«لأن العالم مغمور إلى حد كبير في وسائل الإعلام الاجتماعية والرقمية، فقد أصبح حكام الإمارات يناضلون في اعتقال وترحيل الناس بسبب تعبيرهم عن آرائهم، وكأحد ضحايا هذه الحملة، أدركت في الأونة الأخيرة سبب تصنيف حرية التعبير كجريمة وتهديد للبلاد»
كانت هذه كلمات الصحفي الأوغندي «ياسين كاكاندي» الذي عمل عشر سنوات في أبوظبي، انتهت بترحيله بمجرد تسطيره لكتاب يدافع فيه عن حقوق العمالة الوافدة، والتي سماها «المهاجرة» وتطرقه لآليات الرقابة المعمول بها في وسائل الإعلام المسماة بالوطنية. لم يشفع عمله بإحدى الصحف الإنجليزية منذ تأسيسها قبل عشر سنوات في أبوظبي من في استيعاب أو احتواء رأيه. حيث يبدو أن ضيق صدور حكام الإمارات بحرية التعبير قد اتسع ليشمل غير الإماراتيين الذين صاروا يودعون السجون بجرائم الرأي، فإلى نص المقال الذي نشره «ياسين كاكاندي» بمجلة ميدل إيست مونيتور .
أوضاع مقلقة
بالتأكيد فإن الحقائق التي تحيط بالربيع العربي قد هزت حكام الإمارات الذين كانوا قد اتخذوا نهجاً مسبقاً أقل عدائياً مقارنة بجيرانهم في دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أنهم كانوا يقظين وحذرين دائماً لاختصاصات الحفاظ على الموقف القمعي الذي كان قائماً بشكل دائم، ورغم غياب تلك الانتفاضات المنسقة في بلدانهم، فقد قرر هؤلاء الحكام اتخاذ حكم وقائي صارم أملاً في تجنب العلاج الذي يمكن أن يطلق العنان لحركة ديمقراطية جديدة.
فالتعبير عن الرأي في مكانٍ عام أو خاص قد يصل إلى حد جريمة يعاقب عليها القانون، مع عقاب يتراوح بين السجن دون محاكمة إلى الترحيل الفوري. والأخيرة هي العقوبة التي كانت من نصيبي وذلك بسبب نشري لكتاب يدعو إلى الاهتمام بالحالة المزرية التي يعاني منها العمال المهاجرين في الإمارات. ويعد هؤلاء العمال الأكثر حرماناً في المنطقة، إن لم يكن في العالم بأسره. لقد أجبرت على مغادرة المكان الذي ظليت أسميه بوطني الأم لمدة عشر سنوات، ومع هذا كنت ضحية من جملة الضحايا الذين عانوا ما يشبه تلك المعاناة أو حتى مصيراً أسوأ من ذلك بكثير.
يقبع الكثير من المثقفين والصحفيين والحقوقيين وأساتذة الجامعات وغيرهم في مراكز اعتقالات مجهولة، ويحرمون من حقوقهم القانونية المتمثلة في إجراء محاكمات عادلة لهم، بالإضافة إلى حرمانهم من التواصل مع أسرهم، وكل ذلك بسبب التعبير عن الآراء التي إما تكون مضادة للخطاب الرسمي، أو تكون كاشفة بشكل نقدي عن حقائق السياسات المتبعة من قبل الدولة.
فعالم المباح في الإمارات – كما في العديد من الملكيات الفاشستية الأخرى – لا هو مقنن ولا هو واضح، ويعد الغموض جزء لا يتجزأ من استراتيجية إسكات ومعاقبة المخاطرين. وأما بالنسبة للصحفيين، فقد توسعت مخاطر إعداد الأخبار من الفضائح التي تشمل الكثير من أفراد الأسرة الحاكمة، سواء من آل نهيان أو آل مكتوم أو آل القاسمي، إلى أوسع من ذلك، لتشمل أموراً أكثر حساسية من الناحية السياسية، مثل أمور الهجرة الهامة والتدخل الأجنبي في الصراعات الجيوسياسية. منذ ثورات الربيع العربي في عام 2011، ظهرت قائمة من الموضوعات التي لا يمكن معالجتها، ومسؤولي أمن الدولة هادئين من ناحية أخرى، وقد بدت الإمارات مستقرة منذ القبض على 94 شخصاً بتهمة التخطيط لقلب نظام الحكم في الإمارات.
