في توقيت حرجٍ بالغ الحساسية على المستويين الاقليمي والدولي، رحل الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، تاركاً وراءه حمما ملتهبة في 5 دول محيطة بالمملكة تشهد ثورات لم تتبين مساراتها بعد، ولم يعرف أحد مدى تأثيراتها على السعودية في ظل ارتداد تبعاتها وزلازلها في أرجاء العالم كله، إضافة إلى أزمة اقتصادية مرتقبة إثر انهيار أسعار النفط الذي تعتمد عليه المملكة، كما يترك وضعا سياسيا غامضا وملتبسا في ظل تنامي الحديث عن صراع داخل الأسرة الحاكمة، وهو ما ينفيه الديوان الملكي بشدة.
ورغم أن عبد الله لم يمكث في الحكم إلا مدة عشر سنوات التي تعد قصيرة مقارنة بمدد الملوك السابقين، فإن مراقبين يرون أنه كان الحاكم الفعلي منذ مرض الملك فهد عام 1995، وخاض خلال فترة حكمه العديد من المعارك، وقاتل في عدة جبهات وانحاز لأطراف متفرقة في صراعات عديدة.
ولد الملك الراحل في العام 1924، وهو ابن الملك المؤسس عبد العزيز بن سعود آل سعود، جابهت السعودية خلال فترة حكمه أزمات عصيبة، كان أهمها وأعمقها الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها شرقي البلاد في العام 2011 بالتزامن مع موسم ثورات الربيع العربي، وهي الاحتجاجات التي دفعت الملك إلى تقديم أعطيات غير مسبوقة للسعوديين من أجل تهدئتهم، حيث ضخ من خارج الموازنة أكثر من 100 مليار ريال، ومنح السعوديين مساكن وأطلق مشاريع ضخمة أدت إلى تشغيل عشرات الآلاف، حتى تمكن من احتواء الاحتجاجات التي نشبت في أنحاء مختلفة من المملكة وتركزت في الشرق، وتحديداً في مدينة القطيف ومنطقة الإحساء.
مزيج التناقضات
وقدم عبد الله نفسه باعتباره مصلحًا، ووصل إلى السلطة محاطا بآمال كبيرة، فالمملكة التي ورثها كانت أكبر مصدر للنفط في العالم، وحاضنة أهم المعالم الإسلامية وأكثرها قدسية على الإطلاق، ومركز العالم العربي من حيث الموقع الجغرافي، وكانت لها علاقات طيبة بمعظم جيرانها العرب.
غير أنه يمكن اعتبار الملك الراحل مزيجاً من أمور متضاربة؛ لقد استفاد ما يزيد على ٧٠ ألف طالب من منح قدمها لهم للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوروبا وفي أستراليا، إضافة إلى ذلك تشكل النساء خمس عدد أعضاء مجلس الشورى تقريباً، غير أنه في الوقت ذاته لا يزال النساء محظور عليهن قيادة السيارات أو حتى الذهاب إلى المستشفى دون إذن من أولياء أمورهن.
كما أنه في مجال حقوق الإنسان بشكل عام، تقول منظمات حقوقية إن المملكة واحدة من أكثر البلدان قمعاً في العالم، فالحركات السياسية ومنظمات حقوق الإنسان محظورة، والاعتقالات التعسفية وسوء المعاملة أثناء التوقيف والاحتجاز أمر شائع، والأطفال عرضة للمحاكمة على جرائم يعاقب عليها بالإعدام لمجرد أنهم بدت عليهم علامات البلوغ، وحينما تنفد من جعبة المسؤولين التهم التي على أساسها يحاكمون النشطاء يعيدون الكرة ويحاكمونهم بنفس التهم تارة أخرى.
معارك خارجية خاسرة
ويرى منتقدو عبد الله أن السياسة الخارجية له هي المجال الأبرز الذي تهاوى فيه نفوذ المملكة بشكل لا يخفى على أحد، بعد أن كانت المملكة تنعم بالنفوذ شمالاً وجنوباً، وكانت إيران -الخصم التاريخي في الإقليم- حينها أكثر انعزالا وانزواء.
بل كانت لعبد الله علاقات طيبة حتى بسوريا، كما كانت مدينة الطائف هي التي شهدت إبرام الاتفاقية بين الأحزاب المتقاتلة حينما انتهت الحرب الأهلية اللبنانية كانت مدينة الطائف السعودية، كما أن كلا من حماس وفتح حينما سعت إلى المصالحة، كانت أولى تجاربهما في مكة المكرمة.
وكنت إذا ما حصلت لك مشكلة في العالم العربي تتوجه نحو السعودية للوساطة في حلها، فقد كان لها أصدقاء في كل ناحية.
خسر 4 عواصم
غير أنه ترك الملك اليوم وقد سقطت أربع عواصم عربية على الأقل سقطت في أيدي الإيرانيين على مرأى ومسمع من الملك عبد الله، وهي: بغداد وبيروت ودمشق إضافة إلى صنعاء.
ويرى دبلومسايون أن عبد الله خسر العراق لصالح الإيرانيين حينما دعم الغزو في عام ٢٠٠٣، وخسر نفوذه في لبنان أثناء حرب عام ٢٠٠٦ بين إسرائيل وحزب الله، بعد أن كان رفيق الحريري، رئيس الوزراء الذي اغتيل، وابنه سعد كلاهما يحملان جوازات سفر سعودية.
