دُفن العاهل السعودي الملك «عبدالله بن عبدالعزيز» يوم 23 يناير/كانون الثاني في قبر بلا علامة في مقبرة عامة بالعاصمة السعودية الرياض. وإذا كانت المراسم مُصممة لإظهار التواضع، فقد كشفت قائمة الضيوف حقيقة نفوذه؛ فقد جاء زعماء من مختلف أنحاء العالم إلى مقبرة الملك الراحل لتقديم العزاء في واحد من أكثر الرجال نفوذا في الشرق الأوسط على مدار فترة إدارته للبلاد التي وصلت عمليا إلى 19 عاما.
من كل ركن من أركان المعمورة جاءت عبارات الثناء والمديح على «عبد الله». «فقد الشعب العربي قائدا عظيما قدم الكثير لأمته وشعبه»؛ هكذا قال الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي». أما رئيس الوزراء البريطاني السابق «توني بلير» الذي ”يعرفه جيدا ويقدره كثيرا“ فقد وصف «عبد الله» بأنه «مُجدّد تميز بالصبر والمهارة». ونعاه الرئيس «باراك أوباما» مؤكدا أنه «اتخذ خطوات جريئة لدفع مبادرة السلام العربية، وهو المجهود الذي سيخلد ذكراه باعتبارها مساهمة دائمة في البحث عن السلام في المنطقة».
وانهال النعي للراحل «عبد الله» في جميع أنحاء العالم؛ من صحيفة «نيويورك تايمز» إلى «الشرق الأوسط» القومية العربية، بالثناء على المتوفى مؤخرا.
إصلاحات متواضعة وسحق للمجتمع المدني
ولكن الإرث الذي تركه الملك الراحل «عبد الله» وراءه ليس السلام الإقليمي ولا حتى التقدم المحلي. ففي الوقت الذي شهد بعض الإصلاحات الاجتماعية المتواضعة؛ مثل برنامجه للمنح الدراسية للتعليم الأجنبي، بقيت الملكية في مكانها مدعومة بمؤسسة دينية قمعية، كما استمرت في القضاء على أي نوع من المعارضة. إجراء فحص سريع لحقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية خلال حكم الملك الراحل «عبد الله» يدحض سريعا مفهوم الملك كـ«مُصلح».
وصرح الملك «عبد الله» خلال مقابلة مع «باربرا والترز» في عام 2005 «أؤمن إيمانًا لا شك فيه بحقوق المرأة، أمي امرأة، وأختي امرأة، وابنتي امرأة، وزوجتي امرأة». كما أكد على أن المرأة ستُمنح حق قيادة السيارة؛ وهي القضية التي يدفع خلفها المدافعون عن حقوق النساء في المملكة منذ عام 1990. «أعتقد أنه سيأتي اليوم الذي تقود فيه المرأة السيارة. وفي الواقع؛ إذا نظرتم إلى المناطق في المملكة العربية السعودية والصحارى والمناطق الريفية فستجدون النساء يقدن السيارات. وتتطلب القضية المزيد من الصبر. وأعتقد أنه في الوقت المناسب سوف يُصبح الأمر ممكنًا». لقد أكسب هذا النوع من الخطاب الملك «عبد الله» تعاطفا من رعاياه.
وبشكل سيئٍ للغاية كان الخطاب أجوفا. أربعة على الأقل من أصل 15 بنتا للملك «عبد الله» تردد أنهن قيد الإقامة الجبرية، وكان ذلك لأكثر من 14 عاما. ولم توجه إليهن اتهامات بأي جرائم ولكن – وفقا لمقابلة مع أحد الأميرات – فإنه يتم احتجازهن لأنهن أردن تسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان في المملكة. وعندما طالبت النساء حق قيادة السيارات خلال حكم الملك «عبد الله» أُلقي القبض عليهن وتم تهديدن مُؤخرا بمحاكمتهن بتهم تتعلق بالإرهاب. «لوجين الهذلول» و«ميساء العمودي» تحديتا حظر القيادة ما عرضهما للمحاكمة قبل أسابيع من لقاء الملك «المُصلح» بخالقه.
