لم تعد “وكالة المخابرات المركزية” الأمريكية تنفّذ عمليات الاغتيال كثيراً، ولكنها عندما تفعل ذلك فهي تختار أهدافها بعناية. وفي الواقع أن الخبر الذي نشرته صحيفة “واشنطن بوست” ومجلة “نيوزويك” في نهاية الأسبوع الماضي عن دور “وكالة المخابرات المركزية” في اغتيال الإرهابي الكبير في «حزب الله» عماد مغنية في شباط/فبراير 2008 أشبه بأفلام التشويق والتجسس الهوليوودية: فريق من مراقبي “وكالة المخابرات المركزية” في دمشق يتعقب إرهابياً من «حزب الله» مطلوباً منذ عقود؛ متفجرات مصنوعة خصيصاً، مصممة لقتل الشخص المستهدف وحده، ومزروعة في العجلة الاحتياطية لشاحنة مركونة على الطريق المؤدي إلى منزل الهدف؛ استخبارات جمعها الإسرائيليون، مقرونةً بعبوة ناسفة مصنوعة ومختبرة في ولاية كارولينا الشمالية فيي الولايات المتحدة، للقضاء على رجل مسؤول عن مقتل أمريكيين أكثر من أي شخص آخر حتى أحداث 11 أيلول/سبتمبر.
ومع ذلك، ففي حين أن ‘ماهية’ و’مكان’ و’زمان’ والـ ‘كيفية’ المتعلقة بالخبر تثير الصدمة والذهول، لا يجدر بـ ‘الأمر’ نفسه أن ينطبق على الفاعل. فقد افترض معظم الناس – ومن ضمنهم «حزب الله» – أن الإسرائيليين هم وحدهم من قتلوا مغنية. ولا شك في أن الدافع قائم لدى الإسرائيليين أيضاً نظراً إلى دور مغنية في الأعمال الإرهابية التي استهدفت الإسرائيليين واليهود حول العالم، بدءاً من إدخال العناصر تسللاً إلى إسرائيل وإطلاق الصواريخ عليها، ووصولاً إلى الاعتداءات الإرهابية التي استهدفت الدبلوماسيين الإسرائيليين والمجتمعات اليهودية المحلية في مناطق مثل بوينس آيرس. وفي اتصال هاتفي مصور أجراه في مأتم مغنية في عام 2008، سارع زعيم «حزب الله» السيد حسن نصرالله إلى تهديد إسرائيل بشن “حرب مفتوحة” بسبب مقتل الحاج رضوان (أي مغنية).
ولكن الدافع قائم لدى “وكالة المخابرات المركزية” أيضاً. وبالنسبة للعديد من أفراد الوكالة – وهي قضية ذاكرة مؤسساتية – فالبحث عن عماد مغنية هو مسألة شخصية. فقد كان مغنية المسؤول عن تفجير السفارة الأمريكية في بيروت عام 1983 حيث دُمّرت محطة “وكالات المخابرات المركزية” بالكامل مما أسفر عن مقتل الرئيس الزائر لفرع التحليل في الشرق الأوسط التابع للوكالة. (وفي الواقع تسرّب الخبر عن دور “وكالة المخابرات المركزية” في مقتل مغنية للمرة الأولى في سيرة حياة رئيس الفرع المذكور – روبرت إيمس – التي كتبها كاي بيرد وتم نشرها العام الماضي). وقد قيل إنّ مغنية خطط لتفجير مقر قوات المارينز الأمريكية في عام 1983 وراقب الاعتداء عبر المنظار من على سطح مبنى مجاور. وقد كانت له يدٌ في «حزب الله» من ألمانيا إلى الكويت ومن الأرجنتين إلى تايلاند.
وهذا التاريخ الدموي وحده كفيلٌ بوضع مغنية في خانة خاصة، ولكنّ أمراً آخر جعل من مطاردة مغنية مسعى ثأرٍ شخصي للغاية. وثمة سببٌ دفع أكثر من عنصر في “وكالة المخابرات المركزية” إلى رفض استلام مهام أخرى على ما قيل وإلى التخلي عن الترقيات من أجل البقاء في الفريق العامل على ملف «حزب الله». ويتمثل هذا السبب بشخص هو بيل باكلي.
