في عام 2005، قُتل رفيق الحريري، رئيس وزراء لبنان السابق، مع 21 آخرين عندما انفجرت شاحنة ملغومة قرب موكبه في لبنان.
1- أحمد أبو عدس
في عام 2005، كان أحمد أبو عدس، المسلم السني من أصل فلسطيني البالغ من العمر 22 عامًا، يعيش مع والديه في بيروت بلبنان. قال عنه أصدقاؤه في وقت لاحق للمحققين إنه كان طيّبًا ويحب الناس. ولكنّ أحدًا منهم لم يعتقد أنه كان معقدًا للغاية. وقال أحدهم إن أفضل ما يوصف به هو أنه كان بسيطًا وسخيًّا وساذجًا قليلًا. كما إنه كان ضعيفًا جدًا جسديًا. وكان عدس قد بدأ يهتم بالدين ويقضي ساعات طويلة في مسجد الجامعة العربية بالقرب من منزله.
كان عدس في المسجد يومًا، عندما اقترب منه رجل بعد الصلاة، وقال إن اسمه محمد، وإنه ولد مسلمًا، لكن والديه توفيا عندما كان صغيرًا، فنشأ وترعرع في دار أيتام مسيحية.
وأضاف الرجل أنه يريد العودة إلى الإسلام، وتعلم الصلاة، والزواج من امرأة مسلمة. وسأل إن كان يمكن لعدس مساعدته؟ فأجاب عدس بالإيجاب، وأصبح الرجلان أصدقاء.
فى 15 يناير من عام 2005، اتصل محمد بعدس، وقال له إن لديه مفاجأة له، وطلب منه الحضور ليراها. وفي صباح اليوم التالي، توقفت سيارة أمام منزل عدس وركب فيها. وكان عدس قد وعد والديه بأنه سيعود قريبًا لمساعدتهم في تنظيف السجاد. ولم يأخذ شيئًا معه. وبعد يوم واحد، اتصل محمد بعائلة عدس، وقال لهم إن عدس ذاهب إلى العراق، وألمح إلى أن الغرض من الرحلة هو الانضمام إلى المقاتلين السنة هناك. وقال إن عدس لن يراهم مرة أخرى.
وبعد أربعة أسابيع، تحديدًا في 14 فبراير من عام 2005، وفي الساعة 12:55 مساءً، هز انفجار حدث أمام فندق سان جورج، العاصمة بيروت. ودمر قافلة المركبات التي كانت تقل رئيس وزراء لبنان السابق وربما القادم، رفيق الحريري، مما أدى إلى استشهاده مع ثمانية من أعضاء الوفد المرافق له و13 من المارة.
بعد وقت قصير من الانفجار، اتصل شخص مجهول ادعى أنه يمثل “كتائب النصرة والجهاد في بلاد الشام“، وهي منظمة لم يسمع بها من قبل، بمراسل في قناة الجزيرة في بيروت وأخبره بأن هناك شريط فيديو للانتحاري كان معلقًا على شجرة في ميدان رياض الصلح، على بعد بضعة أمتار من مكان الهجوم، وأنه إذا لم يتم التقاطه في غضون 15 دقيقة، فإنه سيختفي. وقام فني الجزيرة بإحضار الشريط، ولكن الجزيرة لم تبث محتوياته على الفور.
وفي الساعة 5:04 مساء، اتصل المتصل المجهول مرة أخرى وقال للمراسل إنه يجب عليهم بث شريط الفيديو على الفور، أو أنه “سيندم على ذلك”. وبعد ذلك بفترة وجيزة، تم بث الشريط.
في التسجيل، ظهر أحمد أبو عدس مرتدياً ملابس سوداء وعمامة بيضاء وقد أطلق لحيته، وكان يقرأ من ورقة: باسم الله، وللانتقام من أجل “الشهداء الأبرياء الذين قتلوا على يد قوات أمن النظام السعودي الكافر أقسمت جماعته على إلحاق العقاب العادل بوكيل ذلك النظام وأداته الرخيصة في سوريا، صاحب المكاسب غير المشروعة، رفيق الحريري”. وقد أُرفق خطاب من المنظمة نفسها مع الشريط، جاء فيه إن الحريري، وهو مسلم سني، كان يجب أن يموت لأنه قد خان أتباعه السنة، وإن عدس، وهو أيضًا مسلم سني، هو الانتحاري الذي قتله. وقد روعت عائلة عدس بالخبر ولم يصدقوا ذلك.
أرسلت الأمم المتحدة فريقًا من الخبراء للمساعدة في التحقيق. وبدأ خبراء الطب الشرعي من هولندا في إعادة تجميع ما تبقى من الشاحنة التي كان يقودها الانتحاري، والتي كانت من نوع ميتسوبيشي كانتر. واستطاعوا تجميع أرقامها والتي كانت تحمل الأرقام 4D33-J01926، ووجد أن الشاحنة قد سرقت في اليابان، ثم تم شحنها إلى دولة الإمارات العربية المتحدة وبيعت أخيرًا قبيل الهجوم، من تاجر سيارات مستعملة في طرابلس، بلبنان، التي تعد معقل الحركات الإسلامية السنية، والتي يرتبط بعضها بتنظيم القاعدة.
وأوضح التاجر لمحققي الأمم المتحدة في طرابلس أن رجلين قد جاءا إلى متجره، وبعد مجادلة على السعر وتخفيضه بنسبة 250 دولارًا قاما بدفع 11.250 دولار من فئة الـ 100 و50 دولارًا، وأنهم قد سجلوا أسماء وأرقام هواتف وهمية في الأوراق. وربما لم يكن من قبيل المصادفة أنهما قد اختارا شراءها من محل لا توجد به كاميرات مراقبة. وبدا كل شيء واضحًا: إنه تفجير انتحاري آخر قام به الجهاديون السنة.
لكنّ المحققين كانوا يشعرون بالحيرة، ليس فقط بسبب غرابة فكرة أن تتحول طبيعة أحمد أبو عدس ويقرر فجأة ارتكاب جريمة قتل جماعي. كما أشار الخبراء الذين فحصوا اعترافه المسجل، إلى أن اللهجة وطريقة الإنتاج لم تتطابق مع الأشرطة الأخرى التي أصدرها الجهاديون السنة. ووجد الباحثون اختلافات خفية أيضًا، بين الشريط والرسالة، كما لو كان شخص ما قد خشي ألا يكون الشريط، الذي ربما تم تسجيله قبل فترة طويلة من وقوع الحادث، مقنعًا تمامًا وأراد تجسيد القصة. ثم هناك مسألة الوسائل. لقد كان سائق الشاحنة الميتسوبيشي واضح المهارة.
فقد توصل إلى موكب الحريري بدقة لا تصدق على الرغم من حركة المرور الكثيفة في وسط بيروت. لكن عائلة عدس وجميع أصدقائه اتفقوا على أنه لم يقد سيارة أبدًا؛ بل إنه كان لا يستطيع حتى ركوب الدراجة.
وأخيرًا، كانت هناك مشكلة الحمض النووي. فقد جمع خبراء الطب الشرعي مئات من الأشلاء في موقع الحادث، وجرى تحديد أن أكثرها كانت تنتمي إلى الحريري، وأعضاء الوفد المرافق له وضحايا معروفين آخرين. بينما كانت هناك حوالي 100 عينة متوافقة وراثيًا مع بعضها البعض، ولكنها لا تنتمي إلى الضحايا الذين تم تحديدهم. وأظهر النمط المبعثر لتلك الأجزاء أنها كانت تنتمي إلى الشخص الأقرب من الانفجار. إنه الانتحاري. وعندما قام المحققون بمقارنة هذا الحمض النووي مع المادة الوراثية المأخوذة من فرشاة أسنان عدس، كانت النتائج لا لبس فيها: لم يكن عدس هو الانتحاري.
