في صباح يوم 22 فبراير، قاد أكثر من 500 جندي تركي إلى سوريا لاستخراج رفات سليمان شاه جدّ عثمان الأول، مؤسس الدولة العثمانية، من ضريح صغير على ضفاف نهر الفرات. وعلى الرغم من أن سليمان شاه لم يكن مشهورًا أو ذا شأن عظيم بقدر أسلاف الدولة العثمانية، إلا أن القبر أصبح جزءًا من تركيا وفقًا لمعاهدة عام 1921، وكان حراسه، من الناحية النظرية، على الأراضي التركية. ونظرًا لوقوعهم تحت حصار تنظيم الدولة الإسلامية لعدة أشهر، أصر رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، أن سحب الرُفات والحراسة على الضريح كان وسيلة لحماية الشرف الوطني.
وقال إن: “البلدان التي لا تهتم برموزها التاريخية لا يمكنها بناء مستقبلها“. وسارعت المعارضة، في الوقت نفسه، باتهام الحكومة بالتضحية بالأراضي التركية للمرة الأولى منذ ما يقرب من قرن.
يثير هذا التوغل في سوريا مخاوف طبيعية من أن تركيا الحديثة تنبش في ماضيها العثماني. وفي الواقع، ظهرت مثل هذه الاتهامات في بداية عام 1937، بعد 15 عامًا فقط من نهاية الإمبراطورية العثمانية، واستجابة لصراع إقليمي مختلف مع سوريا. ووفقًا للمؤرخة سارة شيلدز، فإن الكونت الفرنسي داميان دي مارتيل احتج بطيف العثمانية الجديدة عندما طالب كمال أتاتورك، أول رئيس لتركيا، بأن تتنازل فرنسا عن إسكندرونة (الآن محافظة هاتاي التركية الجنوبية) إلى تركيا، وعلى الرغم من ذلك، اعتبر القوميون السوريون أن ضم هذه المنطقة غير قانوني. مطلب أتاتورك، كما حذر مارتل في ذلك الوقت، كان دليلًا على أنه سيعود قريبًا إلى “سياسة السلاطين” ويبدأ في إعادة احتلال الشرق الأدنى.
من فترة الثلاثينيات إلى عام 2015، تهدد تركيا بخطاب عثماني جديد لدعم مجموعة من السياسات المختلفة والمتناقضة. يمكن أن تساعد دراسة تطور كيف اُستخدم هذا المصطلح في شرح السياسة الخارجية الراهنة لحزب العدالة والتنمية في منطقة الشرق الأوسط.
العقل فوق القلب
كانت السياسة الخارجية لـ أتاتورك محايدة إلى حد كبير وانعزالية. وباستثناء إسكندرونة، والنزاع مع المملكة المتحدة حول محافظة الموصل في العراق، رفض المطالبات التحرريّة للأراضي العثمانية السابقة. وشعر بالقلق إلى حد كبير بشأن حفظ ما أخذه من قبضة القوى الإمبريالية الغربية، وركز على إعادة بناء الدولة التركية والاقتصاد في الأناضول.
تغيرت هذه السياسة بشكل كبير، مع بداية الحرب الباردة. وكان الانضمام إلى حلف الناتو لمواجهة التهديد السوفيتي المتجدد، سياسة عثمانية جديدة خالصة؛ وطوال القرن التاسع عشر، كانت الإمبراطورية العثمانية متحالفة مع المملكة المتحدة، القوة العظمى الغربية البارزة آنذاك، لتحقيق التوازن ضد روسيا القيصرية. ومن خلال مبدأ ترومان، الذي قدّم ملايين الدولارات من المساعدات الاقتصادية والعسكرية لتركيا، أخذت الولايات المتحدة محل بريطانيا.
وليس مفاجئًا، أنه في السنوات الأولى من الحرب الباردة، احتج الدبلوماسيون الأتراك والأمريكيان بالتاريخ العثماني الطويل من الصراع مع روسيا للإلهام واستخدامه كدعاية. وقد أُشيد بالجنود الأتراك الذين يقاتلون في الحرب الكورية بأنهم أحفاد الإنكشارية، النخبة من فرقة المشاة في الجيش العثماني. وأُشيع أن أبطال الحرب العثمانيين انضموا لهم في ساحة المعركة. ولكن تجديد الخطاب العثماني أحدث بعض التعقيدات. ويخشى دبلوماسيون أمريكيون أن ذلك من شأنه إبعاد حليف تركيا الجديد، اليونان، وجيرانها من الدول العربية المستقلة حديثًا. وفي ذلك الوقت، كانت واشنطن تشجع تركيا لقيادة الشرق الأوسط، من خلال الطراز العثماني، في تحالف ضد السوفييت، ولكنها حذرت تركيا من التعامل بحذر؛ لأن الكثير من العرب لم يكن لديهم ذكريات جيدة مع الإمبراطورية العثمانية.