فقبل وقت طويل من الجلبة الإعلامية التي تثيرها فورة الخطف واحتجاز الرهائن التي يقوم بها حالياً تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية»، كان «حزب الله» قد أحدث أزمة رهائن عالية المستوى في الشرق الأوسط. وقد دامت فورة الخطف التي قام بها «حزب الله» في لبنان نحو عقدٍ من الزمن، لكنها لم تكن واضحة ومباشرة على الدوام. فبعض عمليات الخطف تمت على يد فصائل أو عشائر تابعة لـ «حزب الله» – ولكلٍّ منها اسمها المستعار الخاص بها – بطريقة انتهازية هدفها مثلاً ضمان تحرير قريبٍ لها من السجن. وتضمّن بعضها الآخر إرسال رجال ذوي تدريب متدنٍّ لخطف الناس من الطرقات؛ وقد تم اختطاف العديد من الأشخاص لأن الخاطفين ظنوا خطأً أن هؤلاء كانوا مواطنين أمريكيين أو فرنسيين. ووفقاً لوصف أحد المحتجزين، غالباً ما كان الخاطفون المكلفون على حراسة السجناء الغربيين “مسلمين بسطاء بل متعصبين”. وفي المقابل، دلّ اختطاف مدير محطة “وكالة المخابرات المركزية” وليام باكلي في آذار/مارس 1984 على عناية في اختيار الهدف وفي المراقبة العملياتية، على الأرجح بدعمٍ من المخابرات الإيرانية. فقد نُقل عن أحد المصادر أنّ إيران زودت «حزب الله» ببعضٍ من المعلومات الاستخباراتية التي استخدمها التنظيم للتعرف على باكلي بصفته المدير المحلي لمحطة “وكالة المخابرات المركزية”، وذلك استناداً إلى المواد التي تم الاستيلاء عليها خلال احتلال السفارة الأمريكية في إيران عام 1979.
أما باكلي فكان قد أُرسل إلى بيروت في عام 1983 لإنشاء محطة جديدة لـ “وكالة المخابرات المركزية” بعد تدمير المحطة السابقة في تفجير السفارة الأمريكية في نيسان/أبريل. وقد سقطت عملية اختطافه كالفاجعة على “وكالة المخابرات المركزية”، وفي هذا السياق قال أحد كبار المسؤولين في الوكالة “إن اختطاف بيل باكلي أدى مبدئياً إلى إيقاف جميع الأنشطة الاستخباراتية لـ ‘وكالة المخابرات المركزية’ في البلاد.” ولكن الوكالة كانت تملك المصادر اللازمة لتحدد في غضون ستة أشهر أن «حزب الله» هو من يحتجز باكلي. وأضاف المسؤول المذكور قائلاً إن العثور على باكلي كان أولوية مطلقة لدى مدير “وكالة المخابرات المركزية” وليام كيسي. ووفقاً للمسؤول نفسه، “أوشك أن يذهب إلى أقاصي الأرض لإيجاد سبيل لاسترجاع باكلي، وللتعامل مع أيٍّ كان وبأي شكل أو هيئة أو طريقة من أجل استرجاع باكلي. وقد فشل في مسعاه هذا، لكن هذا الأمر كان محفزاً كبيراً في قضية إيران – كونترا. حتى أننا تعاملنا مع الشيطان… الإيرانيين، الذين دعموا «حزب الله»، الذي دعم عملية خطف بيل باكلي وفي النهاية مقتله.”
وحيث استاء «حزب الله» من عجزه عن تحقيق مآربه من خلال خطف الطائرات والأشخاص، أرسل صوراً لستّ رهائن إلى عدة صحف بيروتية في أيار/مايو 1985. وقد لفتت “وكالة المخابرات الأمريكية” إلى أن “جميع الرهائن في الصور بدوا بصحة جيدة إلى حد كبير، باستثناء المسؤول السياسي في السفارة الأمريكية باكلي الذي كان محتجزاً لمدة أطول من الآخرين.”
وحتى بعد مرور عام على اختطاف باكلي، كانت الوكالة تحمي هويته بشدة – حتى في تقاريرها السرية الخاصة – فتصفه بالدبلوماسي في السفارة خوفاً من تعرضه للأذى إذا ما تم الكشف عن انتمائه إلى “وكالة المخابرات المركزية”. (كان هذا التقييم في محله، إلا أن «حزب الله» كان يعلم بالفعل أنه مسؤول في الوكالة – وفي الواقع، تم استهدافه لهذا السبب).
لقد تعرض باكلي للتعذيب على أيدي محققين لبنانيين وإيرانيين كما قيل. ولاحقاً صرحت رهينة أخرى هي ديفيد جاكوبسون أن باكلي كان محتجزاً في زنزانة يفصلها عن زنزانته جدار قليل السماكة. “كان من الواضح أنه مريض جداً. فقد كنت أسمعه يتهوّع بين نوبة سعال وأخرى”. ويتذكر شخصٌ آخر كان محتجزاً مع هذين الرجلين أن باكلي كان يهلوس، فعلى ما يبدو أعلن باكلي يوماً في الحمام “سوف أتناول الكعك الساخن مع عصير التوت الآن.”
وكذلك ورد أن «حزب الله» أرسل إلى “وكالة المخابرات المركزية” ثلاثة أشرطة مصورة يتم فيها تعذيب باكلي، وكل شريط كان مفجعاً أكثر من الآخر. وفي الواقع أن هذه الأشرطة دخلت ضمن الخبرة المكتسبة لدى الوكالة حيث تم تناقلها من العناصر المتمرسين في القضايا إلى العناصر الجدد. إذ ما كانت الوكالة لتنسى سريعاً ما فعله «حزب الله» بأحد أفرادها.