دعا فريق الأمم المتحدة المزيد من الخبراء والمتخصصين في علم الجينات، الذين قاموا بدراسة الرفات باستخدام تحليل النظائر، وهي العملية التي يمكن أن تحدد أين كان يعيش الشخص، وماذا كان يتناول من طعام، وما نوعية الهواء الذي كان يتنفسه. وخلصوا إلى أن المهاجم قد أمضى الأشهر الستة الأخيرة من حياته في القتال أو التدريب العسكري النشط، حيث امتص جسمه كميات كبيرة من الرصاص. وكان أكبر جزء من الجسم الذي أمكن العثور عليها هو أنفه، الذي أدى شكله ببعض المحققين إلى الاعتقاد بأنه قد جاء من إثيوبيا أو الصومال أو اليمن.
وقال محقق بارز طلب عدم الكشف عن هويته بسبب مخاوف بشأن سلامته الشخصية، إن فريق التحقيق قام بحفظ الأنف في الفورمالين. وأضاف المحقق: “لقد جلست ونظرت إلى الأنف، وقلت لنفسي: لمن أنت أيها الأنف؟ من أرسلك لقتل الحريري؟ ولماذا يحاول جاهدًا جعل العالم يعتقد بأن المهاجم الانتحاري و شخص آخر؟”.
2- المحكمة
“لمن أنت أيها الأنف؟“، أصبحت الإجابة عن هذا السؤال المروع منذ ذلك الحين مسؤولية واحدة من أهم وأكثر التحقيقات الجنائية تكلفة وإثارة للجدل. فقد أنشأت الأمم المتحدة محكمة خاصة بلبنان في لاهاي لمتابعة التحقيق، وفي عام 2011، قدمت النيابة العامة عرائض اتهام ضد أربعة من أعضاء حزب الله، المنظمة المتشددة الأقوى في لبنان، وفي عام 2013، أضافت العضو الخامس.
كانت المحكمة ضرورية ببساطة بسبب الدور الفريد الذي يلعبه حزب الله في لبنان والعالم: فعلى الرغم من أن المنظمة تصنف من قبل وزارة الخارجية الأمريكية كمنظمة إرهابية أجنبية؛ إلا أنها أيضًا تمثل حزبًا سياسيًا كبيرًا في لبنان، وبالتالي فإن من الصعب، وربما كان من المستحيل، على لبنان أو أي دولة واحدة أخرى توفير المكان المناسب للمحاكمة فيها. وكانت هذه هي أول محاكمة دولية كبرى تتعلق بالعالم العربي، وكانت واحدة من أكبر التحديات التي تواجه أعضاء النيابة العامة ومحامي الدفاع على حد سواء هو إظهار أن تحقيق العدالة أمر ممكن.
في 16 يناير من عام 2014، بدأ خمسة قضاة في المحكمة بسماع دعوى المدعي العام ضد سليم جميل عياش، وحسن حبيب مرعي، ومصطفى أمين بدر الدين، وحسين حسن أنيسي، وأسعد حسن صبرا. وبعد سنة كاملة من الإجراءات، استمعت المحكمة إلى جزء بسيط فقط من مئات الشهود وعاينت الآلاف من المستندات المعروضة التي قدمتها النيابة العامة.
وحتى الآن، ساهمت 28 دولة، بما في ذلك لبنان والولايات المتحدة وفرنسا، بما يقرب من نصف مليار دولار لتمويل التحقيق والمحاكمة التي ربما ستتكلف مئات أخرى من الملايين حتى يتم إغلاق القضية خلال سنتين أو ثلاث سنوات. وإذا تمت إدانتهم بجميع التهم التي شملت أعمال إرهاب مختلفة، و22 اتهاما بالقتل، و231 تهمة شروع في القتل، فسيواجه المتهمون عقوبة السجن مدى الحياة في دولة يحددها رئيس المحكمة.
وقد أقيمت المحكمة في مبنى مكون من سبعة طوابق كان يضم من قبل جهاز الاستخبارات والأمن الهولندي العام، وتم تحويل ملعب كرة السلة إلي قاعة للمحكمة. وكان هناك مستودع كبير في مكان قريب، وضعت فيه المستندات بما في ذلك حطام سيارة الحريري وشاحنة الانتحاري. كان المجمع بأكمله كبيرًا جدًا وباهتًا إلى حد ما، أو كما قال أحد محامي الدفاع على سبيل الدعابة: “إنها تذكرنا بقاعات المحاكم في ألمانيا الشرقية“.
ولأن القذائف يمكنها أن تخترق النوافذ، فإن قاعة المحكمة بلا نوافذ. كما تم إحاطة المقصورة العلوية التي كان المشجعون يشاهدون منها مباريات كرة السلة من قبل، بزجاج مضاد للرصاص، بينما تم تعتيم النصف السفلي لحجب الشاهد الذي يقف أدناه. لم تكن هذه التدابير علامة على جنون العظمة، فقد تم بالفعل تهديد عدد من الشهود، وقتل محقق واحد.
ربما كان الشيء الأكثر ملاحظة في هذه القاعة الراقية هو الشيء المفقود: وهو قفص الاتهام. فالسلطات اللبنانية لم تتمكن -أو لن تقوم- من إلقاء القبض على المتهمين الخمسة، حيث تعهد الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، بأن الأمم المتحدة لن تستطيع الإمساك بهم أبدًا، ليس في شهر ولا حتى في 300 سنة. لذا؛ فقد قررت المحكمة عقد المحاكمة الدولية غيابيًا للمرة الأولى منذ محكمة الحلفاء في نورمبرغ في عام 1946 التي حكمت على مساعد هتلر، مارتن بورمان بالإعدام.
ويرى البعض أن هذه المحاكمة صورية. فبموجب القانون الدولي، يحق للمتهمين المدانين غيابيًا إعادة المحاكمة، ما لم تثبت النيابة العامة للسلطات التي قبضت عليهم في النهاية أن المتهمين كانوا يعرفون بأنهم كانوا تحت لائحة الاتهام. لكن الحجة المضادة بطبيعة الحال، هي أن المحاكمة الثانية لن تكون ممكنة من دون العمل الذي قامت به هذه المحكمة.
كان يمكن تمييز قضاة المحكمة الاسترالي، والإيطالي، والثالث القادم من جامايكا والاثنين اللبنانيين بالسترات الحمراء التي يلبسونها على العباءات ذات الأكمام الحمراء. وكان القاضي الاسترالي، ديفيد ري، هو القاضي الذي ترأس الجلسة، وهو قاض مخضرم في المحاكمات الدولية الخاصة بالبوسنة والهرسك ويوغوسلافيا السابقة، كما أن العديد من القضاة والمحامين الآخرين المعنيين بالقضية كانت لديهم خبرة في المحاكم الدولية.
مكنت الميزانية التي قدمتها المحكمة المحامين من تقديم الأدلة في أوضح صورة ممكنة. فخلال بعض جلسات الاستماع، قام المدعون بتقديم نموذج دقيق يوضح مكان التفجير على طاولة ضخمة في وسط الغرفة.
وكان صناع النموذج، الذين أمضوا أسابيع في صنعه، قد حرصوا بشكل خاص على استنساخ صورة الدمار بالضبط، حتى الأضرار التي لحقت بالأشجار. وتجرى الإجراءات باللغة العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية، كما يتم تدوينها باللغات الثلاث. لقد قرأتُ آلاف الصفحات من هذه السجلات، ووجدت اثنين فقط من الأخطاء المطبعية.
وتعد عملية لاهاي سابقة جديدة في إثبات جرائم القتل على أساس أدلة ظرفية أيضًا. فبرغم مئات الملايين من الدولارات التي أنفقت على التحقيق، لم تقدم النيابة أي دليل مباشر، ناهيك عن تأمين التعاون من أيٍّ من المتهمين أو شركائهم المحتملين. فالقضية تستند إلى حد كبير على تسجيلات لعشرات من الهواتف المحمولة التي قيل إنها قد استخدمت من قبل القتلة ومن بينهم المتهمون الخمسة.
كما حضر العديد من جرحى الانفجار وأفراد من أسر القتلى افتتاح المحاكمة. واعتبروه يومًا سعيدًا، حيث ستبدأ الحقيقة في الظهور. كانت ندى عبد الستار أبو سمرة من لبنان إحدى المحامين الذين عينتهم المحكمة لتمثيل الضحايا. وقالت ندى في المرافعة: “لقد قيل لنا على مدى أكثر من 40 عامًا إن علينا أن نغفر وننسى ونفتح صفحة جديدة. ونطوي تلك الصفحة؟. أي صفحة، إذا كنا لم نقرأها حتى الآن؟ ننسى؟ ماذا ننسى؟ كيف يمكنك أن تنسى شيئًا لا تعرفه؟ نغفر؟ نغفر لمن؟“.