كما أنه في خسارة كبيرة فقد نفوذه في حديقته الخلفية، اليمن، حينما تمخض مخطط إماراتي لسحق جماعة الإصلاح الإسلامية عن نتائج عكسية مذهلة، فاتحاً الباب على مصراعيه أمام مليشيا الحوثي المدعومة إيرانياً ولتصبح صنعاء العاصمة العربية الرابعة التي يخسرها عبد الله.
الخطأ الأكبر.. الربيع العربي
وفي ذلك يقول المحلل البريطاني ديفيد هيرست في مقال سابق له: “بكل بساطة.. لقد خاض عبد الله الحروب الخطأ مع الحلفاء الخطأ، وخلف فراغاً بعد كل واحدة منها شكل دعوة مفتوحة لأعداء المملكة الحقيقيين ليدخلوا إلى المنطقة”.
ويعتبر هيرست أن الخطأ الأكبر والتقدير الأسوأ والحسبة الأخسر كان رد فعل عبد الله على الربيع العربي في عام ٢٠١١، والذي تعامل معه آل سعود كما لو كان موجهاً ضدهم شخصياً، لقد هزت أركان كيانهم احتجاجات الثمانية عشر يوماً في ميدان التحرير لأنهم ظنوا أن الدور سيأتي عليهم من بعد. ولذلك اعتبر عبد الله الإسلام السياسي خطراً يتهدد وجوده، وقطع على نفسه عهداً بأن يحاربه أينما تمكن من الوصول إليه.
لقد كانت تكلفة شن هذه الحملة باهظة جداً، فقد خسر عبد الله تركيا، اللاعب المهم الآخر في استراتيجية احتواء إيران، وافتعل مشاجرة مع قطر، التي هددها في لحظة من اللحظات بفرض حصار بري وبحري عليها، الأمر الذي كاد يدمر مجلس التعاون الخليجي، الأداة الأساسية لبسط النفوذ السعودي، ومن خلال سعيه لتدمير الإسلام السياسي تسبب عبد الله في نشأة عدو حقيقي يتمثل في الإسلام التكفيري المقاتل أو ما يسمى بالدولة الإسلامية.
الحلفاء يتساقطون
وبدأ مسلسل التراجع لحلفاء المملكة بينما كانت السعودية تشهد احتجاجات نجح الملك الراحل في إخمادها باستخدام العصا والجزرة، تارة باستخدام القوة الأمنية، وتارة بتقديم الهدايا والامتيازات للمواطنين، إذ تساقط حلفاء المملكة في ثورات عربية تمتد من دولة إلى أخرى، حيث انهار نظام زين العابدين بن علي في تونس، فلم يجد الرئيس الهارب أي دولة تقبل استضافته، وظل عالقاً في طائرته بالجو لسبع ساعات، حتى قرر الملك عبد الله استضافته في قصر بمدينة جدة الساحلية.
ولاحقاً لبن علي انهار الحليف الأهم للسعودية في مصر عندما اضطر الرئيس مبارك إلى التنحي على وقع الهتافات في ميدان التحرير، وبعدها بفترة وجيزة كانت اليمن تشتعل، وكان الحليف التاريخي لآل سعود علي عبد الله صالح ينجو من محاولة اغتيال، لكنه لم ينجح في الإفلات من حمل لقب “الرئيس المخلوع”.
وأمام انهيارات الحلفاء المتوالية كان العدو التقليدي للسعودية، وهو إيران، يتوسع في المنطقة، ابتداء من سوريا والعراق، وأخيراً في اليمن، بينما كان الملك الراحل في غيبوبة بمستشفى في الرياض، كان المد الإيراني يزحف نحو اليمن ليحاصر السعودية من الجنوب، بعد أن أحكم الخناق عليها شمالاً وشرقاً.
ويقول العديد من المراقبين إن ثورات الربيع العربي كانت التهديد الأكبر للنظام في السعودية منذ تأسيس المملكة، إذ حتى عندما دخل نظام صدام حسين إلى الكويت وتوغل في الأراضي السعودية، لم يكن ثمة تهديد جدي بحجم ذلك الذي واجهه النظام السعودي خلال الثورات العربية، لكن الملك الراحل استطاع تجاوز المحنة، والتفوق على مرحلة الخطر، لكنه يغادر المملكة، ولا زالت الأوضاع في محيطها غير مطمئنة.
أزمة نفطية
وبعيداً عن أزمات الثورات ومعترك السياسة، تواجه المملكة أزمة تدهور أسعار النفط التي يبدو أنها أفلتت وانزلقت نحو الأسفل، إذ هبطت أسعار الخام خلال ستة شهور فقط بأكثر من 60%، وهو ما يبدو أنه سيتسبب للمملكة، وهي أكبر منتج للنفط في العالم، بأزمة اقتصادية خانقة خلال العام الحالي.
وتنتج السعودية نحو 10 ملايين برميل نفط يومياً، كما أنها أكبر منتج للنفط في العالم، فضلاً عن أنها تمتلك الاحتياطي الأكبر في الكون من الذهب الأسود، لكن الأهم من ذلك كله أن الاقتصاد السعودي يعتمد بأكثر من 90% منه على النفط، أي إنه اقتصاد نفطي بامتياز، وهو ما يعني أنه سيخرج خاسراً خسارة حادة من جراء التدهور الكبير في أسعار النفط.