نماذج متكررة
لما نال الظلم والفساد المتأصل في النظام القانوني الإماراتي المزيد من الاهتمام من المجتمع الدولي، زاد تعصب نقاشات النظام بشأن السجناء السياسيين. بالنسبة للصحفيين، فإن الكتابات أو المدونات التي تتحدث عن السجناء السياسيين تجعلهم أكثر عرضةً للاعتقالات وعمليات الترحيل، بما في ذلك الإماراتيين الأصليين. كان من بين المعتقلين صحفيين إماراتيين أمثال «وليد الشحي» و«عبد الله حديد»، مع زملائهم المغتربين «أنس فوده» من قناة إم بي سي و«محمد علي موسى» من الخليج، و«أحمد جعفر» الذي كان يعمل بصحيفة الاتحاد العربية اليومية المملوكة من قبل أبوظبي للإعلام، والتي تملك أيضاً الصحيفة الوطنية التي عملت فيها أنا سابقاً.
بالإضافة إلى هؤلاء الصحفيين، فقد استُهدف أيضاً ناشطين كانوا يقومون بالتغريد أو التدوين عن محاكمات «الإماراتيين الـ 94». اعتقل «هيثم جاسم» و«خليفة ربيعة» واحتجزوا في سجن انفرادي بسبب انتقاداتهم لسير المحاكمات على صفحات «تويتر». كان «أسامة حسين النجار» آخر من اعتقل، وقد تم اعتقاله وتعذيبه والحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات بالإضافة إلى غرامة مالية قدرها 500.000 درهم إماراتي بتهمة تغريدات كان يكتبها دفاعاً عن والده «حسين النجا»ر، وهو من بين الـ 94 المتهمين بالخيانة العظمى في القضية الشهيرة..
لقد أصبح من الصعب كتابة تقارير عن تورط الإمارات في الشؤون الدولية لأن النظام يشدد الخناق على المواد الإعلامية التي تعد سلبية بالنسبة له. وقد توارى توثيق تورط النظام الإماراتي في تمويل بل وحتى في تأجيج الصراعات المختلفة في البلدان العربية الأخرى وأفريقيا. ففي شهر أغسطس، قامت الإمارات سراً بقصف أهدافاً في ليبيا، دون علم حلفائها الأمريكيين على ما يبدو. وبشكل مماثل شاركت في الانقلابات والاضطرابات التي حدثت في كل من مصر واليمن ومالي والصومال والعراق وسوريا.
ويعتقد الحكام أن بمقدورهم تنفيذ هذه التدخلات العسكرية بنفس التوقعات السرية المتطلبة في الشئون الداخلية. في حين تبدأ هذه الدولة الخليجية الصغيرة اللعب بدور أكبر مما ينبغي لها أن تلعبه – عسكرياً ومالياً ودبلوماسياً – ففي أماكن الاضطرابات هذه، يجد مواطنيها والمقيمين الأجانب أنفسهم مقيدين بشكل متزايد، مع صوت سياسي ضئيل وليس لهم الحق في تقديم آرائهم بأي وسيلة كانت. وهذا ما حدث مع «إياد البغدادي»، مدون وصحفي شعبي في الربيع العربي، في أحداث شهر إبريل من العام 2014. حيث تم اعتقال وسجن وترحيل« البغدادي» رغم ولادته ونشأته في الإمارات. وهو الآن غير قادر على العودة حتى إلى فلسطين، التي تعد مسقط رأس والديه، بسبب الاحتلال الإسرائيلي وهو حالياً في ماليزيا منذ أن تم طرده البلاد.
وكما هو الحال في جميع شؤون الدولة، فإن النظام لا يقوم بمشاورة وإطلاع المواطنين الإماراتيين بالقرارات السياسية التي يتخذها، مثل تدخلاته الإقليمية المختلفة التي ظهرت على السطح في الأشهر القليلة الماضية. ومع ذلك، كثير من المواطنين يشعرون بالقلق إزاء الكيفية التي يتم بها تشويه صورة الإمارات الرائعة. مواقع التواصل الاجتماعي تحفل بمناقشات حول ثروة الإمارات التي أصبحت الآن لعنة لجيرانها العرب الأكثر فقراً.