ووفقاً لبعض المصادر، تم نقل باكلي عبر وادي البقاع إلى إيران؛ ويقول آخرون أنه دُفن في قبر غير محدد في لبنان. وفي حين أعلنت “منظمة الجهاد الإسلامي” التابعة لمغنية أنها قتلت باكلي في تشرين الأول/أكتوبر 1985، كشف رفاقه الرهائن فيما بعد أنه توفي قبل أشهر من ذلك التاريخ نتيجة التعذيب الذي تعرض له ربما على يدي مغنية نفسه. ويقول الرهينة السابقة ديفيد جاكوبسون، عندما توفي باكلي في الأسر، اختناقاً بالسوائل التي ملأت رئتيه نتيجة التعذيب كما يقال، فإن الأمر “صدم فعلاً خاطفينا”.
ولم يفاجأ أحدٌ من المعنيين بسياسة الشرق الأوسط حين قامت “وكالة المخابرات المركزية” الأمريكية في ربيع عام 1985 بوصف تحول بيروت الغربية من مركز تجاري وثقافي في العالم العربي – باريس الشرق الأوسط – إلى “منطقة عسكرية خارجة عن القانون تتنازع عليها الفصائل الطائفية والإيديولوجية.” وقد عنونت الوكالة تقريراً تحليلياً عن الموضوع “بيروت الغربية الجامحة” مشيرةً إلى أن “حرب العصابات والإرهاب وتفشي الجرائم في الشوارع وغياب السلطة المركزية كلها جعلت المدينة غايةً في الخطورة على السكان والأجانب ككل.” ولكن تحت النبرة الهادئة والمتجردة لتقييم الوكالة كان يكمن غضبٌ محتقن ورغبة بالثأر من غير المحتمل أن يتبددا مع الوقت.
وفي نهاية المطاف، نقل «حزب الله» تركيزه من احتجاز الرهائن الغربيين إلى تكتيكات أخرى. وقد أفاد تقرير صادر عن “مكتب التحقيقات الفيدرالي” في عام 1994 في تلخيص للوضع أن ” لـ «حزب الله» تاريخ شهير باختطاف الرهائن الغربيين خلال الحرب الأهلية في بيروت. وبين عامَي 1982 و1991، اختطف «حزب الله» واحتجز 44 رهينة غربية على الأقل، من بينهم 17 أمريكياً توفي ثلاثة منهم في الأسر.” لقد كان بيل باكلي من و”كالة المخابرات المركزية” أحد هؤلاء الثلاثة. ولكن عند كتابة هذا التقرير كان «حزب الله» قد انتقل إلى عمليات إرهابية أكثر ضخامة، غالباً ما كانت تنفذ خارج الحدود اللبنانية. وقد أشار “مكتب التحقيقات الفيدرالي” إلى أن “قادة «حزب الله» يعتبرون الآن أن احتجاز الرهائن الغربيين يأتي بنتائج عكسية”، مضيفاً تحفظاً مفاده أن “بعض العناصر داخل التنظيم لا تزال تطالب باستئناف عمليات الخطف”. ويسود الاعتقاد على نطاق واسع أن هذه “العناصر المعيّنة” كانت تضم مغنية وأفراد آخرون من الفصيل المتشدد في «حزب الله».
ويمثّل مغنية، ومعه حسن نصر الله، الجناح المتطرف لـ «حزب الله». وعند دخول «حزب الله» في معترك السياسة اللبنانية للمرة الأولى، تكهنت “وكالة المخابرات المركزية” أنه إذا جاءت مثل هذه الخطوة على حساب المنحى القتالي للتنظيم، فقد تنشق عنه العناصر الأكثر تطرفاً أمثال نصر الله أو مغنية. لكن «حزب الله» تفادى هذه الحصيلة ليس فقط من خلال الإبقاء على أنشطته العسكرية والإرهابية حتى إبّان انخراطه في الحياة السياسية، ولكن أيضاً لأنّ وصول نصر الله إلى منصب الأمين العام ضَمن بقاء التنظيم على مسار التطرف.
وبعد مضي أربع وعشرين عاماً على اختطاف بيل باكلي، نالت “وكالة المخابرات المركزية” ثأرها. وقد أعلن عنصر سابق في الوكالة لمجلة “نيوزويك” أن التصريح علناً عن دور الوكالة في مقتل مغنية كان يجب أن يحصل منذ وقت طويل، وقال “هذه رسالة مفادها أننا سنتعقب أثركم مهما استغرق الأمر. ويجب أن يعرف الطرف الآخر ذلك.”
والآن باتوا يعرفون. لكن السؤال هو: هل يشك أحد في أن ذاكرة «حزب الله» طويلة المدى هي بقدر ذاكرة “وكالة المخابرات المركزية”؟ لربما من الأفضل ترك بعض الأمور طي الكتمان فلا تبقى سوى القدرة المعقولة على الإنكار التي يفترض أن تقترن بالعمليات السرية.
ماثيو ليفيت هو زميل فرومر- ويكسلر ومدير برنامج ستاين للاستخبارات ومكافحة الإرهاب في معهد واشنطن.