يحق لك في الولايات المتحدة الأمريكية الإساءة للأديان، ولكن لا يحق لك أن تنتقد إسرائيل! ولو أسأت للأديان فسوف يمر الأمر مرور الكرام، ويعتبر ما قلته “حرية تعبير”، أما لو انتقدت إسرائيل، فسوف يعتبرون هذا “جريمة”، وقد تُتهم بمعاداة السامية وتفقد عملك؛ حتى ولو كنت كبير المذيعين بقناة “سي إن إن” وعملت هناك 34 عامًا، ولن يشفع لك حتى إن كنت عميد الصحفيين بالبيت الأبيض، وقضيت في هذا المنصب 67 عامًا من أيام الرئيس كنيدي!
هذا ما حدث لـ”جيم كلانسي”، المذيع الشهير الذي يقدم برنامج ”The Brief” على شبكة “سي إن إن” الأمريكية منذ 34عامًا، لمجرد أنه قال إن: “الدعاية الإسرائيلية تتحمل جزءًا من مسؤولية الهجوم على مجلة شارلي الفرنسية“.
وهو ما عانت منه أيضًا “هيلين توماس”،عميدة صحفيي البيت الأبيض عام 2010، بسبب تصريحات قالت فيها إن فلسطين محتلة، وعلى الإسرائيليين العودة للبلدان التي قدموا منها في أوروبا، ما اعتبر جريمة ضد إسرائيل اضطرتها -تحت الضغوط- للاستقالة حتى توفيت العام الماضي.
فالخارجية الأمريكية قالت إنها تدعم حق “شارلي” تمامًا في نشر صور للنبي محمد، في عددها الأخير، رغم احتجاج بعض المسلمين، ونائبة المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، ماري هارف قالت: “إننا ندعم تمامًا حق شارلي إيبدو في نشر أشياء مثل هذه“.
ولكن عندما هاجم رسامو كاريكاتير مصريون قادة إسرائيل، خصوصًا شارون لزيارته مصر، في صور هزلية كمجرم حرب، وانتشر الهجوم على إسرائيل بعبارات مثل: “الجهاد.. أقوى مبيد للحشرات الإسرائيلية“، لم يمنع هذا الرئيس الأمريكي السابق “جورج بوش” أن يوقع قانونًا في 16 أكتوبر 2004 يلزم وزارة الخارجية برصد وإحصاء الأعمال المعادية للسامية في العالم وتقويم مواقف الدول من هذه الأعمال!
المذيع “كلانسي”، الذي عمل مع “سي إن إن” لمدة 34 عامًًا، كتب في حسابه على تويتر عقب الهجوم على شارلي مباشرة، يقول إن: “الرسوم الكاريكاتورية لم تسخر من النبي محمد، وإنما سخرت من الذين يحاولون تشويه كلامه، انتبهوا“، وفي تغريدة لاحقة له، قال “كلانسي” إن: “الدعاية الإسرائيلية تتحمل جزءًا من مسؤولية الهجوم“.
ولاحقًا أغلق “كلانسي” حسابه على تويتر ثم أعلن استقالته أو”إقالته”، ولم يذكر “كلانسي” لدى إعلانه استقالته إن كان الأمر يتعلق بتغريداته على موقع تويتر أم لا، ولكن الأمر لم يكن يحتاج لتخمين في ظل سوابق قديمة حدثت لكل من هاجم إسرائيل من الإعلاميين الأمريكيين؛ وكان مصيره التشويه والطرد من عمله بعد ضغوط قوية للوبي الصهيوني.
“كلانسي”، كان يقدم برنامج ”The Brief” على القناة طوال 34 عامًا، وشارك خلال حياته المهنية في تغطية أحداث عالمية هامة: كحرب الخليج، وسقوط جدار برلين، ومع هذا أطاحت به شبكة “سي إن إن” بسبب التغريدة التي اعتبرت انتقادًا لإسرائيل، في الوقت الذي صمتت فيه الشبكة الأمريكية وغيرها من القنوات على الهجوم على الإسلام والمسلمين على خلفية الهجوم على مجلة شارلي إيبدو الفرنسية الساخرة.
حرمة الأديان وقداسة الأنبياء، لا تعتبرها الشبكات الغربية من حرية التعبير، فقد تقبلت الشبكة نشر الرسوم الساخرة التي تسيء للرسول الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكن انتقاد إسرائيل ولو في إطار “التلميح” اعتبر من الخطوط الحمراء التي يقال في سبيلها المراسلون أو المذيعون إذا أقدموا على انتقاد الاحتلال وممارساته وجرائمه.
وإحدى الجوائز التي حصل مقدم البرنامج عليها هي “جورج بولك” الشهيرة، لتقارير أعدها عن مجازر لواندا بإفريقيا، كما حصل على جائزة “دوبون كولومبيا” الدولية، عن تغطيته المميزة للحرب في البوسنة، وأيضًا على جائزة “إيمي” الدولية، عن تقاريره حول المجاعة بالصومال والتدخل الدولي فيها الصومال.
“حثالة” المستوطنين
وسبق لشبكة “سي إن إن” الأمريكية أيضًا أن عاقبت المراسلة “ديانا ماغني” أثناء الحرب الأخيرة على قطاع غزة، بعد أن أعربت عن استيائها من ممارسات المستوطنين الإسرائيليين ووصفتهم على صفحتها على تويتر بالحثالة.