تغير في السياسة
الكثير من الناس يقارنون بين حكام الإماراتيين العدوانيين وبين رئيس البلاد الأول، الشيخ «زايد بن سلطان آل نهيان»، الذي قاد البلاد المسالمة في الغالب وكان يتخذ الطرق الدبلوماسية نهجاً لإنهاء الصراعات الإقليمية كما حصل في حرب الخليج في عام 1990. ويُذكر الشيخ «زايد» بنداءاته الشخصية للمجتمع الدولي لرفع العقوبات المفروضة على العراق بعد مشاهدته تلك الأمراض الخطيرة وسوء التغذية التي انتشرت في أوساط أطفال العراق. وعلى النقيض، فقد ساهمت سياسات الحكام الجدد في معاناة الناس في المنطقة ابتداءاً من ليبيا وانتهاءاً بسورية.
هذا العام، كان مصير الرئيس الحالي وخلافته تعد قضية حساسية سياسية كبيرة بالنسبة للنظام. في شهر يناير عام 2014، ألمح مسؤولون في النظام بأن الرئيس «خليفة بن زايد» كان يتعافى من إصابة، إلا أنه اختفى عن أعين الناس منذ ما يقارب العام. يبدو أن «محمد بن زايد»، الأخ الأصغر وولي العهد، هو القائم بمهام الرئيس. في أعقاب غلطة نائب الرئيس الامريكي «جو بايدن» الأخيرة – اتهام الإمارات بالدعم المالي للمتمردين الذين ذهبوا إلى تشكيل الدولة الإسلامية – كان جديرا بالذكر أن «بايدن» لم يعتذر للرئيس خليفة ولا لنائب الرئيس أو رئيس الوزراء، إلا أنه بدلاً من ذلك اعتذر لـ«محمد بن زايد»، الذي يشغل منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة الرسمي.
وقد حاول البعض من خارج الإمارات تعبئة الفجوة المعلوماتية الحاصلة على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» من خلال نشر معلومات غير مؤكدة عن الحالة الصحية للرئيس والتي تتعارض مع ما تقوله الحكومة. وبالطبع، فإن هذه التكهنات يعززها صمت الدولة المستمر وحقيقة رفض «محمد بن زايد» لتلك الشائعات من خلال الصحف الحكومية. وقد قام أفراد بنشر معظم تلك التكهنات على موقع «تويتر» دون دليل يؤكد ذلك، وكان هؤلاء الأفراد يوحون بأن انقلاباً داخلياً كان قد حدث وأن «زايد» قد ألقى القبض على شقيقه الأكبر واستولى على الحكم. ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن يخاطر ويطلب من ولي العهد تأكيد أو إثبات تلك التصريحات. في مثالين، تشير هذه التقارير غير المؤكدة أنه تم تهميش الرئيس عمدا أو، كما توحي الأمثلة، أن الشيخ «خليفة» تم خلعه أو اعتباره رئيساً سابقاً.
أيضاً توثيق سوء المعاملات التي يتعرض لها العمال المهاجرون في الإمارات يقلق النخبة الحاكمة، بسبب تأثيراتها على الاقتصاد السياسي. وأي محاولة لإثارة نقاش موضوعي أو إجراء تحقيق فيه يؤدي إلى ترحيل فوري بالنسبة للصحفي. لست الوحيد الذي طرد من البلاد بسبب تغطيته للعنف والاستغلال – ابتداءاً من العمل غير المأمون وغير المنظم ومروراً، بالسكن غير اللائق وعدم دفع الأجور وانتهاءاً إلى الاغتصاب والتعذيب والقتل – التي ينبغي أن يناضل من أجلها العمال المهاجرين في الإمارات. «شون أودريسكول»، وهو كاتب عمود لصحيفة نيويورك تايمز، تم اعتقاله وترحيله بسبب قصة أجرى حولها تحقيقاً بشأن محنة العمال في حرم جامعة نيويورك في أبوظبي. في ذلك اليوم قامت الإمارات بإلغاء نشر الطبعة المحلية في البلاد حتى لا يتمكن الجمهور من الوصول إلى مقالة «أودريسكول». قام المراسل بنشر رسالة على الفيسبوك في الوقت الذي كانت فيه الأحداث تتطور: «تم اعتقالي فور وصولي دبي. حالياً أنا مرحل لأني أشكل تهديداً أمنياً لدولة الإمارات. إنه مزيج من الشعور بخيبة الأمل والفخر».