3- رفيق الحريري
لفهم اغتيال رفيق الحريري، يجب أن نبدأ منذ عقود خلت، وتحديدًا منذ عام 1975، عندما هددت الحرب الأهلية بين المسيحيين الموارنة والفلسطينيين بتمزيق لبنان. فقد طلبت الحكومة من سوريا المجاورة إرسال قوات للمساعدة. وكان السوريون، الذين رأوا دائمًا لبنان كجزء من سوريا الكبرى، سعداء بذلك. لكن القوات بقيت، وسرعان ما قام حافظ الأسد، الرئيس السوري، بوضع السياسيين التابعين له في مواقع السلطة.
وقد جر الصراع المسيحيين والدروز، واللاجئين الفلسطينيين والمسلمين الشيعة والمسلمين السنة إلى حرب خماسية من الولاءات المتغيرة باستمرار، والتي خلفت ما لا يقل عن 120 ألف قتيل، ومئات الآلاف من الجرحى أو من الذين بلا مأوى. كما فر أكثر من مليون لبناني في البلاد التي جعلتها إيران والعراق وإسرائيل والمملكة العربية السعودية وسوريا رهينة لأجنداتهم الإقليمية.
ومع استمرار الحرب، دانَ السوريون بالولاء لمن رأوه مناسبًا، طالما أنه يمكنهم من الاستمرار في إدارة البلاد. كما استفاد رجال الأعمال السوريين من البنية التحتية والمالية الأكثر تقدمًا في لبنان، بحماية من قواتهم المسلحة، وأصبح الجيش السوري متورطًا في تجارة المخدرات المتمنامية في لبنان.
في عام 1982، بدأت إسرائيل غزوًا عبر حدودها الشمالية، في محاولة لاجتثاث عناصر من منظمة التحرير الفلسطينية. وقام الجيش الإسرائيلي بتدمير كل الطرق إلى بيروت، وأجبر منظمة التحرير الفلسطينية على مغادرة لبنان. كما هزم أيضًا الجيش السوري وخاصة سلاح الجو في جميع الاشتباكات. وعندما تأكد الأسد، وهو مسلم علوي، من أنه لا يستطيع الانتصار في حرب تقليدية ضد الإسرائيليين، قام باتخاذ مسار مختلف ومفاجئ إلى حد ما: فقد سحب معارضته للخطة، التي اقترحها رجال الدين الموالين لآية الله روح الله الخميني في إيران، لإنشاء حزب سياسي للشيعة في لبنان. وكان من المفترض بذلك التنظيم الجديد توفير بديل للأقلية الشيعية في لبنان عن الحكومات المسيحية والسنية التي مارست التمييز ضدهم، وكذلك تقديم منظمة عسكرية تعليمية ودينية واجتماعية (خاصة) وممولة جيدًا.
وأطلقت المنظمة، التي كانت نجاحًا باهرًا، على نفسها اسم “حزب الله“. وكان الأسد يأمل في أن تتمكن حرب العصابات الشيعية من ضرب الجيش الإسرائيلي الذي كان لا يزال يحتل “المنطقة الأمنية” في جنوب لبنان. وقد فعل الحزب ذلك، وكان رد إسرائيل هو اغتيال الأمين العام لحزب الله الشيخ عباس الموسوي، في فبراير 1992م.
وخلف الموسوي رجل دين الشاب، حسن نصر الله، والذي قام بدوره بتعيين عماد مغنية لقيادة الجناح العسكري لحزب الله. كان مغنية يمتلك عبقرية في الإرهاب. واستخدم مغنية التفجيرات الانتحارية كسلاح استراتيجي، كما كان بارعًا في تكتيكات حرب العصابات، والهجمات والمداهمات واستخدام العبوات الناسفة. كما كانت لديه أيضًا وسيلة للدعاية: فقد كان حزب الله قد بدأ في تسجيل هجماته وبث نتائجها.
ويعتقد على نطاق واسع أن مغنية هو مهندس عملية تفجير الثكنة البحرية عام 1983، والذي راح ضحيته 241 جنديًا أمريكيًا و58 جنديًا فرنسيًا وستة مدنيينن وأدى إلى انسحاب مشاة البحرية الأمريكية في عام 1984. وفي عام 2000، وباستخدام ميليشيا صغيرة تحت قيادته، نجح مغنية في إجبار الجيش الإسرائيلي، الذي يعد أقوى قوة عسكرية في الشرق الأوسط، على الانسحاب من جنوب لبنان.
مات الأسد في ذلك العام نفسه، وتولى ابنه بشار الأسد رئاسة سوريا الذي لاحظ كيف أن الشراكة مع نصر الله وعماد مغنية قد نجحت، فيما فشل فيه العالم العربي بأسره، بما في ذلك والده. وقام بإقامة روابط بين سوريا وحزب الله -ورعاته في طهران- المكون المركزي للعقيدة الأمنية له. (ظهر رهان الأسد على حزب الله في عام 2013، عندما أرسل نصر الله قواته التي دعمت الحكومة السورية ضد الثوار في سوريا).
ولكن داخل لبنان، بدأ الانسحاب الإسرائيلي في عام 2000 يثير الآمال بأن سوريا أيضًا قد تغادر قريبًا. وبدأ تحالف مناهض لسوريا في الظهور وضم شخصيات مسيحية ودروز وشخصيات سنية. وكان السياسي الأبرز في هذه المجموعة هو رفيق الحريري.
ولد الحريري لأسرة فقيرة سنية في جنوب لبنان في عام 1944، واستطاع بسرعة تكوين ثروة كبيرة. وبعد حصوله على شهادة البكالوريوس في إدارة الأعمال من الجامعة العربية في بيروت عام 1965، انتقل إلى المملكة العربية السعودية، حيث أظهر موهبة في استكمال مشاريع ضخمة لمساجد وقصور ومراكز تسوق بكفاءة وفي الوقت المحدد. وأصبح مقربًا للعائلة المالكة هناك. وفي أوائل الثمانينيات انتقل الملياردير صاحب العلاقات القوية، الحريري إلى لبنان. وفي عام 1992، ترشح لمنصب رئيس الوزراء وفاز به على وعد بتحرير الاقتصاد اللبناني. وبعد أن خدم في ذلك المنصب حتى عام 1998، ترشح مرة أخرى بعد عامين وتولى المنصب في الفترة بين عامي 2000-2004.
وكرئيس للوزراء، لم يكن الحريري يدخل في مواجهة مباشرة مع حزب الله أو السوريين، ولكن الصراع احتدم مع ذلك. فقد واصل الجيش السوري احتلال لبنان من الشمال، كما لم تكن معارك حزب الله مع إسرائيل في الجنوب كافية لمساعدة معظم الشعب اللبناني. وقد أسهمت ثروة الحريري – ناهيك عن تأثيره كمالك لمجموعة متنامية من الصحف اللبنانية والفرنسية ومحطات التلفزيون والإذاعة، في شعبيته خارج لبنان. كما كان الحريري يطمح لجعل بيروت العاصمة المالية لمنطقة الشرق الأوسط، كما كانت من قبل، وأن يجعل لبنان بلدًا ليبراليًا ذا طابع غربي، بينما سعى الأسد للحفاظ على الوضع الراهن، بحيث تستمر سيطرة سوريا على لبنان ويظل حزب الله أقوى قوة عسكرية فيها.
في النهاية، فاز الأسد -إن لم يكن في مسألة الوجود السوري في لبنان، فعلى الأقل في مسألة إن كان هو أم الحريري الذي سيحدد النتيجة. ووجد الصراع من أجل السيطرة ضالته في نزاع حول مصير إميل لحود، رئيس لبنان منذ عام 1998، الذي كان على وشك إنهاء الفترة الأخيرة من ولايته. كان دور الرئيس شرفيًا إلى حد كبير، ولكن لحود، المسيحي، ساند طويلًا التدخل السوري في لبنان. وقرر الأسد أنه من المهم إبقاؤه في مكانه، وهي الخطوة التي تتطلب تعديل الدستور في لبنان. عارض الحريري بحزم التعديل، كما اعتقد السوريون أيضًا بأنه، ووليد جنبلاط، زعيم الدروز المعارض، كانوا يحاولون من وراء الكواليس المساعدة في تمرير قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1559، الذي يدعو لنزع سلاح حزب الله وانسحاب سوريا من لبنان.
