يبدو أن ربيع العلاقة الدافئة بين مصر والسعودية الممتد منذ 30 يونيو حتى الآن، في طريقه للتحول إلى خريف، نتيجة التغييرات التي جرت وتجري سواء داخل بلاد الحجاز، أو في المحيط الإقليمي ومناطق نفوذها، باختلاط المذهبي والطائفي بالنووي والسياسي والاقتصادي في منطقة تشهد تفاعلات قوية منذ أكثر من أربع سنوات، بدأت بـ»ثورات الربيع العربي».
ومعروف أن السعودية كانت أكبر داعم سياسي ومالي جر القاطرة الخليجية لدعم النظام المصري عقب إطاحة الرئيس السابق محمد مرسي، في شكل منح ومساعدات مادية وعينية، وصلت في مجملها إلى 12 مليار دولار موزعة على السعودية والإمارات والكويت، أو بحجم ضخم من الأعمال الاستثمارية التي تمثل أكبر مستثمر أجنبي في مصر، بقيمة أعمال تقترب من 6 مليارات دولار هي قيمة الاستثمارات السعودية في مصر.
مثّل النظام السعودي رافعة سياسية إقليمية للنظام المصري الجديد، في مواجهته مع جماعة الإخوان المسلمين التي صنفتها السعودية جماعة إرهابية في تطابق للموقفين الرسميين المصري والسعودي. ومثلت وجهتا نظر الحكومتين ضغطا قويا على الجماعة، وعاملا حاسما في تحديد وجهة الخلافات المصرية القطرية، التي انحازت فيها السعودية وتبعتها البحرين والإمارات إلى القاهرة ضد الدوحة، انتهى إلى اجبار الأخيرة على مصالحة وفق شروط حددتها الرياض ظلت سارية الى حين وفاة الملك السعودي عبد الله.
مبكرا حاول الإخوان اللجوء للسعودية للتوسط بينهم وبين النظام المصري. جرى ذلك في خلال لقاء أجراه المتحدث باسم الرئيس السابق محمد مرسي، ياسر علي، مع السفير السعودي لدى القاهرة أحمد القطان، إلا أن الرد المصري جاء سريعا مباشرة بالقبض على القيادي الإخواني عقب اللقاء في31 ديسمبر 2013 أي بعد 6 شهور من عزل مرسي. بقاء علي خارج السجن كان لدوره كأحد قادة التفاوض بين النظام المصري والجماعة، قبل أن تنفجر الأمور إلى ما وصلت إليه حاليا.
غير أن وفاة الملك عبد الله وما تبعها من أحداث حملت كل ما سبق ووضعته في مهب الريح. وفاة تزامنت مع سيطرة حركة «أنصار الله» التابعة للحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء، والتمدد القوي لتنظيم «داعش» ووصول الملك الجديد سلمان للحكم، جاءت كبارقة أمل للجماعة التي تخوض وأنصارها صراعا عنيفا مع النظام المصري منذ 30 يونيو 2013.
التصريحات السعودية المتواترة حول عدم وجود خلاف مع «الإخوان»، توجها تصريح وزير الخارجية سعود الفيصل إنه ليس للمملكة أي مشكلة مع الجماعة بشكل عام، وأن العقدة هي مع من يحمل في عنقه «بيعة للمرشد»، في استدراك لا يثمن ولا يغني من جوع لكون كل «الإخوان» التنظيميين في أعناقهم بيعة للمرشد. وتلاه الحضور القوي لاتحاد علماء المسلمين الذي يترأسه الشيخ يوسف القرضاوي، المحسوب على الجماعة، في مؤتمر «الإسلام ومكافحة الإرهاب» الذي انعقد في مكة برعاية الملك سلمان، علماً بأن «الإخوان» يمثلون العمود الفقري للاتحاد، الذي تتطابق مواقفه مع توجهات الإخوان ومنطلقاتهم، فضلا طبعاً عن تصريح عضو مجلس الشورى السعودي السابق المقرب من القصر الملكي أحمد التويجري عن أن «جماعة الإخوان المسلمين تنضوي تحتها أمم، ولا يستيطع عاقل أن يصفها بالإرهابية».
بحسب مصادر إخوانية مقيمة خارج مصر، فإن «اليمن كان كلمة السر في التغيير في المواقف السعودية ناحية مصر، حيث أن سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء أرّق السعودية التي وجدت نفسها محاصرة في خاصرتها الجنوبية».
أمر جرت ترجمته في زيارات قام بها قادة إخوانيون يمنيون للرياض، أبرزهم عبد الوهاب الإنسي، القيادي في حزب الإصلاح التابع للجماعة، وهو أمر تزامن مع لقاءات لقادة إخوانيّين مصريين مع نافذين داخل الإدارة السعودية، جرى إبلاغهم خلالها نفس محتوى حديث سعود الفيصل، وأحمد التويجري عن أنه لا مشكلة بين السعودية والجماعة.
ونقلت المصادر انطباعاتها بأن «هناك رغبة ملكية سعودية في إقرار مصالحة مصرية – مصرية بين الأفرقاء، على الساحة»، وفق ما أبلغهم إياه المتحدثون السعوديون.