مجموعة ضئيلة من القصص التي تصف جهود العمال المهاجرين التي بذلوها في التنظيم والدفاع عن حقوقهم أفضت إلى السجل العام، إلا أن الكثير لا يبلغون عنها. ودون استثناء، تمر هذه التقارير بنفس أسلوب الإجراء من قبل النظام: الاعتقال والترحيل الفوري بالنسبة للصحفيين. تم استدعاء زميل فلسطيني من قبل مسؤولي الهجرة الإماراتية قبل أن توشك تأشيرته على الانتهاء وقيل له أن تأشيرته لن يتم تجديدها. وأنا لم أبح بهويته أو تفاصيل أخرى قابلة للاكتشاف. تم طرد مراسل مصري آخر يعمل في الاتحاد دون سابق إنذار بعد أن وجدت شرطة عجمان أنه تم نشر قصصه قبل أن تقوم السلطات بمراجعتها.
رشاوى وأزمة في المصداقية والنزاهة
هناك أزمة مؤسسية ضخمة في الإمارات حينما يتعلق الأمر بالمصداقية والسمعة. سعت النخب الحاكمة في دولة الإمارات إلى توسيع الرقابة على المطبوعات والضبط المسبق والقمع الفوري، مما يؤثر ليس على الأفراد فحسب، وإنما على صناعة الإعلام برمته في البلاد. ومما يزيد هذا، أن الانصاف القانوني يصبح أكثر صعوبة للحصول عليه لأنه يتم تقييد السلطة القضائية بشكل فعال وذلك بسبب الضغوطات التي تمارسها النخبة الحاكمة.
تحرص الإمارات بشكل مقلق على تعريض مصداقية وسائلها الإعلامية للشبهة، في حين تبدء استعدادها في الوقت نفسه على التواصل مع الدول ووسائل الإعلام الصديقة لترسيخ القصص التي غالباً ما تصل إلى أكثر بقليل من استخراج نسخ مطابقة من الدعاية التجارية مع بعض التعزيزات الصحفية غير الحرجة، الإمارات قد أنجزت جدول أعمال علاقاتها العامة بالتحايل بهدف التنافس الإيجابي على الصحافة الدولية ضد منافسة جارتها قطر. كما يأتي الصحفي الأجنبي إلى الإمارات مثاراً بالواقع الرأسمالي المفرط لمناصرة الآراء التي تدعم الوضع القائم هناك.
يمكن للمرء التعرف بسهولة على المراسل الذي من المرجح أن يكون قد تم استقطابه إلى حد ما، وبعضها أكثر وضوحاً من غيره، ويبدو أنها سلوكيات متعارف عليها في المجتمع، ويتم التعامل معها بلا مبالاة. والحقيقة هي أن قلة من المواطنين في البلاد يهتمون بالقراءة أو يعتبرون وسائل الإعلام المحلية مصادر إعلامية خطيرة. وتعرف النخب الحاكمة ذلك جيداً، لأنهم يحاولون التواصل مع القنوات الإعلامية الخارجية، من هي الوسائل الإعلامية الموثوقة والمحترمة، ولكن أيضاً من أولئك القابلين لأن يتم إغواءهم بفكرة تحمًل تقارير من دولة الإمارات دون التدقيق فيها كما ينبغي من أجل سياق دقيق وتمثيل عادل للحسابات الفعلية. بالطبع، كل هذه الأسئلة تحتاج إلى تدقيق، والمرء يأمل من خلال صحفيين شجعان بما فيه الكفاية بأن يسلط الضوء على هذه النتائج، وهذا سيشجع الآخرين على توسيع أعمالهم الاستقصائية.
ترجمة: الخليج الجديد