في يوم 26 أغسطس من عام 2004، استدعى الأسد الحريري إلى القصر الرئاسي في دمشق لينذره. وقال الأسد إن لحود يجب أن يبقى في منصبه، حتى لو لم ترغب الولايات المتحدة وفرنسا في ذلك. واعترض الحريري، ولكن الأسد قال له باختصار: “سيبقى لحود“. وهدد قائلًا إنه إذا حاول الحريري أو جنبلاط منعه، فإنه سيهدم لبنان فوق رؤوسهم. ثم كرر هذا التهديد وقال: “سوف أهدم لبنان على رأسك وعلى رأس وليد جنبلاط، لذلك من الأفضل لك العودة إلى بيروت وترتيب الأمر على هذا الأساس“. (نفى الأسد أنه قام بتهديد الحريري بأي شكل من الأشكال).
عاد الحريري إلى بيروت. وقال أحد حراسه في وقت لاحق لمحققي الأمم المتحدة إنّ رئيس الوزراء كان يشعر بالصدمة من جراء اللقاء. وبدأ أنفه ينزف وذهب فورًا إلى منزل جنبلاط. ويكاد يكون من المؤكد أن والد الأسد كان وراء وفاة والد جنبلاط، زعيم المعارضة اللبناني كمال جنبلاط، في عام 1977، وكان أيضًا على الأرجح وراء اغتيال بشير الجميل، الرئيس المسيحي المنتخب في لبنان، في عام 1982. لذا؛ فقد كان لدى الحريري وجنبلاط سببًا وجيهًا للشك بأن الأسد سوف يفعل الشيء نفسه بالنسبة لهم. ولكن الخطر تفاقم يوم 2 سبتمبر، عندما أصدر مجلس الأمن القرار رقم 1559، واشتبه السوريون بأن الحريري كان متورطًا في ذلك.
خسر الحريري التصويت في البرلمان على التعديلات بشأن بقاء لحود، وهدد عدد من الوزراء المدعومين من سوريا بالاستقالة، وهدم الحكومة ما لم يعلن الحريري نفسه تنحيه.
وفي أوائل شهر سبتمبر، قبيل الحفل الذي حصل فيه على جائزة من الأمم المتحدة لإعادة إعمار لبنان، أعلن الحريري استقالته. وغادر منصبه في 20 أكتوبر 2004، وحول انتباهه على الفور إلى الانتخابات الإقليمية المقرر أن تجرى في غضون ستة أشهر. فقد قال له مستشاروه إن تشكيل حكومة جديدة من المؤكد أن يعيده مرة أخرى إلي مكتب رئيس الوزراء.
4- الاغتيال
murder
عاش الحريري في قصر القريطم المترامي الأطراف والمكون من تسعة طوابق. وفي حوالي الساعة العاشرة من صباح يوم 14 فبراير عام 2005، أخبر حراسه بأنه سيذهب قريبًا لموعد.
كان الحريري يحب أن يقود السيارة بنفسه، حتى عندما كان رئيسًا للوزراء، ولكن حينما كان في منصبه كان يخرج معه 50 من حراس قوات الأمن الداخلي. لكنه الآن لديه أربعة حراس منهم فقط، لكنه استكمل فريق الأمن الخاص به، بقيادة يحيى العرب، المعروف باسم أبو طارق، الذي ظل إلى جوار الحريري منذ عام 1975، مرتديًا النظارات الشمسية الداكنة وتعبيرات الوجه القاسية. قام الحراس بإعداد جميع المسدسات، وارتداء سماعات الراديو المتصلة بواسطة شبكة خاصة تحت إشراف أبو طارق. وكانت سياراتهم تحتوي على بنادق آلية وجهاز تشويش للإشارات اللاسلكية (لمواجهة الهجمات التي تشن عبر أجهزة التحكم عن بعد)، ووفقًا لأحد المصادر، كانوا يحملون أيضًا قذائف صاروخية وقاذفات صواريخ.
في الساعة 10:41 صباحًا، توجه موكب الحريري إلى قصر النجمة، مقر مبنى البرلمان في لبنان. ووصل بعد حوالي 13 دقيقة، حيث قضى الحريري ساعة وهو يتحدث مع عدد من أعضاء البرلمان، بما في ذلك شقيقته بهية الحريري. وقد ظهر في صور الأخبار التي التقطت في ذلك الوقت هادئًا وسعيدًا. في تمام الساعة 11:56 صباحًا، عاد الحريري إلى موكبه، وبدأ حراسه في دخول سياراتهم، في انتظار أمر من أبو طارق بالعودة إلى ديارهم.
في تلك اللحظة نفسها، تمت عدة مكالمات بين مجموعة من الهواتف المحمولة على مقربة من مبنى البرلمان ومجموعة أخرى من الهواتف على بعد ميل إلى الشمال الغربي. وبعد فترة وجيزة من هذه الاتصالات، سجلت كاميرات المراقبة في نفق الرئيس سليمان فرنجية، تقريبًا في نفس المنطقة، تحرك شاحنة من نوع ميتسوبيشي كانتر شمالًا، باتجاه فندق سان جورج. كانت الشاحنة تحمل طنين من المتفجرات العسكرية من نوع RDX؛ وهو ما يكفي لإحداث ما يعادل تفجير أوكلاهوما سيتي عام 1995.
وقبيل أن يستقل سيارته، توقف الحريري، فقد أخبره أبو طارق بأن نجيب فريجي، المتحدث باسم الأمم المتحدة في بيروت، كان يجتمع ببعض الصحفيين في ساحة النجمة، وهو مقهى على الطرف الآخر من الشارع. وقرر الحريري أن يسير بخفة إلى المقهى، فأخطر أبو طارق الحراس الشخصيين عن طريق الراديو بذلك التأخير.
في الوقت نفسه، أجريت سلسلة أخرى المكالمات الغامضة عبر الهواتف المحمولة، فقام سائق الشاحنة الميتسوبيشي بالانحراف يمينًا بعد خروجه من النفق، والتوقف. قضى الحريري 45 دقيقة في المقهى يتحدث مع فريجي والصحفيين، فضلًا عن عدد قليل من المارة. وظلت الهواتف المحمولة صامتة، وظلت الشاحنة متوقفة في الانتظار.
وكان مع الحريري ضيفه، باسل فليحان، وهو مسيحي، كان قد شغل منصب وزير الاقتصاد والتجارة بلبنان. وبناء على طلب الحريري، قطع فليحان عطلة قصيرة للتزلج في سويسرا للتشاور حول بعض المسائل الاقتصادية. وكان قد حدد موعدين لرحلة عودته إلى سويسرا، واحدة يوم الأحد، قبل يوم من الهجوم، والأخرى بعد ذلك بيوم واحد. ولكنه اختار الموعد الثاني لأنه كان يريد أن يشارك في المناقشة البرلمانية.
وأخيرًا، غادر الحريري المقهى، وعاد إلى سيارته. وركب معه فليحان مقعد. ثم فتح الحريري الباب ولوح وابتسم للحشد الصغير الذي تجمع. وفي الصورة الأخيرة للحريري وهو على قيد الحياة، ظهر انعكاس برج ساعة البرلمان على نافذة المرسيدس النظيفة. وكما يحدث في الروايات البوليسية غير القابلة للتصديق، عكس المحققون الصورة ورأوا بالضبط التوقيت المحدد الذي انطلقت فيه قافلة الحريري: قبل 10 دقائق من تمام الواحدة ظهرًا.
كان موكب الحريري يتكون من ست سيارات يتقدمهم سيارات حراس قوات الأمن الداخلي في سيارة تويوتا لاند كروزر، ثم حراس الأمن الخاص في سيارة مرسيدس بنز سوداء، ثم سيارة الحريري، (مع فليحان)، ثم سيارتين أخريين لحراس الأمن الخاص. وكان أبو طارق، في السيارة الرابعة، حيث كان يقوم بتوجيه الموكب عبر جهاز اللاسلكي.