مع نهاية الحرب الباردة، انتشر مصطلح “العثمانيون الجدد”، في إشارة إلى التوعية، التي كان لها دوافع اقتصادية، من الزعيم التركي تورغوت أوزال من وسط آسيا -وهي منطقة لم تكن قط جزءًا من الإمبراطورية العثمانية.
ومن غير المرجح أن أوزال كان قلقلًا بشأن إعادة إحياء الماضي العثماني؛ فهو كان رجل أعمال، دافعه من توسيع النفوذ الإقليمي التركي هو تنظيم المشروعات، لتوفير الكثير من الفرص للمُصنعين الأتراك من أجل التصدير. وترجع النزعة العثمانية الجديدة عند أوزال إلى حماسته للسوق الحرة، والذي لم يكن مثالًا عثمانيًا. وفي الواقع، اعتمد أوزال على تفسير موالي للغرب للعثمانية نفسها، حتى إنه قارن بين السياسة اللامركزية الليبرالية الداخلية العثمانية وسياسة الولايات المتحدة.
على الجانب الصحيح من التاريخ
عندما جاء حزب العدالة والتنمية إلى السُلطة في عام 2003، واصل السياسات الاقتصادية لـ أوزال، واستمر العديد من المراقبين في استخدام مصطلح “العثمانية الجديدة” لوصف السياسة الخارجية الإقليمية، والتي تمحورت تجاه الشرق الأوسط في ظلل بحث تركيا عن أسواق جديدة لقطاعها الصناعي الديناميكي. وأدى الإحساس الجديد بالثروة، وكذلك الأمن الجيوسياسي، إلى سياسة خارجية أكثر ثقة، تتناسب بشكل جيد مع مصطلح العثمانية.
وفي الوقت نفسه، أدت الرؤية الإسلامية لحزب العدالة والتنمية واشتباكاته المتكررة مع صانعي القرار في أمريكا إلى استخدام “العثمانية الجديدة” بين النقّاد كاختصار للسياسة الإسلامية غير المحددة أو المُعادية للولايات المتحدة. وعلى مدى العقد الماضي، اتهم هؤلاء النقّاد حزب العدالة والتنمية باتباعه العثمانية الجديدة أو الإسلاموية كلما سافر الزعماء الأتراك في زيارات رسمية إلى أي مكان شرق أنقرة، حتى لو كانت البلاد شيعية، أو علمانية، أو في بعض الأحيان، وفي حالة روسيا، مسيحية.
ولكن أصبحت هذه السياسات مفهومة في ضوء اتساع المصالح الاقتصادية في تركيا، والذي قاد حزب العدالة والتنمية لتعزيز العلاقات مع الدول المُعادية للغرب، والتي تتيح في كثير من الأحيان فرصًا مربحة لرجال الأعمال الأتراك. هذا، في الواقع، هو الأسلوب الذي دفع رئيس الوزراء التركي آنذاك، رجب طيب أردوغان، لقضاء سنوات في محاولة التقرب من الرئيس السوري بشار الأسد، إضافة إلى طهران.
عند وصول الربيع العربي، فتحت السياسة الخارجية البراغماتية لحزب العدالة والتنمية الطريق إلىسياسة إسلامية على نحو متزايد. وفي لحظة فوضوية، مع عدم وجود نهج واضح أو منطقي للسياسة الإقليمية، انحازت تركيا مع مجموعة من الجهات الفاعلة الخاضعة للدولة وغير الخاضعة لها -في مصر وليبيا وسوريا، وغيرهم- التي تشاركها نفس النزعة الإسلامية السُنية.
ومن المفارقات، واحدة من أوضح تحولات حزب العدالة والتنمية تجاه الإسلاموية حدثت في ليبيا. عندما حدثت الثورة الليبية، وقف حزب العدالة والتنمية في البداية إلى جانب حكومة الرئيس الليبي معمر القذافي، وكان بينهما صفقات بمليارات الدولارات. ولكن بالنسبة لحزب يزعم أنه حزب ديمقراطي، أصبح التهكم من نهج السياسة الواقعية يسبب الكثير من الحَرَج للحزب. وبعد انضمامها للحملة الغربية ضد القذافي، حاولت حكومة حزب العدالة والتنمية البقاء على الجانب الصحيح من التاريخ من خلال الوقوف بقوة ضد نظام الأسد.
أدت معارضتها الجديدة للدكتاتوريين العلمانيين إلى زيادة دعم الحركات الإسلامية المُعارضة في مصر. وهناك، دعم حزب العدالة والتنمية الرئيس محمد مرسي وحزبه، الإخوان المسلمين -ومن خلال الاستمرار في تقديم الدعم بعد الإطاحة به في انقلاب يوليو 2013، أغضبت القادة العسكريين الجدد في مصر.