الإرهاب؛ مسألة تردد أن الملك الراحل كان شريكًا موثوقا به لحلفاء السعودية في الغرب، وفي الوقت ذاته كان هراوته المفضلة التي يقرع بها أي خصوم له. وفي ديسمبر/كاون الأول 2013 صدر قانون جديد لمكافحة الإرهاب بموجب مرسوم ملكي كان ضمن بنوده مادتان صريحتان لإسكات المعارضة. وكان أول ”إرهابي“ يُحاكم ويُدان بموجب القانون «وليد أبو الخير»؛ وهو محام بارز وداعية حقوق الإنسان. وحكم عليه بالسجن لمدة 15 عاما في السجن بتهمة ”التحريض الرأي العام“. ما هي جريمة «أبو الخير» الحقيقية؟ إنشاء فريق لمراقبة حقوق الإنسان. زوجة «أبو الخير» – سمر بدوي – تمّ منعها من السفر لحضور منتدى حقوق الإنسان الذي يرعاه الاتحاد الأوروبي.
من ناحية أُخرى؛ فإن الإرهابيين الحقيقيين مثل «الدولة الإسلامية» في مراحلها الأولى تلقت الدعم المالي واللوجستي من حكومة الملك «عبد الله» في الرياض. رئيس المخابرات السعودية «الأمير بندر بن سلطان» كان يُقال إنه كان لاعبا رئيسيا في تسليح جماعات المعارضة التي تقاتل النظام السوري. وعلى الرغم من أن المملكة العربية السعودية تحظر رسميا الانضمام إلى الجهاد في سوريا، إلا إنها لم تقم بخطوات تحقق ذلك على أرض الواقع.
والسؤال الآن: ما هي الأولويات التي كانت على أجندة الملك «عبد الله»؟ أعظمها؛ سحق أي محاولات لخلق مجتمع مدني معتدل ومنفتح. وتمّ تمرير التشريع – كله جاء في شكل مراسيم ملكية – لاستهداف النشطاء الذين يسعون إلى تعزيز حقوق الإنسان.التشكيك في السلطات الدينية، والتواصل مع المنظمات الدولية لحقوق الإنسان أو وسائل الإعلام، أو حتى حضور المؤتمرات التي تنتقد سياسات البلاد جميعها أعمال تضع صاحبها تحت تهمة ”الإرهاب“. وفي عام 2013، حُكم على «محمد فهد القحطاني» الذي أسس «جمعية الحقوق السياسية والمدنية السعودية» بالسجن لمدة 10 سنوات.
ولا نغفل ما يخص المجال الإليكتروني والمعلوماتي. فالمادة 6 من قانون الجرائم الإلكترونية الذي أقره مرسوم ملكي في عام 2007 ينصّ على أن الشخص يمكن أن يصدر ضده حكمٌ بالسجن لمدة تصل إلى خمس سنوات أو غرامة تصل إلى ثلاثة ملايين ريال سعودي (حوالي 800 ألف دولار أمريكي تقريبا) بسبب إنتاج أوإعداد أو إرسال أو تخزين مواد يُنظر إليها أنها تُؤثر على النظام العام أو القيم الدينية أو الآداب العامة. وهذا القانون حُجة ووسيلة تُستخدم باستمرار في ملاحقة النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان. وحتى التغريد برأي مثير للجدل يتعلق بالدولة أو رجال الدين الرسميين أو تأسيس جمعية للمواطنين العاطلين عن العمل قد يعرض صاحبه للحبس بتهمة تهديد السلم الوطني أو تشويه سمعة المملكة.
إجراء إصلاحات قانونية حقيقية في المملكة العربية السعودية – أنواع الإصلاحات التي في صالح المواطنين بالفعل – ليست من السهولة بمكان. وقد تم صياغة قانون من شأنه أن يقنن منظمات المجتمع المدني من قبل مجلس شورى (أقرب ما يكون لدى السعودية إلى البرلمان) لمدة عشر سنوات دون أن يُسنّ. وتمّ رفض قانون من شأنه أن يحمي المرأة من الإيذاء في أماكن عملها من قبل المجلس في عام 2012 على أساس أنه من شأنه أن يشجع النساء على العمل جنبا إلى جنب مع الرجال.