عندما بدأ الموكب في التحرك، رفع الهاتف المحمول من جديد، وعادت شاحنة الميتسوبيشي للتحرك. وقد سجلت كاميرا المراقبة في مخرج نفق الرئيس سليمان فرنجية أن الشاحنة قد توجهت باتجاه فندق سان جورج. كانت الساعة 12:51 ظهرًا حينما سجلت كاميرا المراقبة أعلى مبنى بنك hsbc، تحرك الميتسوبيشي ببطء شديد، وبشكل أبطأ بكثير من حركة السيارات الأخرى.
اقتربت الشاحنة من فندق سان جورج، ومرت أمام إحدى كاميرات المراقبة الأخرى. وبعد ثانية واحدة من مغادرة الميتسوبيشي المنطقة التي تغطيها الكاميرا، ظهر موكب الحريري. كانت المركبات الست تسير بسرعة ما يقارب 45 ميلًا في الساعة، وفقًا لقواعد الأمن. ثم خرج الموكب أيضًا من نطاق تغطية الكاميرات.
في تمام الساعة 12:55 ظهرًا، ومع اقتراب الموكب من المنطقة بين فندق سان جورج وبناء جبيل الذي كان قيد الإنشاء عبر الشارع، تجاوزت أول سيارة الميتسوبيشي. وربما كان المطلوب من المهاجم تفجير نفسه بجانب السيارة الثالثة التي كان يقودها الحريري، إلا أن الميتسوبيشي انفجرت مع مرور السيارة الرابعة.
في لحظة واحدة، أصبح المكان قطعة من الجحيم. وأحدث الانفجار حفرة كبيرة، واختلطت ألسنة اللهب والدخان والغبار، بالسيارات المحترقة، والقتلى والمحتضرين، والأشلاء، والمباني المدمرة، ومئات الآلاف من شظايا الزجاج. ورأى الناس الذين كانوا يشاهدون بثًا مباشرًا للبرلمان الاهتزاز. وكان واضحًا أن ذلك لم يكن زلزالًا، وعندما لم يحدث انفجار ثان، اتضح أنه لم يكن دويًا قويًا من الطائرات الإسرائيلية، التي تطير دائمًا في أزواج. وصرخ عضو في البرلمان باللغة العربية، “قنبلة!“.
لم يستطع المحققون العثور سوى على 38 قطعة من اللحم، كانت هي أشلاء أبو طارق، الذي كان في السيارة الرابعة الأقرب من الانفجار الذي قذف بتلك السيارة وما تبقى من ركابها إلى الطوابق السفلى من مبنى جبيل. فيما نسفت أطراف السائق، محمد درويش. بينما واجه أولئك الذين بقوا محاصرين في مقاعدهم في سيارات أخرى مصيرًا أفضل قليلًا. وتظهر لقطات الفيديو ألسنة اللهب وهي تلتهمهم وقد ذاب لحم جباههم وظهر بياض جماجمهم.
تم قذف الحريري من سيارته وتوفي على الفور. وقال أحد حراس الحريري الذين اعتادوا تقبيل يده تعبيرًا عن ولائهم له: “عندما عدت، رأيته على الأرض، واستطعت التعرف عليه من خلال خاتم الزواج الخاص به”.
5- وسام عيد
بدأ تحقيقان على الفور تقريبًا، التحقيق الذي بدأه فريق أولي من الأمم المتحدة وهو ما تحول في نهاية المطاف إلى المحكمة، والتحقيق المحلي الذي أجراه وسام عيد، وهو نقيب الشرطة الذي درس هندسة الكمبيوتر قبل أن يعمل مع قوات الأمن الداخلي. وبرغم أن الأمم المتحدة قد أنفقت عدة ملايين من الدولارات للتحقيق في الجريمة، التي قد تحمل عواقب لا يمكن تصورها تقريبًا للمنطقة. ولكن عيد كان هو الذي طرح السؤال الذي فتح القضية: لماذا لا ننظر إلى سجلات الهاتف المحمول؟
في ذلك الوقت، كانت وكالات إنفاذ القانون في جميع أنحاء العالم أقل تطورًا مما هي عليه اليوم في قدرتها على استخراج المعلومات من الهاتف المحمول. وكانت بعض العناصر الإجرامية تدرك أن جهاز المخابرات قد يكون قادرًا على التنصت على المكالمات، ولكن أحدًا لم يفكر في قيمة المعلومات التي تبدو بسيطة حول متى وأين تم إجراء المكالمة أو حتى مجرد تحديد موقع الهاتف في لحظة بعينها.
وبناءً على طلب عيد، أمر القاضي شركتي الهاتف المحمول في لبنان Alfa وMTC Touch بتقديم سجلات المكالمات والرسائل النصية التي تمت في لبنان خلال أربعة أشهر قبل التفجير. ودرس عيد السجلات سرًا لعدة أشهر. وركز على سجلات هاتف الحريري والوفد المرافق له، بحثًا عمن اتصل بهم، وأين ومتى. كما قام بتتبع عدس، الانتحاري المفترض، قبل اختفائه.
كما قام بتتبع المكالمات على طول الطريق الذي سلكه الوفد المرافق الحريري يوم الاغتيال. وكان يتطلع دائمًا للسبب والنتيجة. وكيف توصل مكالمة إلى أخرى؟
وقال عنه محقق كبير في الأمم إنه: “كان رائعًا، فقد استطاع من تلقاء نفسه، وضع برنامج بسيط ولكنه فعال بشكل مثير للدهشة للاستفادة من هذا البنك الهائل من البيانات“.
وبحسبة بسيطة، ظهر بسرعة وجود نمط غريب. ففي أكتوبر من عام 2004، وبعد استقالة الحريري، بدأت مجموعة معينة من الهواتف المحمولة متابعته وموكبه أينما ذهبوا. وبقيت هذه الهواتف تتحرك معه بشكل وثيق ليلًا ونهارًا، حتى يوم التفجير عندما تم إغلاق ما يقرب من جميع تلك الهواتف البالغ عددها 63 ولم تعمل أبدًا مرة أخرى.
أمضى عيد سنة في الربط بين البيانات. ثم بدأ في تقديم سلسلة من التقارير السرية لرؤسائه وإلى فريق من الأمم المتحدة. وكان على يقين من أن فريقًا كبيرًا ومدربًا تدريبًا جيدًا من النشطاء قد استخدم شبكة من الهواتف المحمولة لتنفيذ عملية الاغتيال. كما سجل عيد استنتاجًا أوليًا خطيرًا، فقد كانت لديه أدلة تربط شبكة الهاتف بكبار أعضاء حزب الله.
وتعززت هذه الشكوك عندما تلقى مكالمة من أحد كبار الأعضاء في حزب الله، الذين علموا بطريقة أو بأخرى عن تحقيقاته. ووفقًا لتقرير ظهر في وقت لاحق على محطة سي بي سي نيوز، أكد المتحدث أن بعض الهواتف كانت تنتمي بالفعل إلى أعضاء في حزب الله، لكنه ادعى أنهم كانوا يستخدمونها للتحقيق في مؤامرة إسرائيلية.
وبدأ الضغط على عيد. ففي 5 سبتمبر من عام 2006، انفجرت قنبلة على جانب الطريق قرب موكب من سيارتين يقل قائد عيد، المقدم سمير شحادة، والوفد المرافق له جنوب لبنان. إلا أن شحادة ظل على قيد الحياة، ولكن الانفجار أسفر عن مقتل أربعة من حراسه الشخصيين. (واستقر شحادة في وقت لاحق في كيوبيك). كما بدأ عيد نفسه في تلقي تهديدات بالقتل. لكنه واصل عمله، وتتبع الهواتف واحدًا بعد الآخر، مما أظهر روابط جديدة. وطلب من شقيقه أن يقوم بتصويره بالفيديو أثناء العمل، كما جهز أيضًا نسخة احتياطية من عمله والسجلات غير المنتهية.
