السبب الرئيسي في اتخاذ إسرائيل القرار بشن الحرب على الدول العربية في حزيران (يونيو) من العام 1967 وإلحاق الهزيمة النكراء بكل من مصر وسورية والأردن.
وبحسب البروتوكولات عينها، التي سمحت الرقابة العسكرية الإسرائيلية لمعدي التقرير الصحافيين الاثنين، رونين بيرغمان وشلومو نكديمون، فإن صناع القرار في تل أبيب، قرروا استثمار المعلومات في أسرع وقتٍ ممكنٍ لإلحاق الهزيمة بالجيوش العربية وإذلال الرئيس المصري آنذاك، المرحوم جمال عبد الناصر.
كما كشف التقرير الصحاف، الذي استند أيضًا على مقابلات شخصية مع قادة الموساد في ذلك الحين، عن أن العلاقات بين المخابرات الإسرائيلية والفرنسية كانت في ذروتها، وأن الفرنسيين سمحوا للموساد بإقامة فرع له في باريس، ومن الناحية الأخرى، قام الموساد بمساعدة الفرنسيين في تصفية قادة الثورة الجزائرية لطرد المُستعمرين الفرنسيين.
وتابع التقرير قائلاً إن المغرب قدمت الغالي والنفيس للموساد الإسرائيلي بهدف الحصول على مساعدته في العثور على المُعارض المشهور مهدي بن برقة وتصفيته. وفعلاً، قال التقرير، قدم الموساد المساعدة، على الرغم من تباين المواقف بين رئيس الوزراء في ذلك الحين، ليفي إشكول، ورئيس الموساد، مئير عميت، ذلك أن تل أبيب خشيت من أنْ يعرف الفرنسيون بأن إسرائيل تُشارك في تصفية معارض مغربي على الأرض الفرنسية، وبذلك تخرق خرقًا فظا السيادة الفرنسية.
وعلى الرغم من المُخاطرة، أضاف التقرير الصحافي، فإن الموساد ساهم في قتل المهدي بن بركة في باريس، حيث قام بتزويد ضباط المخابرات المغربية، الذين نفذوا عملية القتل في 29 أكتوبر 1965 بجوازاتٍ سفرٍ مزيفةٍ، وبعد أن دفنوا بن برقة في إحدى حدائق باريس، قام المغاربة بسكب مادة كيميائية على جثثه، حصلوا عليها من الموساد، والتي تؤدي إلى إتلاف الجثة بسرعةٍ قصوى.
الرئيس الفرنسي في ذلك الحين، شارل ديغول، لم يكُن على علم بعملية القتل السياسي على أراضيه من قبل أجهزة المخابرات الإسرائيلية والمغربية، ولكنه عندما علم، أمر فورًا بتفكيك الجهاز السري، الموازي للموساد الإسرائيلي، كما قطع علاقاته مع المغرب نهائيًا. وبحسب التقرير، فإن هذه القضية ما زالت تُلقي بظلالها السلبية على العلاقات الفرنسية-المغربية.
أما بالنسبة للموساد الإسرائيلي، فقد أمر ديغول بطرد جميع عملائه من الأراضي الفرنسية وأغلق الفرع التابع له في باريس، وشددت الصحيفة الإسرائيلية، على أن طرد أفراد الموساد من فرنسا في ذلك الحين لم يكُن الطرد الأخير، بل كانت عمليات طرد أخرى، دون أن تُفصح عنها.
ولم يكتفِ ديغول بذلك، تابع التقرير الإسرائيلي، بل إنه قام خلال العدوان الذي شنته إسرائيل في العام 1967، بإصدار أمر حظر تزويد إسرائيل بالأسلحة والعتاد العسكري، وخصوصًا قطع الغيار للطائرات الفرنسية من طراز (ميراج)، التي كان سلاح الجو الإسرائيلي يستخدمها.
كما ذكرت الصحيفة أن الرئيس الفرنسي ديغول ألقى خطابًا في البرلمان الفرنسي في شهر نوفمبر من العام 1967، وقال فيه إن اليهود هم شعبٌ متسلط، واثقٌ من نفسه، ويشعر بفوقيةٍ كبيرةٍ مقابل الشعوب الأخرى، على حد وصفه.
وأشارت الصحيفة إلى أن انكشاف الأمر في ذلك الحين، كاد أن يُطيح برئيس الوزراء ليفي إشكول وبرئيس الموساد مئير عميت، حيث شُكلت عدة لجان تحقيق لدراسة تورط الموساد في اغتيال بن برقة، ولكن في نهاية المطاف، تقرر إخفاء الملف خشيةً من الفضائح في الداخل وفي العالم برمته، على حد تعبير أحد قادة الموساد السابقين.
وقامت الرقابة العسكرية الإسرائيلية بمنع نشرٍ كاملٍ عن القضية، وعندما حاول رئيس تحرير إحدى الصحف الإسرائيلية وكان اسمها (بول) نشر ما يعرفه عن القضية، زُج به في السجن من دون محاكمة، ولم تُنشر القضية حتى اليوم.
زهير أندراوس