في صباح يوم شتائي من عام 2012 وبينما كان المستشار «ف. ر» يستعد للذهاب إلي عمله بمحكمة رأس الخيمة، تلقي اتصالا هاتفيا من إدارة التشريفات بقصر «سعود القاسمي» حاكم رأس الخيمة يطالبه بالحضور للقصر لأمر هام، وقبل أن يسأل المستشار الذي يشغل رئيس محكمة استئناف عن سبب الذهاب لقصر الحاكم، انقطع الاتصال، ولأن الرجل ذو باع طويل في القانون فقد توجه بحسن نية ظناً منه أن الدعوة من أجل استشارة قانونية.
ركب المستشار سيارته وتوجه مباشرة إلي القصر، وعلي البوابة أبلغ الأمن بشخصيته فاصطحبه أحدهم إلي مجلس الشيخ «سعود» عضو المجلس الأعلى وحاكم إمارة رأس الخيمة، حيث كان في انتظاره مع المستشار «أحمد الخاطري» رئيس دائرة المحاكم وبعد الترحيب والقهوة أبلغه الشيخ «سعود» بالأمر «صدرت أوامر من أبوظبي بإنهاء خدماتك، نحن آسفون جدا، الأمر خارج عن إرادتي، ولو كان الأمر بيدي ما فعلتها أبدا، نحن نكن لأهل القضاء في مصر معزة خاصة»، وقبل أن ينتهي الشيخ «سعود» من إبلاغ الأمر ابتسم المستشار، وهو بالمناسبة عضو بارز في تيار الاستقلال المصري الذي أسسه نخبة من أصحاب المقام الرفيع في تسعينات القرن الماضي، وقال: كم من الوقت أمامي لترتيب أوضاعي قبل العودة إلي مصر؟، أجابه الشيخ: «أمامك أسبوع لإنهاء الإجراءات، فرد المستشار: لتكن عودتي إلي مصر خلال 48 ساعة نشكر لكم طيب الأخلاق والحفاوة التي استقبلني بها أبناء الإمارات يوم قدمنا من مصر للعمل في القضاء».
ونهض المستشار وودع الشيخ ومضيفه، ثم توجه إلي مكتب السفريات لحجز تذكرة العودة، وبعد 48 ساعة فعلا كان «ف.ر» في القاهرة وكتب علي صفحته «عدنا والعود أحمد، الحمد لله .. أنا في قاهرة المعز» .. تلك كانت قصة إبعاد مستشار بدرجة رئيس محكمة استئناف من الإمارات بعد الثورة، ولم يكن هو الإبعاد الأخير.
وإذا كان المستشار «ف. ر» مدافع صلب عن حقوق الإنسان، وله مواقف مشرفة في مجال الحريات ويكتب مقالات في الصحف السيارة يدافع فيها عن القيم التي يؤمن بها، فإن آخرين لا علاقة لهم بالسياسة ولا يحملون أي انتماء أيدولوجي قد غادروا الإمارات بطريقة غير لائقة بعد الثورة المصرية، دون أن توضح السلطات في «أبوظبي» أسباب الإبعاد، فخلال نفس العام انتقل عدد كبير من القضاة من أبوظبي ورأس الخيمة إلي القاهرة بعد أن رفضت السلطات الإماراتية تجديد تعاقداتهم.
في نفس الشهر انتهت فترة إعارة المستشار «ب.ع» والذي كان يشغل منصب رئيس محكمة الجنايات برأس الخيمة، وأبدى الرجل رغبته في الاستمرار لعامين آخرين وعرض الأمر علي رئيس دائرة المحاكم، إلا أن طلبه قوبل بالرفض حيث كانت الإمارات قد عقدت النية علي ذبح القضاة المصريين واستقدام آخرين من تونس والأردن وفلسطين.