وكانت “ديانا ماغني” تصور تقريرًا من تل، بالقرب من بلدة سديروت الإسرائيلية القريبة من قطاع غزة، حيث كانت مجموعة من الإسرائيليين تهلل لبداية الغزو البري لغزة.
وبينما كانت الصواريخ تطلق على المدنيين في غزة، سمع المشاهدون صوت تصفيق الإسرائيليين، ولاحقًا ظهرت على حساب “ماغني” بعد ذلك الرسالة التالية: “لقد صفق الإسرائيليون على التلة بالقرب من سديروت عندما سقطت القنابل على غزة وهددوا بتدمير سيارتنا في حال وقعت بأي خطأ في وصف هذا الأمر.. إنهم حثالة“.
ومع أن هذه المراسلة قامت بسرعة بحذف الرسالة، إلا أن مئات المستخدمين كانوا قد أضافوها إلى صفحاتهم المفضلة، لذلك قررت إدارة القناة نقلها إلى موسكو بعد إثارتها موجة من السخط في صفوف المستوطنين الذين شككوا بشأن قدرتها على تغطية الأحداث بموضوعية في غزة، بحسب قولهم.
الإطاحة بعميدة مراسلي البيت الأبيض
حادثة “كلانسي” ليست الأولى في الإعلام الغربي، فقد سبق أن أطاحت مؤسسة “هيرست كورب” بعميدة مراسلي البيت الأبيض والصحفية المخضرمة “هيلين توماس”، 90 عامًا، بعد تعرضها لانتقادات بسبب تصريحات أدلت بها ضد إسرائيل، طالبت فيها الإسرائيليين بالخروج من فلسطين لأنهم هاجروا إليها، وقالت لهم: “تذكروا هؤلاء الناس (الفلسطينيين) الذين يقبعون تحت الاحتلال وتلك هي أرضهم، وليست أرض ألمانيا أو بولندا“.
عميدة صحفيي البيت الأبيض، هيلين توماس، أقيلت من منصبها بعد زوبعة إعلامية ضدها بسبب تصريحات لها ضد إسرائيل، وقبل أشهر من احتفالها بعيد ميلادها الـ90، وهي تحتفل مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي تشترك معه في نفس يوم الميلاد وهو 4 أغسطس.
وجاءت استقالة “توماس” بعد يوم من اعتذارها الرسمي عن تصريحات أدلت بها يوم 27 مايو 2010 حول إسرائيل، معتبرة فيها الإسرائيليين محتلين وعليهم الخروج من فلسطين، وردًا على سؤال طرحه عليها صحفي خلال خروجها من حفل في البيت الأبيض للاحتفال بالإرث اليهودي -الأمريكي، أشارت توماس إلى الفلسطينيين قائلة: “هذا شعب محتل، وهي أرضهم، ليست ألمانيا أو بولندا“. وأضافت أن عليهم (الإسرائيليين) “العودة إلى أوطانهم”، وعندما سألها الصحفي ما هي أوطانهم، أجابت: “بولندا وألمانيا والولايات المتحدة وكل مكان آخر”.
وسجل الصحفي تصريحات توماس بكاميرا فيديو بسيطة ونشرها على مواقع إلكترونية عدة، وأدت إلى انتقادات من مسؤولين ومعلقين في الولايات المتحدة، وانتشر الشريط التسجيلي على مواقع إخبارية أمريكية ومواقع لمؤسسات يهودية وإسرائيلية، فبدأت حمل انتقادات وشتائم ضد توماس بالإضافة إلى تصريحات مناصرة لها.
وعندما انتقدها الناطق باسم البيت الأبيض روبرت غيبس، وقال إن تصريحاتها “مسيئة وتستحق التوبيخ وأنها لا تعكس رأي الإدارة الأمريكية“، أعلنت مجموعة “هيرست” أن توماس استقالت، لتفقد المقعد الأمامي في قاعة البيت الأبيض الذي كان دومًا محجوزًا لها؛ تقديرًا لتاريخها الطويل في البيت الأبيض.
واعتذرت توماس في بيان على موقعها الإلكتروني لاحقًا قائلة: “إنني نادمة بعمق بسبب التصريحات التي أدليت بها الأسبوع الماضي حول الإسرائيليين والفلسطينيين“، وأضافت أن تلك التصريحات: “لا تعكس إيماني العميق بأن السلام سيأتي إلى الشرق الأوسط فقط عندما تقر كل الأطراف بأهمية الاحترام والتسامح المتبادل“.
إلا أن اعتذار توماس لم يكن كافيًا لكبح سيل الانتقادات الموجهة لها، بعدما قاد اليهودي “آري فليشر”، الناطق السابق باسم الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، الحملة ضد توماس مطالبًا بفصلها، واتهم فليشر في مقال رأي على موقع “هافينغتون بوست” توماس بأنها تطالب بالتطهير الديني.
وقال: “لو كان صحفي أو كاتب مقال قال الأمر نفسه حول السود أو الأمريكيين من أصول إسبانية لطرد من عمله.. كيهودي وكشخص كان يعمل معها وكان يحبها، أجد هذا الأمر مروعًا“.
ويذكر أن أصل توماس لبناني، حيث هاجر والدها نهاية القرن الـ19 إلى الولايات المتحدة من لبنان، وعرفت توماس بمواقفها المناصرة للسلام وجرأتها في طرح أسئلة صعبة.
عادل القاضي – التقرير