وكانت عواقب المصالح التركية وخيمة في سوريا. ولم يكن حزب العدالة والتنمية وحيدًا في رغبته في إسقاط الأسد. ولكنه كان الأكثر تهورًا، ودعم المتطرفين الذين أصبحوا في نهاية المطاف داعش، لأنه في ذلك الوقت، بدوا الأكثر وحشية لإنجاز هذه المهمة. وأصبح من الواضح أن الحكومة التركية قد أخطأت في حساباتها عندما اجتاحت قوات داعش السفارة التركية في الموصل. وبالتأكيد، لم يؤيد حزب العدالة والتنمية أيديولوجية أو وحشية داعش، ولكن صنّاع السياسة أساءوا التقدير واعتقدوا، مثل أردوغان، أن المسلم لا يمكنه ارتكاب جريمة إبادة جماعية.
استراتيجية “صفر مشاكل”
كشف الربيع العربي أيضًا عن سياسة “صفر مشاكل مع الجيران” التي تبناها وزير الخارجية آنذاك، داود أوغلو -الجوانب المثالية الأكثر براغماتية بطريقة يائسة في نهجه تجاه المنطقة. ومن هذه الناحية، كان من المعقول أن تكون على علاقة جيدة مع دول الجوار، وخاصة من أجل القيام بالأعمال التجارية. ومن ناحية أخرى، لا تزال العديد من البلدان في المنطقة لديها مشاكل مع تركيا، فضلًا عم المشاكل مع بعضها البعض.
يكمن نجاح داود أوغلو في البداية في جعل الهدف الطموح المتمثل في سياسة “صفر مشاكل” يبدو أكثر واقعية من خلال زرع جذور له في التاريخ العثماني، متحدثًا عن جهود تركيا في “الاندماج” مع جيرانها، على سبيل المثال، أو في “مسؤوليتها التاريخية” لبناء الاستقرار في الشرق الأوسط. أكد داود أوغلو على فكرة أن تركيا هي الجسر بين الشرق والغرب مع أفكار رومانتيكية عن التسامح العثماني. ومن خلال الرجوع إلى الماضي الذي حققت فيه الإمبراطورية الانسجام بين البلدان التي تحكمها، مهما كانت ديانتهم أو جنسيتهم، جعل من السهل أن نتصور أن تركيا كانت بمثابة وسيط بين خصومها مثل إسرائيل وسوريا أو أرمينيا وأذربيجان. وعندما نجحت العديد من سياسات داود أوغلو في البداية، زادت من جاذبية الخطاب العثماني.
وقامت أنقرة بخطوات هامة، على سبيل المثال، إلغاء متطلبات التأشيرة مع دول الجوار في البلقان والشرق الأوسط. وفي بعض الأحيان قارن القادة الأتراك هذه الجهود مع منطقة شنغن الأوروبية. ولكن الناس في تركيا والخارج تأثروا كثيرًا بفكرة أن الأتراك سيكونون قادرين على السفر بدون تأشيرة إلى جميع الأراضي التي كانت في السابق جزءًا من الإمبراطورية العثمانية.
وبطبيعة الحال، فإن العديد من المشاكل التي سعى داود أوغلو إلى حلها، وفشل، قد انبثقت عن انهيار الإمبراطورية العثمانية. أدت نزاعات تركيا على الأراضي العثمانية مثل إسكندرونة وقبرص إلى صراعات طويلة الأمد مع سوريا واليونان، في حين أن رفض تركيا للإبادة الجماعية الأرمنية في عام 1915 قد رسخ توترات كبيرة مع جارتها.
ظهرت فكرة الانسجام العثماني من أجل خطاب أكثر فاعلية، ولكن ربما دفع داود أوغلو ثمن اعتقاده في نسخة أكثر مبالغة منها. يحتج التاريخ القومي التركي منذ فترة طويلة بأن الصراعات التي أسقطت الإمبراطورية العثمانية كانت نتيجة الإمبرياليين في الغرب، الذين أثاروا الأقليات السلمية ضد حُكّامهم المتسامحين. تمامًا كما ينظر العديد الآن إلى حدود الشرق الأوسط، التي وضعت بموجب اتفاقية سايكس بيكو بعد الحرب بين المملكة المتحدة وفرنسا، لتكون فروض إمبريالية صورية، يعتقد داود أوغلو أن الصراعات في المنطقة كانت أيضًا من بقايا الاستعمار. وبدوره، أدى اعتقاده إلى الافتراض المؤكد بأن المنطقة يمكنها أن تعود سريعًا إلى النظام خلال دبلوماسيته المعروفة باسم: “صفر مشاكل”.
ومن غير المرجح أن يتخلى صنّاع السياسة الأتراك عن موقفهم المتفائل تجاه التاريخ العثماني. ولكنهم كانوا حكماء بدرجة كافية لإعادة تقويم تطبيقه. ويعكس القرار العملي المفاجئ بنقل قبر سليمان الشاه، والسبب المثالي ظاهريًا للقيام بذلك، تلاعب القادة الأتراك “بالماضي العثماني للبلاد لخلق سياسات خارجية تتناسب مع الاحتياجات المعاصرة لتركيا”.
فورن افيرز – التقرير