نفس الأمر تكرر مع المستشار «ي. ج» رئيس محمة التمييز «النقض»، والمستشار «ن. د» نائب رئيس محكمة التمييز، والمستشار الدكتور «أ.ص» وآخرين قضوا في الإمارات سنوات أسسوا خلالها محكمة التمييز وأرسوا قواعد قانونية وأحكاماً باتت نصوصا قانونية فيما بعد .
لكن قصة المستشار «حمدي الشيوي» التي نشرها علي صفحته علي موقع التواصل الاجتماعي، أكدت أن روحا انتقامية تسود في أبوظبي الآن ضد القضاة المصريين الذين قدموا الكثير للإمارات، حيث على صفحته على «فيس بوك» سطورا وصفها بـ«مأساة مستشار قضائي مصري» جاء فيها: «هذه السطور تروى مأساة مستشار قضائى مصرى أنهت الإمارات العربيه المتحدة عمله بعد 22 عاما من العمل والاجتهاد، إلى أن وصل إلى مكانة لم يصل إليها من المصرىين إلا قليل فى تاريخ دولة الامارات، ولأن إهدار الكرامه فى مصر بات فعلاً يوميا فما المانع أن تقوم دول عربية بإهدار كرامه المصري».
أعير «الشيوي» للعمل بالإمارات في الثمانينات وبعد انتهاء فترة الإعارة صدر له من ولي عهد دبي في عام 1991 ترخيصاً للعمل في المحاماة والاستشارات القانونية .
وطيلة تلك السنوات والمستشار يباشر مهنة المحاماة من خلال مكتبه المذكور بإمارة دبي بكل أمانة وشرف، وكل ثلاث سنوات تجدد إقامته لدى إدارة الإقامة وشئون الأجانب، ولدى انتهاء إقامة المدعي في 1/8/2013 تقدم بأوراقه إلى إدارة الإقامة بدبي لتجديد إقامته، ولما طال أمد الانتظار أبلغته إدارة الإقامة بدبي أن إقامته مرفوضة من الجهة الأمنية.
وكتب المدعي إلى كافة الجهات المختصة والمعنية في دولة الإمارات العربية المتحدة يرجوها على الأقل تأجيل قرارها سنة واحدة حتى يرتب قضايا مكتبه إذ أن المكتب به قضايا كثيرة جنائية ومدنية وتجارية، وهو مكتب ظل مفتوحا اثنين وعشرين عاما بدبي إلا أن إدارة الإقامة رفضت كل رجاء له، وأصرت أن يغادر المدعي دولة الإمارات .
وأقام «الشيوي» دعوى قضائية أمام محكمة دبي الدعوى رقم 40 لسنة 2013 مستعجل دبي ضد إدارة الإقامة بطلب إلزامها بتجديد إقامته إلا أن السلطات الأمنية أصدرت قرار الإبعاد بعد أخذ بصمة العين، قبل أيام من نظر الاستئناف الذي تقدم به، كما لم تجدي مبادرة «الشيوي» بالاتصال والكتابة إلى قنصل مصر وسفيرها في أبوظبي إلا أنهما لم يحركا أيضا ساكنا أيضاً، رغم أن ما ارتكبته دولة الإمارات في حق المدعي يشكل فعلا تقصيريا ومسئولية مدنية طبقا لنص المادة 282 من قانون المعاملات المدنية الإماراتي التي تقضي بأن «كل خطأ سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض».
تلك كانت قصص لقضاة ورجال قانون مصريين أبعدتهم السلطات الإماراتية قسرا دون أن تمنحهم فرصة ترتيب أوضاعهم، فقد أصاب الربيع العربي مفاصل سلطات أبوظبي بما يشبه الجنون وبات كل عربي مهما كان منصبه معرضا للترحيل أو الإبعاد بعد أخذ بصمة العين، وهو إجراء لا تجرؤ الإمارات علي اتخاذه مع عامل أوروبي حتى لو ارتكب جرائم بحق المجتمع.
الخليج الجديد