السياسة الخارجية لم تكن على الجانب الصحيح
لذلك دعونا نتفق على أن نختلف بشأن ما إذا كانت سنوات الملك «عبد الله» في السلطة كانت نعمة فيما يتعلق بإصلاحات الحقوق المدنية التي يبدو أن مادحيه يتذكرونها. ولكن هل كانت سياسته الخارجية على الجانب الصحيح من التاريخ؟
خلال الانتفاضات التي أثارت العالم العربي في السنوات الأخيرة، فإن الرياض بتوجيه الملك «عبد الله» كانت قوة للاستقرار المحافظ. وفي مارس/آذار من عام 2011، أرسل الملك «عبد الله» الآلاف من الجنود والعربات المدرعة إلى البحرين للمساعدة في إخماد انتفاضة مؤيدة للديمقراطية هناك. وعندما هرب الديكتاتور التونسي «زين العابدين بن علي» من بلاده خلال الثورة لم يجد ملاذا إلا المملكة العربية السعودية. عندما قام الجنرال المصري «عبد الفتاح السيسي» بانقلابه العسكري في مصر في يوليو/تموز 2013 ضد رئيس منتخب ديمقراطيا كان ذلك بمباركة الملك «عبد الله بن عبدالعزيز».
لقد كان شعار الملك «عبدالله» الاستقرار في كل شيء. وربما لم يكن هناك دعامة تحتاج للحفاظ على استقرارها ورسوخها أكثر من علاقة الرياض بواشنطن. المصالح الرئيسية للولايات المتحدة – بالطبع – تتمثل في القضايا الإقليمية مثل مواجهة التهديد النووي الإيراني، ومكافحة المتشددين الإسلاميين، فضلاً عن استمرار الوصول إلى احتياطيات النفط الهائلة في المملكة العربية السعودية. وكانت هذه الأولويات غير ملائمة تماما للشعب السعودي. إنها تفوق إلى حد كبير أي اهتمام بالديمقراطية والإصلاح السياسي وحقوق الإنسان.
ووقفت إدارة «أوباما» لا تحرك ساكنا في عهد الملك الراحل «عبد الله» عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان. وعلى الرغم من بعض الإشارات البسيطة – مثل قرار «ميشيل أوباما» بعدم ارتداء الحجاب أثناء زيارتها الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية – فإن الأولويات الحقيقية للولايات المتحدة واضحة. بل تحدث الرئيس بصراحة عنهم لشبكة «سي إن إن» الإخبارية الأمريكية قبيل توجهه لتقديم العزاء في الملك الراحل قائلاً: «في بعض الأحيان علينا أن نوازن حاجتنا للتحدث معهم حول قضايا حقوق الإنسان مع المخاوف الفورية التي لدينا من حيث مكافحة الإرهاب أو التعامل مع الاستقرار في المنطقة».
إرث الملك «عبد الله»
هل ينبغي أن يعلق السعوديون آمالهم على أن هذا سيتحسن مع خروج الملك «عبد الله» من الصورة؟
يبدو أن الملك «سلمان» المتوّج حديثا – الأخ غير الشقيق للملك «عبد الله» – مماثلا للملك الراحل في كل شيء؛ حيث إن «سلمان» يمتلك نفس الآراء التقليدية حول الحكم المحلي والسياسة الإقليمية والعلاقات مع الولايات المتحدة. وعندما التقى «أوباما» مع الملك «سلمان» في وقت سابق من هذا الأسبوع، أكد الملك الجديد أنه سوف يواصل عمله على النحو المعتاد.
وأعلن يوم الخميس الملك «سلمان» أنه سيُجري تعديلات في وزارته. ووطد هذا التحرك سلطته، ولكن أظهر أيضا في الوقت ذاته ما هي أولوياته. واستعان الملك «سلمان» برجال الأعمال والمقربين في مناصب وزارية قوية، كما عيّن ابنه رئيسا لمجلس اقتصادي وتنموي مع 22 وزير تحت قيادته شخصيا. وثبّت ابن أخيه «محمد بن نايف» في وزارة الداخلية وأضاف إليه رئاسة مجلس الأمن القومي الجديد الذي سوف يطبق إجراءات أمنية مُفرطة وضعها الملك «سلمان». لقد أصبح من الواضح الآن أنه حتى مع رحيل الملك «عبد الله»، فإن إرثه لا يزال حيّا. وهو إرث لا يمت إلى الإصلاح بصلة.
سيمون كوكس، فورين بوليسي
ترجمة: الخليج الجديد