لم يكن فريق الأمم المتحدة، قد أحرز تقدمًا يُذكر. ففي أكتوبر من عام 2005، وبعد ثمانية أشهر فقط من الهجوم، أرسلت الأمم المتحدة المحقق الألماني ديتليف ميليس، للإشراف على القضية، ولكنه أصدر تقريرًا متسرعًا يستند في المقام الأول على شهادة شاهدين ادعيا أنهما كانا موجودين عندما قامت مجموعة من الضباط اللبنانيين بالتخطيط للهجوم بالاشتراك مع ضباط المخابرات السورية.
واعتقلت السلطات اللبنانية أولئك الجنرالات، الذين نفوا بشكل قاطع تورطهم. وسرعان ما بدأت القضية في الانهيار. ومع مرور أشهر بل سنوات، طالبت منظمة هيومن رايتس ووتش، ووزارة الخارجية الأمريكية والأمم المتحدة نفسها لبنان بإطلاق سراح الجنرالات، وهو ما حدث بعد سنوات عديدة، عندما سحب أحد الشهود شهادته على برنامج تلفزيوني.
في أواخر عام 2007، توجه انتباه فريق الأمم المتحدة أخيرًا إلى سجلات الهاتف. وتجاهلوا في البداية عمل عيد الأولي، الذي كان في مكان ما في ملفاتهم منذ عام 2006. وبدلًا من ذلك، استأجر فريق الأمم المتحدة شركة بيانات بريطانية لتحليل بيانات الهاتف والتي اكتشفت بسرعة النمط الواضح الذي اكتشفه عيد من قبل.
وكان عيد قد وصل لأبعد من ذلك بكثير. وعندها تحول انتباه فريق الأمم المتحدة أخيرًا إلى العمل الذي يقوم به عيد؟ فدعاه أحد محققي الأمم المتحدة للقائه في شهر يناير من عام 2008. وكان الاجتماع مثمرًا، لذلك اجتمعوا مرة أخرى في الأسبوع التالي.
وفي اليوم التالي، تحديدًا في يوم 25 يناير عام 2008، كان عيد وحارسه يقودان السيارة على الطريق السريع في شرق لبنان، حينما انفجرت سيارة ملغومة مما أسفر عن مقتله، وحارسه الشخصي وشخصين آخرين تصادف وجودهم في ذلك اليوم. كان عيد يبلغ من العمر 31 عامًا فقط.
وبعد فترة وجيزة، أعلنت السلطات اللبنانية أنها لن تتمكن من الاستمرار في التحقيقات، وقامت بتقديم جميع ما لديها إلى فريق من الأمم المتحدة.
6- الهواتف
ركز المحققون اهتمامهم الآن على سجلات الهاتف المحمول. وبناءً على العمل الذي قام به عيد، ظهر أن القتلة كانوا يعملون في مجموعات، لكل منها قائد وتلتزم كل منها بإجراءات محددة. وكان الجميع في المجموعة يتصلون بالقائد، وهو يتصل بجميع مَن في المجموعة، ولكن الأفراد لا يتصلون ببعضهم البعض إطلاقًا.
أعطى المحققون كل مجموعة لونًا. فتألفت المجموعة الخضراء من 18 هاتفًا، تم شراؤها بهويات مزورة من محلين في جنوب بيروت في يوليو وأغسطس من عام 2004. ولم يكن الغرض من الهويات الوهمية الاحتيال على شركة المحمول؛ ففي كل شهر في الفترة من سبتمبر 2004 إلى مايو 2005، كان يذهب شخص إلى مكتب شركة المحمول ويدفع فواتير الهواتف الـ 18 نقدًا، دون أن يترك أي دليل على هويته.
وكانت محصلة فواتير هواتف الشبكة الخضراء، بما في ذلك رسوم التنشيط، 7375 دولارًا، وهو رقم مذهل، بالنظر إلى أن 15 من الهواتف الـ 18 ظلت تقريبًا غير مستخدمة كليًا.
بدأت أول زيادة في نشاط المكالمات في سبتمبر 2004، بعد أن أعلن الحريري استقالته مباشرة. ويؤكد الباحثون أن المجموعة الخضراء كانت في قلب المؤامرة. كان رقم الهاتف 3140023 هو رقم قائد المجموعة، بينما كانت الأرقام 3159300 و3150071 هي أرقام نائبيه (الذين كان يتصل بهما ويتصلان به بهذه الهواتف، ولكنهما لم يتصلا ببعضهما البعض مطلقًا).
وكان النائبان يحملان هواتف تنتمي إلى مجموعات أخرى، كانوا يمررون من خلالها التعليمات إلى المشاركين الآخرين في العملية. وعندما يتصل عضو من المجموعة بقائد المجموعة، فإن قائد المجموعة في كثير من الأحيان كان يتبع ذلك عن طريق التحول إلى هاتف من مجموعة الهواتف الخضراء ويتصل بالقائد الأعلى، الذي كان يتواجد دائمًا تقريبًا في جنوب بيروت، حيث يقع مقر حزب الله.
في يوم 20 أكتوبر من عام 2004، حينما غادر اليوم الحريري منصبه وتم تخفيض حراسته بشكل ملحوظ، انضمت المجموعة الزرقاء إلي العملية، وعملت في الأغلب وفقًا لنفس القواعد التي عملت بها المجموعة الخضراء، ولكنها زادت من عدد هواتفها النشطة لتصل إلى 15 بدلًا من ثلاثة فقط. وقد تم الدفع المسبق لجميع الهواتف الزرقاء التي تم شراؤها في وقت مبكر من عام 2003، ولم تستخدم إلا قليلًا.
كما قام الذين اشتروا تلك الهواتف بتقديم هويات مزورة أيضًا، والكثير من المال في مقابل الدقائق التي ينتهي كل شهر دون أن تستخدم إلى حد كبير، ولكن تم تحميل الهواتف مرارًا وتكرارًا. فعندما تم إغلاق هواتف المجموعة الزرقاء، وكان لا يزال بها دقائق متبقية بقيمة 4287 دولارًا.
ويقول المدعون إن أعضاء المجموعة الزرقاء قد تتبعوا تحركات الحريري. ففي صباح يوم 20 أكتوبر، تم نشر أعضائها بالفعل حول قصر قريطم. وفي تمام الساعة 10:30 صباحًا، توجه الحريري إلى البرلمان ومن ثم إلى القصر الرئاسي، حيث كان ينتظره لحود لتلقي استقالته. ومنذ ذلك الحين، تتبعته الهواتف الزرقاء في كل مكان تقريبًا. وحتى عندما سافر إلى الخارج، كانت تتحرك معه إلى المطار ثم تتوقف عن العمل حتى عودته، عندما بدأت في تتبعه مرة أخرى.
وفي نهاية المطاف، تم إضافة المجموعة الصفراء، وبدا أن أعضاءها الـ 13 كانوا يشاركون في عمليات المراقبة مع المجموعة الزرقاء. فعندما كان الحريري يقضي إحدى العطلات مع عائلته في بيت في فقرا في نهاية ديسمبر عام 2004، ظلت الفيلا تحت المراقبة المستمرة من قبل كل من المجموعة الزرقاء والصفراء، مع اتصالات مستمرة من قادة المجموعات إلى جنوب بيروت والعكس بالعكس. ويظهر من الطريقة التي انتقلت بها الهواتف الصفراء، أن مستخدميها كانوا يقومون بدراسة التحركات المعتادة للحريري والمواقع المحتملة للهجوم.
في يوم 25 يناير، سافر اثنان من أعضاء المجموعة الزرقاء إلى خارج المدار المعتاد، إلى حي البداوي بطرابلس حيث كانت الشاحنة الميتسوبيشي معروضة للبيع هناك منذ أواخر ديسمبر. ودخلوا في تفاوض مع البائع. وبعد بضع دقائق، اتصل واحد منهم بقائده في بيروت، ربما للحصول على موافقة على سعر الشراء، وبعد ذلك تم إجراء الصفقة.