تقديرات «الإخوان» قد تكون ذهبت بعيدا إلى أن النظام السعودي سيتخلى تماما وكلية عن النظام المصري، لكنه أمر بدا واضحاً أنه حلم إخواني بعيد المنال، بحسابات السياسة والاقتصاد. على الأقل هذا ما كشف عنه البيان السعودي الذي أعقب اتصال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالملك سلمان. كان الاتصال حاسما في التأكيد على أن «موقف السعودية من مصر لا يتغير» بعد ما بثته قنوات فضائية تابعة للإخوان عما تصفه بأنه «تسريب صوتي» لحديث بين السيسي ومدير مكتبه يتحدثان فيه بطريقة بدت مسيئة عن حكام الخليج وثرواتهم.
ومع ذلك فإن قراءة واقعية للموقف السعودي تشير إلى أنه سيتراجع بضع خطوات للوراء، من دون التخلي نهائيا عن الشأن المصري.
تمدد «تنظيم داعش» كان أحد محاور الحديث الإخواني حول أن الضغط على الإسلاميين ومحاربتهم سيحولهم إلى دواعش، وأن التصدي للتنظيم المتطرف «يجري أولا عبر احتواء الإسلاميين وشبابهم الغاضب لا محاربته والضغط عليه»، وهي وجهة نظر تبدو متفهمة بحسب المصادر الإخوانية.
ولا يستقيم الحديث عن تقارب اخواني سعودي من دون التطرق لدور تركيا وقطر، اللتين تمثلان أكبر دولتين داعمتين للإخوان من بعد عزل مرسي. وتتحدث المصادر عن «تقارب تركي سعودي قطري، بديلا عن التحالف السعودي الإماراتي، كمحور سني لمواجهة ما يوصف بأنه «سقوط أربع عواصم عربية في حجر طهران». التحالف الجديد يحتاج إلى رافعة شعبية قوية، لن يكون هناك أفضل من الإخوان للقيام بهذا الدور، في مقابل الضغط السعودي على النظام المصري لدمج الإخوان في الكيان السياسي ووقف محاربتهم.
مع ذلك، لا يمكن الحديث عن التقارب القطري السعودي من دون الالتفات إلى عودة قناة «الجزيرة» لسياساتها السابقة المهاجمة للنظام المصري، وفق ما كانت عليه قبل المصالحة السعودية بين مصر وقطر، التي تبدو في طريقها للتآكل، بعودة المحطة القطرية إلى ما كانت عليه، في انتظار عودة «الجزيرة مباشر مصر» قريبا، وفق ما تتحدث عنه المصادر. وهي خطوة إن جرت فمعناها الوحيد أن المصالحة المصرية القطرية أصبحت جزءا من الماضي. خطوة لا يمكن أن تحصل من دون ضوء أخضر سعودي، أو على الأقل غض للطرف وعدم ممانعة.
ويرى الباحث في العلاقات الدولية، محمد محسن أبو النور، أن «المملكة لا تحتاج إلى إخوان اليمن كظهير بقدر حاجتها إلى ما يشبه حائط الصد أمام موجة المد الشيعي الإثنى عشري باليمن على الرغم من تأكيد الحوثيين فى غير مرة أنهم زيدية». ووفقا لهذا الاعتبار فإن المملكة قد تكون «في بؤرة اختلاف سياسي محض مع الحوثيين لا اختلاف مذهبي لأن حليف الرياض علي عبد الله صالح كان زيديا كذلك».
ويضيف أبو النور انه من المؤكد أن «الربع قرن الماضي شهد بزوغ محورين جرى تدشينهما على نحو صراع طائفي للنفوذ في المنطقة أحدهما إيراني (ويضم سوريا ـ حزب الله ـ عددا من فصائل المقاومة في فلسطين ـ الحوثيين في اليمن) والآخر سعودي (ويضم مجلس التعاون باستثناء قطر ـ مصر ـ الأردن ـ لبنان) والواقع يشير إلى أن المحور السعودي مني بالهزائم المتكررة في كافة جولاته مع المحور الإيراني، بعد نجاح إيران في عزل العراق، ثم تحييد الجانب التركي واللعب بامتياز على مشكلة أنقرة التاريخية مع حزبي البيجاك والعمال الكرديين الانفصاليين المسلحين».
وزاد الضغط على المحور السعودي، والكلام لأبو النور، «بعد خروج جماعة الإخوان من المشهد في مصر، وتنامي نفوذها في ليبيا، ما جعل المملكة تعيد النظر إلى تلك الزاوية محاولة من جانبها تخفيف الضغط على محورها بإعادة الإخوان إلى المشهد، وهو ما ترجمه الملك سلمان باستضافة أمير قطر وإجراء مباحثات مع الإدارة التركية، كما تشير مؤشرات الوضع إلى أن عرضا سعوديا على مصر بالمصالحة جرى الدفع به، غير أن القاهرة ماطلت من جانب وحاولت من جانب آخر إقناع الرياض بعدم جدوى تلك البادرة».
ويذهب أبو النور إلى أن «مواجهة داعش ليست الأولوية الآنية بالنسبة للملكة العربية السعودية على العكس من تصور البعض، فالمملكة قادرة على التعامل مع داعش مع الوضع في الاعتبار التأييد الديني الكبير الذي يحظى به الملك سلمان وسط علماء المذهب السلفي في المملكة، لكن المشكلة الأهم تكمن في تمدد المحور الإيراني على نحو يفوق أي وقت مضى، ووصوله إلى أماكن استراتيجية لا تسمح بها السياسات السعودية، وخاصة مع اقتراب الحوثيين من التحكم في مضيق باب المندب، ما يجعل التفرغ لإجهاض التوصل إلى اتفاق بين الغرب وإيران حول الملف النووي إحدى أهم أولويات صناع الاستراتيجيات في عاصمة آل سعود».
أحمد سليمان | الأخبار البيروتية