وتقول التحقيقات إن المجموعة الأرجوانية تقوم بعملية التغطية، وأنها قامت بالإيقاع بأحمد أبو عدس، وإقناعه بالذهاب لرؤية “المفاجأة” التي وعده “محمد” بها، ثم طلبت منه تقديم الخطاب الانتحاري أمام كاميرا الفيديو، ومن المحتمل جدًا، أنهم قتلوه بعد ذلك وتخلصوا من الجثة. فبمتابعة هذه الأحداث من حيث الزمان والمكان، ظهر أنها تتزامن تمامًا مع تحركات المجموعة الأرجوانية.
قبل أيام فقط من عملية الاغتيال، اشترى شخص بطاقة الهاتف المدفوعة مسبقًا التي تم استخدامها للاتصال بقناة الجزيرة، ورويترز، من أربعة هواتف عمومية، كان واحد منهم بالقرب من الشجرة التي ترك فيها شريط عدس الذي يحمل المسؤولية للمجموعة المسماة بكتائب النصرة والجهاد في بلاد الشام. كما يتزامن موقع الهواتف المحمولة الأرجوانية مع موقع الهواتف العمومية في ذلك الوقت الذي أجريت فيه هذه المكالمات.
وكانت المجموعة الحمراء هي آخر مجموعة من الهواتف المحمولة التي شاركت في العملية. ويعتقد المحققون أن هذه الهواتف تنتمي إلى الدائرة المقربة من فريق مراقبة الحريري في الأيام التي سبقت الهجوم وإلى الانتحاري.
ربما لم يعرف القتلة أن شخصًا مثل عيد، بمهاراته غير العادية، أو فريق التحقيق الدولي، بموارده غير العادية، يمكنه أن يكشف تحركاتهم في الأشهر التي سبقت الهجوم، لكنهم تصرفوا كما لو أنهم يخشون من أن يقوم شخص بتتبع حركة الهواتف المحمولة بالقرب من فندق سان جورج في يوم الهجوم.
فتمامًا كما فعلوا عند اختيارالشاحنة، حاول القتلة توجيه المحققين تجاه المنطقة السنية حول طرابلس. فقد تم شراء الهواتف الثمانية التي تنتمي إلى المجموعة الحمراء من هناك في الفترة ما بين أواخر ديسمبر 2004 وبداية يناير 2005. كما تم تفعيلها جميعًا في نفس الوقت، وأيضًا في طرابلس يوم 4 يناير، وبدأ أصحابها في الاتصال ببعضهم لمدة 10 أخرى، عندما بدأ نشاط مراقبة الحريري في الازدياد في جميع أنحاء الشبكة.
وفي يوم 2 فبراير، قبل 12 يومًا من الهجوم، انتهت الدقائق على الهواتف، فأخذهم شخص ما في بيروت وسافر لمسافة 50 كيلومترًا إلى طرابلس، وقام بتفعيلهم هناك قبل إعادتهم إلى مستخدميهم في بيروت. وخلافًا لجميع الهواتف المحمولة الأخرى المشاركة في العملية، لم يتم استخدام الهواتف الحمراء أبدًا في المنطقة ذات الغالبية الشيعية جنوب بيروت.
ومنذ تم تفعيل هواتف المجموعة الحمراء، تولى أعضاؤها دورًا قياديًا في متابعة الحريري، الذي نادرًا ما كان يسافر إلى جنوب بيروت. وبالتدقيق في نشاط الهاتف، وجد محققو الأمم المتحدة أن نمط الشبكة يوم 8 فبراير، وذلك قبل أسبوع من الهجوم الفعلي، كان متطابقًا مع نمطها يوم 14 فبراير باستثناء الانفجار نفسه بطبيعة الحال. فقد تحرك الحريري في نفس الطريق بالضبط في ذلك اليوم.
بلغ نشاط المجموعة الحمراء ذروته في يوم التفجير، وتركز على طول الطريق الذي اتخذه الحريري إلى مبنى البرلمان وفندق سان جورج. ويقول الادعاء إن رقم هاتف الانتحاري هو 3127946. وعندما انفجرت الميتسوبيشي، أغلق الهاتف، وأغلقت المجموعة الحمراء كلها إلى الأبد.
7- سامي عيسى
تدعي النيابة أنه بالإضافة إلى الهواتف “التنفيذية“، فإن القتلة قد استخدموا أيضًا العديد من الهواتف المحمولة والخطوط الأرضية الخاصة.
وبالاعتماد على عمل عيد، ومقارنة محققي الأمم المتحدة للمناطق التي استخدمت فيها الهواتف التنفيذية ذات الصلة بالمناطق التي كانت تستخدم فيها الهواتف خاصة، وبحث الأنماط التي من شأنها أن تسمح لهم بربط الهواتف التشغيلية بأناس حقيقيين مع تاريخهم الحقيقي. يقول ممثلو الادعاء إن العديد من الرجال كانوا متورطين في المؤامرة، ولكنهم استطاعوا من خلال هذه الطريقة التعرف على هويات خمسة منهم، وهم المتهمون.
أحدهم كان حسن حبيب مرعي، الذي ولد في بيروت في عام 1965. ولم يجد ممثلو الادعاء أي حسابات مصرفية باسمه. انضم مرعي إلى حزب الله في عام 1986، وفي عام 2003 تم تعيينه كقائد القوات الخاصة لحزب الله في لبنان، والذي من شأنه أن يضعه بين كبار قادة عملية الحريري.
ويقول مسؤولون في المخابرات الإسرائيلية إنه كان وراء اختطاف جنديين إسرائيليين في 12 يوليو من عام 2006، والذي كان سببًا في الحرب التي استمرت 34 يومًا في لبنان بين إسرائيل وحزب الله.
ويقول الادعاء إن مرعي قاد المجموعة الأرجوانية، المسؤولة عن عملية التغطية. وقد تم رصد إشارات من هاتف قائد المجموعة الأرجوانية مع إشارات من واحد من الهواتف الشخصية لمرعي قرب منزله، كما ترافق الهاتف الشخصي الذي يستخدمه مرعي رقمه الذي كانت تأتيه عليه ضريبة الدخل بانتظام مع الهاتف الأرجواني، ويفترض أن مرعي قد تحرك في جميع أنحاء المدينة بكليهما.
وفي نوفمبر من عام 2004، طلب مرعي على ما يبدو عن طريق الخطأ بعض الأثاث لمنزله من رقم الهاتف الأرجواني 3572321. ووقع ورقة؛ مؤكدًا أنه قد حصل على الأثاث، ولكن عندما أدرك أن هناك خطأ في الطلب، استخدم نفس الهاتف الأرجواني للاتصال بمحل الأثاث. ويقول ممثلو الادعاء إن نفس الهاتف الأرجواني كان يتواجد دائمًا في نفس مكان هاتف قائد المجموعة الخضراء.
المتهم الثاني هو سليم جميل عياش، الذي ولد في حاروف، بلبنان، في عام 1963. وهو رجل إطفاء، وإن تبين أنه كان يعمل يومين فقط في الأسبوع. وهو قريب من القائد العسكري الأعلى لحزب الله، عماد مغنية، وقائد وحدة قوات جابر بحزب الله، الذي سمي على اسم مصنع الحلوى الذي كان يعمل به والد مغنية. وتقول النيابة العامة إن عياش قد أشرف على معظم الاستعدادات وشارك أيضًا في تنسيق حركة الشاحنة ميتسوبيشي في يوم الهجوم.
استخدم عياش 11 هاتفًا، اثنان منهم كانوا هواتف أرضية، وخمسة لأغراض شخصية، وأربعة للمجموعات التشغيلية المختلفة. وكان يذهب في كل مكان بهواتفه الشخصية والتشغيلية، وبالتالي فقد سجل دائمًا تواجدهم في نفس الأماكن.
حسين حسن أنيسي، المتهم الثالث، ولد في بيروت في عام 1974. وكان يعمل لحسابه الخاص أو كمحاسب في محل أخيه لبيع السجاد. ويقول الادعاء إنه “محمد“، الرجل الذي جذب عدس إلى المؤامرة. وكان قد طلب في البداية من رجل آخر، هو أحمد لبدة، أن يعلمه الصلاة، لكن لبدة قال له إنه كان مشغولًا جدًا، وأوصاه بعدس. (وافق لبدة على الإدلاء بشهادته في لاهاي، ولكنّ شخصًا ما سرب اسمه لصحيفة لبنانية).
ولد المتهم الرابع، أسعد حسن صبرا في بيروت في عام 1976. وتسرب من المدرسة في سن الـ 15، وخدم في الجيش، ثم عمل كرسام وبائع أحذية، ومهن أخرى. ويقول الادعاء إنه كان أيضًا جزءًا من المجموعة الأرجوانية تحت قيادة مرعي.
لكن أهم المتهمين، هو مصطفى أمين بدر الدين، الذي ولد في عام 1961. ومثل عياش، هو ابن عم مغنية، وهو أيضًا متزوج من شقيقة مغنية. وكان يمثل لسنوات عديدة زميل مغنية الأكثر ثقة، ويعتقد أنه قد شارك في بعض العمليات الأكثر إثارة لحزب الله. وكان بدر الدين جزءًا من خلية حزب الله التي هاجمت السفارة الأمريكية في الكويت في عام 1983، مما أسفر عن مقتل ستة أشخاص. (وألقي القبض عليه من قبل السلطات الكويتية وكان يقضي حكمًا بالسجن مدى الحياة هناك عندما غزا جيش صدام حسين الكويت في عام 1990. وفي الفوضى التي تلت ذلك، هرب بدر الدين للسفارة الإيرانية في مدينة الكويت، ومن هناك، نقله أعضاء الحرس الثوري الإسلامي إلى طهران، ثم عاد إلى بيروت، حيث استأنف على الفور مهام عمله العادية).
وقد شملت معظم عمليات بدر الدين مساعدة العناصر الجهادية خارج لبنان. ووفقًا لأحد عناصر الاستخبارات في المنطقة، كان بدر الدين قائد الوحدة 1800، التي حرضت على الأعمال الإرهابية ضد إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقام أيضًا بتنسيق أنشطة الوحدة 2800، التي كانت مسؤولة عن تعزيز الهجمات ضد القوى السنية في العراق، فضلًا عن القوات الأمريكية والبريطانية خلال الحرب على العراق.
وبعد اغتيال الموساد لمغنية في عام 2008، تولى بدر الدين معظم مهامه. وكان هو نفسه هدفًا للاغتيال في يناير، عندما أطلقت طائرات بدون طيار إسرائيلية النار على مجموعة من سبعة رجال في سوريا؛ مما أسفر عن مقتل جنرال إيراني وستة أعضاء من حزب الله، بما في ذلك جهاد مغنية، ابن عماد. وكان بدر الدين قد تسرب من التجمع في اللحظة الأخيرة.
ويبدو أن بدر الدين كان يعيش حياة ثانية تحت اسم سامي عيسى. وجاب بدر الدين (أو عيسى) الأعرج في ساقه اليمنى، وصاحب النظارات الرياضية وقبعة البيسبول، والسيارة المرسيدس اللامعة والحراس الشخصيين، لبنان طولًا وعرضًا. ويقول الادعاء إن بدر الدين/عيسى كان يحمل ما لا يقل عن 13 هاتفًا في وقت اغتيال الحريري. ولم تتصل هذه الهواتف أبدًا ببعضها البعض. وقد استخدم اسم عيسى في بعض الرسائل النصية التي بعثها، وكذلك اسم سامي سامينو، أو سامينو فقط الذي هو أيضًا اسم متجر المجوهرات الذي أداره في شخصية عيسى.
استخدمَ اثنين من الهواتف الشخصية لعيسى في جميع أنحاء لبنان بتزامن مطلق مع رقم الهاتف 3140023 الأخضر التابع للقائد الأعلى لشبكة اغتيال الحريري. كما استخدمت الهواتف الشخصية أيضًا في إجراء عدة مكالمات إلى أرقام لحزب الله. وتقول النيابة إنه في الليلة السابقة للهجوم، كان بدر الدين، عياش ومرعي على اتصال مستمر.
وفي اليوم التالي، اتصل هاتف عياش الأخضر بهاتف بدر الدين الأخضر قبل دقيقتين من الانفجار من مكان قريب جدًا من فندق سان جورج. واستمرت المكالمة 14 ثانية. وكانت هذه هي آخر مكالمة على الشبكة الخضراء.
وبعد وقت قصير، قال الادعاء إن بدر الدين قد أجرى عدة مكالمات إلى أرقام مجهولة، باستخدام واحد آخر من هواتفه. وتشير المعلومات التي حصلت عليها المحكمة إلى أنه قد تحدث إلى عماد مغنية، القائد العسكري الأعلى لحزب الله، ربما للحصول على الترخيص النهائي للعملية. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، وبطريقة غير معهودة أبدًا من بدر الدين، ظلت كل هواتفه النقالة مغلقة لمدة ساعتين.
8- الاتهام
في عام 2009، قرر فريق الأمم المتحدة أنه لا يمكنه تحقيق أي تقدم أكثر داخل لبنان، وأنه قد أصبح معبأ بجميع الأدلة، بما في ذلك البقايا المحترقة للسيارات الست، فعاد إلى هولندا. وأنشأ مجلس الأمن المحكمة.
لكن حزب الله ظل متعنتًا. وفي يوم 12 يناير 2011، طالب حزب الله سعد الحريري، نجل رفيق الحريري ورئيس وزراء لبنان في ذلك الوقت، برد جهود المحكمة. وعندما رفض عقد اجتماع طارئ لمجلس الوزراء، انسحب وزراء حزب الله من الحكومة وانهارت الحكومة. وكان لبنان على شفا حرب أهلية مرة أخرى، وتوقع الخبراء أنه إذا صدرت لوائح الاتهام، فإن حزب الله لن يسكت. وطار العديد من القادة العرب في بيروت لتهدئة الوضع. وساعد ذلك على الأقل في الوقت الراهن.
وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، قام رئيس النيابة، دانيال بلمار، بتقديم لائحة اتهام؛ ولكن لم يكشف عن أسماء المتهمين. وفي شهر يونيو، أعلن أربعة أسماء. (لم توجه اتهامات لمرعي سوى في عام 2013).
ومع وضع اللمسات الأخيرة على لوائح اتهام، أرسل فريق من الأمم المتحدة مذكرات اعتقال للحكومة اللبنانية. وأصدر الإنتربول مذكرة اعتقال في نفس الوقت. ولم يكن مفاجئًا عندما ذكرت السلطات اللبنانية أنها لا تستطيع القبض على المشتبه بهم. لكنّ موظفي المحكمة انتقدوا بشكل حاد عدم قدرة الحكومة على السيطرة على حزب الله.
ووفقًا للمعلومات التي حصلت عليها المحكمة، أنه في وقت ما من عام 2009، عندما علم حزب الله بتزايد الأدلة ضد عناصره، طلب منهم حسين مهدوي، ممثل قائد الحرس الثوري الإيراني في لبنان، الاختفاء. وكان الوحيد الذي لم يمتثل للأمر هو بدر الدين، الذي رفض التخلي عن نمط الحياة الفاخرة، واستمر في استخدام هويته الثانية كسامي عيسى.
ولكن التحقيقات والمحاكمة قد نجحت في التسبب في أضرار كبيرة لحزب الله. فقد كشفت هويات بعض من عناصرها الكبار، مما سيضطر هؤلاء الرجال إلى اتخاذ تدابير إضافية ليبقوا في الخفاء.
كما إن موظفي المحكمة مقتنعون بأنه بسبب تحقيقاتها، توقف حزب الله بالفعل عن استخدام شبكات الهواتف العامة لصالح الهواتف المغلقة، وهي الخطوة التي جعلت تنفيذ عملياتهم أكثر صعوبة وتعقيدًا.
وعلى المدى الطويل، اهتزت مكانة حزب الله داخل لبنان بسبب هذه المزاعم. فمنذ نشأتها، صورت المجموعةُ نفسَها على أنها راعية لجميع اللبنانيين، وليس فقط الشيعة. ولكن المحكمة أثبتت غير ذلك. كما أن نصر الله، الأمين العام لحزب الله لم يترك مخبأه في جنوب بيروت تقريبًا منذ حرب حزب الله مع إسرائيل في عام 2006، خوفًا من القتلة والطائرات بدون طيّار الإسرائيلية.
رونين بيرغمان – نيويورك تايمز (التقرير)